“سيدتي الجميلة” مسرحية “بيغماليون” في اقتباس مسرحي رغما عن مؤلفها

في العام 1964، حين عرض الفيلم البديع “ماي فير ليدي” (سيدتي الجميلة)، الذي حمل ذلك العنوان الذي سيدخل العقول والقلوب من حينها محدثاً تجديداً أساسياً في الفن السينمائي القائم على المسرح الاستعراضي، لم يتنبه كثيرون من الذين شاهدوه في أنحاء العالم، أنه مأخوذ في الأصل عن مسرحية لجورج برنارد شو هي “بيغماليون”، لا علاقة لها أصلاً بالغناء والموسيقى، ولم يكن بإمكان أحد أن يتوقع حين شاهدها باكراً أنها يمكن أن تتحول إلى ذلك العمل الاستعراضي الساحر.

في المقابل كان كثيرون يعرفون أن الفيلم ليس مقتبساً عن المسرحية بصورة مباشرة، بل عن استعراض مسرحي من النوع المسمى “كوميديا موسيقية”، كان قد سحر نيويورك وبرودواي، خصوصاً قبل ظهور الفيلم بثمانية أعوام، حين انفجر كالقنبلة هذا النوع الفني لينتقل إلى لندن وباريس ثم إلى مدن كثيرة أخرى في العالم ويقدم بلغاتها، لكن غالباً بالإنجليزية، حتى قبل أن يستعاد المشروع السينمائي المتعلق به.

نقول يستعاد لأن هوليوود كانت منذ ثلاثينيات القرن العشرين قد حاولت تحقيق فيلم عن المسرحية، لكن الرفض القاطع جاء يومها من شو نفسه، بل إنه شدد بصورة خاصة على رفض فكرة تحويل مسرحيته إلى مسرحية استعراضية، لمجرد أن تجربة كانت قد حققت في فيينا قبل ذلك لتحويل مسرحيته “الأسلحة والإنسان” إلى استعراض مسرحي، فشلت وأعلن هو أنه غير قادر على تحمل فشل آخر.

وعاد المشروع إلى الحياة

وهكذا كان على برودواي أن تنتظر رحيل الكاتب الإيرلندي الكبير في العام 1950 لتعود إلى مشروع “بيغماليون” في المسرحية الاستعراضية التي ستعرض للمرة الأولى في مارس (آذار) 1956 محققة ذلك النجاح الأسطوري الذي حرك هوليوود للتثنية على المسرحية الاستعراضية بذلك الفيلم الكبير.

نعرف أن الفيلم قد انطلق من الإعداد المسرحي، نصاً وموسيقى، الذي كان آلان جاي ليرنر وفردريك لوي قد اشتغلا عليه طوال سنوات قبل ذلك. ولعل من الجدير ذكره هنا هو أن الفيلم قد استعاد معظم ما في المسرحية الموسيقية من أغانٍ ورقصات ومواقف، مع استثناء أساسي، فحواه أنه في مقابل ركس هاريسون، الذي لعب دور مستر هيغنز في المسرحية كما في الفيلم، استعاض الفيلم عن الفنانة التي قامت بالدور في المسرحية الاستعراضية، جولي أندروز بالرائعة أودري هيبورن، إذ حكمت هوليوود على أندروز بأنها “لا تنفع للسينما”.

ونعرف على أية حال بأن أندروز قيض لها أن “تثأر” لنفسها ما لا يقل عن مرتين بالنسبة إلى ذلك الاستبعاد الذي رأته، ورآه كثر معها، ظالماً بما فيهم أولئك الذين عرفت أودري هيبورن كيف تترك مكاناً هائلاً في أفئدتهم.

ففي فيلمين موسيقيين تاليين لن يقلا جمالاً ولا نجاحاً عن “سيدتي الجميلة”، مثلت أندروز وغنت بنفسها، محققة نجاحين أسطوريين يضاهيان نجاحها في برودواي حين قامت بدور ليزا دوليتل الخالد. والفيلمان هما “ماري بوبنز” و”صوت الموسيقى”، لكن هذه حكاية أخرى طبعاً.

ففي النهاية مثلت هيبورن و”غنت” في “سيدتي الجميلة” مقدمة واحداً من أروع الأدوار النسائية في تاريخ السينما الأميركية. وهو نفس ما كانت فعلته جولي أندروز مسرحياً في تاريخ برودواي.

يوم كان الأمر مستحيلاً

ونعرف أن ليزا هي الأساس في “سيدتي الجميلة”. الأساس إلى درجة أن جورج برنارد شو كان قد فكر ذات لحظة بأن يعنون مسرحيته “ماي فير ليزا”، ومن هنا اقتبس المسرح الاستعراضي ثم السينما العنوان مع شيء من التحريف فيه.

المهم في الأمر هو أن السنوات التي فصلت بين ولادة مشروع المسرحية الاستعراضية للمرة الأولى وتحقق المشروع لاحقاً، وإثر ممانعة شو اقتباس تلك المسرحية، كان هناك سجال قوي في أوساط برودواي يدور حول فكرة أن حملة المشروع أرادوا أن يعزوا نفسهم بها تخفيفاً من وطأة صد شو لهم، فقد قال البعض إن العمل حتى لو تحقق لن ينجح. لماذا؟ ببساطة لأن ليس ثمة هنا حكاية حب، ففي النهاية ليس ما بين ليزا دوليتل والدكتور هيغنز حباً، بل هو غباء من طرفه ومجرد تحد وعناد من طرفها. ولئن كانت الحكاية قد انتهت باقترانهما فإنما الموضوع ليس موضوع زواج عن حب، بل خرق للمواثيق الطبقية البريطانية المعهودة قامت به ليزا من دون أن يكون لهغينز يد في الأمر.

لا نسوية ولا نضال

من ناحية قال المعترضون إن من السيء في هذا الاستعراض أن البطولة فيه، بمعنى الحصول على التعاطف المفترض، هو للمرأة لا للرجل. وكأن الجمهور يتواطأ مع المرأة ضد الرجل المغفل عن أي شيء عدا نجاحه العلمي والمهني مستصغراً شأن تلميذته النجيبة متعاملاً معها كتلميذة نجيبة لا أكثر فيما كانت تتوقع هي منه أن يعاملها كامرأة. وهذا هو بالطبع جوهر الحكاية من دون أن يكون العمل “نسوياً” أو “ذا مواقف نضالية طبقية أو غير طبقية”.

مهما يكن، قال يومها العارفون بـ”سيكولوجية” جمهور برودواي و”المسرح البورجوازي” بشكل عام، إن مثل هذا النضال ومثل ذلك البعد النسوي حتى وإن كانا هامشيين في العمل، لا يمكن للجمهور المعتاد لبرودواي أن يتقبلهما، لكنه تقبلهما بل أحبهما وكذلك فعل الجمهور العريض في جميع المدن واللغات التي تكرر فيها عرض المسرحية الاستعراضية التي عرضت في عرضها الأول في برودواي أكثر من 2200 عرض متواصل. وهو رقم حول “سيدتي الجميلة” من عمل فني إلى ظاهرة استثنائية في تاريخ الكوميديا الموسيقية.

وهو نفس ما سيحدث في كل مكان آخر عرض فيه العمل ليتكرر لاحقاً بالنسبة إلى الفيلم نفسه الذي سيحقق أرقاماً في جميع أنحاء العالم جعلته طوال ما لا يقل عن عقدين من الزمن واحداً من أكثر الأفلام مدخولاً في تاريخ الفن السابع، لكن قبل هجمة سينما المغامرات و”الأكشن” والخيال العلمي وكل الجيمس بونديات الأخرى التي أسقطت أناقة الكوميديا الموسيقية عن عرشها.

حكاية بسيطة

كل ذلك انطلاقاً من حكاية بالغة البساطة كان جورج برنارد شو قد اقتبسها بدوره عن العلاقة التي أقامها النحات الإغريقي بيغماليون مع موديل لتمثال نحته ذات يوم، لكنه لم يتنبه إلى أن للتمثال كعمل فني متقن روحاً وعاطفة فدفع الثمن غالياً، وطبعاً انطلاقاً من الجو العام لتلك المسرحية الوجودية الفلسفية بالأحرى، جاء الاقتباسان الاستعراضي ثم السينمائي في ركابه، ليحكيا بكل فخامة الموسيقى وروعة الأغاني وسحر الحفلات الصاخبة في البيوت الأرستقراطية، وعبر حوارات رائعة اقتبس معظمها من لغة شو العميقة والمحملة بالمعاني، حكاية البروفسور عالم الصوتيات هنري هيغنز الذي يلتقى بائعة الزهور الفقيرة ليزا دوليتل، قرب مسرح لندني فينبهر سلبياً باستخدامها البذيء للغة المحكية الإنجليزية وهي تحاول بيع زهورها للمارة، غير عابئة باشمئزاز المارة منها ومن ثيابها الرثة وتصرفاتها الوقحة.

ومن هنا، لاعتداده بنفسه ورغبته في الدفاع عن “جزالة اللغة الإنجليزية على الضد من هذه البائسة المبتذلة” يخوض رهاناً مع صديق له هو الكولونيل بيكرنغ فحواه أن في إمكانه وخلال فترة محدودة من الوقت أن يحدث في هذه “الصعلوكة” تبديلاً جذرياً من شأنه أن يحولها إلى سيدة مجتمع.

وهكذا يتعاقد مع ليزا، على أن ينفق عليها وعلى معيشتها أضعاف ما تكسبه من بيع الزهور، إن هي رضيت بأن يدرسها النطق بلغة سليمة والعيش على طريقة مجتمع الأكابر. وهي بعد شكوك مبدئية ترضى بذلك وتنتقل إلى دارته الفخمة.

وإذ تسير الأمور على ما كان قد خطط له يكون نجاحه في تبديل ليزا أكبر وأسرع مما اعتقد، لكن ما لم يكن في حسبانه كان أنه سيقع في حبها، لكنه لا يريد ذلك بالطبع فيحاول التملص غير عابئ بمشاعرها حتى اللحظة التي سينتهي كل شيء فيها على خير.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش