سعدالله ونوس الحاضر الغائب فـى مسرح الأقاليم

 

ثلاثة عروض قدمها المسرحيون عن نصين للكاتب السورى سعدالله ونوس، حيث قدمت فرقتا كفر الشيخ والإسكندرية نص «طقوس الإشارات والتحولات» مما منح الجمهور والمسرحيين وجبة ثرية وطرح العديد من الأسئلة حول المقارنة بين المعالجتين، وقدم قصر ثقافة الأنفوشى أيضاً من الإسكندرية عرض «الغاوى» المأخوذ عن مسرحية «ملحمة السراب» لنفس الكاتب، فكان حضور «ونوس» قوياً فى هذه الدورة.

فى نص «طقوس الإشارات والتحولات» حين فاجأ رئيس الدرك «عزت بك» نقيب الأشراف عبدالله وهو يلهو مع خليلته «وردة» متجرداً من رداء النقيب يرقص على أربع وتتربع الغانية فوق عجيزته وكأن الدركى لم يفاجأ عبدالله ووردة، بل فاجأ نقابة الأشراف عارية تركبها غانية وتلهو بها وكانت هذه أولى الإشارات ليبدأ العالم بعد ذلك فى الضياع وتتوالى الإشارات التى هى بمثابة كشف وفضح هذه الذوات التى تعفنت واطمأنت فسقطت أقنعتها وأعلنت التحولات ليبدأ قاضى القضاة «محمد القاسم» عدو النقيب فى الكشف عن حيله وتدبيره حين قرر إنقاذ عدوه، الأمر الذى أدهش الجميع ويقرر تبديل الغانية بزوجة النقيب ليلاً فى السجن وإفساد خطة الدركى الذى أمسك النقيب والغانية ونصب لهما التجريسة فى وضح النهار، فمن الفضيحة والتجريسة التى أقيمت للدولة إلى خدعة قاضى القضاة التى أنقذت شرف الدولة لا النقيب.. تفجر مؤمنة المفاجأة بتصميمها على الطلاق من النقيب مقابل تنفيذ خطة قاضى القضاة ثم التحول الأكبر حين قررت أن تكون غانية! لترمى اسمها «مؤمنة» ودلالته وتكسر أول قيد كبلها منذ مولدها فهى ابنة الشيخ المتصابى الذى تفنن فى تعليم فنون العشق والهوى للفتيات الصغيرات قبل أن يعرفن الحيض وهى زوجة النقيب الذى لم يمسسها قط ويقضى لياليه مع الغانيات. إن مؤمنة راحت تلبى نداء جسدها الذى توحدت معه وأطاعت رغبته فى الغواية لينكشف الظاهر والباطن عند كل الشخصيات، مؤمنة تتحول إلى الماسة، وعبدالله إلى عالم التصوف، ويعيش كل شخص الظاهر والباطن معاً!

ورغم الملاحظات التى يمكن أن يلحظها المشاهد وقارئ نص سعدالله ونوس على إعداد النص الذى قام به مخرج العرض عمر الرفاعى لفرقة كفر الشيخ القومية، إلا أنه قدم على مستوى المنظر المسرحى حلولاً إخراجية إبداعية للفضاء المسرحى وبناء الحكاية وأيضاً فى فهمه لطبيعة الشخصيات، فالنص يعتمد فى بنائه العميق على المدينة التى أصابها الخلل / المرض حين اخترق رئيس الدرك النظام وفاجأ نقيب الأشراف مع خليلته فبدأت الإشارات وتغيرت المصائر، حيث وضع المخرج قطع الديكور من الأبواب وقطع الأرابيسك التى تجسد وترمز للفن العربى وسوف يتم استغلالها فى كل فضاءات الحدث، بيت النقيب، بيت المفتى وفضاء العفصة وعباس والسجن والسوق وبيت الغانيات، أى بنية المدينة التى أصابها العطب، وسوف تتداخل هذه الفضاءات فى مشهد واحد فى بعض الأحيان فالمخرج يدرك أن الخلل لم يصب شخصاً ما بل أصاب المدينة ورموزها! لذلك كانت الصورة دالة على هذا الخلل، على التناقض الذى تعيشه المدينة والشخصيات، إذ يجلس المفتى أو قاضى القضاة على عرش مرتفع بشكل ملحوظ يصعد إليه بواسطة درج، ارتفاع يدل على مكانته ودوره الأساسى فى الأحداث، وفى بطن العرش فضاء العفصة وعباس، فضاء اللواط المحرّم! وهذا لا يخلو من دلالة، فبعد مشهد الاقتحام والكشف عن خبائث المدينة وضع المخرج الجميع فى مشهد واحد، العفصة وعباس يرقدان فى مؤخرة فضاء قاضى القضاة يتصارحان حول العلاقة الشاذة، وفى الجانب الآخر مؤمنة مع المفتى فى حوار صادم حول الخروج من المأزق، وضعهما المخرج معاً فى مشهد واحد بالتوازى…

مؤمنة: ما تطلبه منى مقامرة مخيفة، هو سير على حافة الهاوية والغواية ماذا تشعر حين تقف على حافة الهاوية

أبو القاسم: أحاول أن أكون حذراً

مؤمنة: لا أعتقد أنك فكرت بى إلا كأداة طيعة أو شىء من أشياء النقيب.. أنت تدفعنى إلى منزلق خطير… لترمى اسمها «مؤمنة» ودلالته وتكسر أول قيد كبلها منذ مولدها

فهى تطلب العدل من قاضى القضاة، فإن مساهمتها فى ترميم ما حدث كان إشارة التحول فهى ساهمت بجسدها والتحول أيضاً يبدأ من جسدها.. لتقرر مؤمنة أن تلبى نداء الهاوية وتبدل كل شىء.. فى ظهرى قشعريرة باردة.. «هل أجلس أمام المرآة وأبدأ الزواق.. وفى عمق المسرح سيكون الدركى الذى تجاوز حدوده خلف القضبان فى نفس الفضاء.

أدرك المخرج عمر الرفاعى أن للإيقاع دوراً رئيسياً فى هذا العرض فجاءت المشاهد سريعة متلاحقة، فالشخصيات تتحول وتتبدل مصائرها بسرعة فى مشاهد متلاحقة، النقيب عبدالله فى غواية التصوف بعد أن طلّق الدنيا بكاملها، ثم مشهد المفتى وهو يصلى فى بيته وغواية الماسة التى حاصرته، حاول المخرج أن يقدم مشاهد التحول التى غيرت مصائر الشخصيات وكأنها ومضات سريعة، الماسة مع الأب صاحب التاريخ المشين، ثم مع المفتى بعد التحول إلى غانية.. وكأنه يعرض صورة للمدينة موضع الخلل وشخصياتها ويقدم مشهد السوق غير المبرر والذى خرج عن إيقاع العرض، مشهد مباشر وطويل حين يختلط الباعة بالجمهور فى دلالة على سيطرة الماسة على العقول، فهناك عطور الماسة، حرير الماسة، شاى الماسة، وهكذا… ثم يجسد العرض النهايات والمصائر بنفس الإيقاع عباس والعفصة بعد أن حلق شواربه والفضيحة أمام الجميع فى السوق ثم يجسد المخرج فى النهاية الشخصيات الثلاثة فى نفس الفضاء فى مشهد واحد «المفتى، العفصة، النقيب» بالتوازى، ثلاثة تحولات متباينة ومصائر قاسية، المفتى راكعاً عند قدمى الماسة / الغانية، والنقيب يهيم فى عالم آخر بعيد عن الدنيا والعفصة يتخلص من حياته.. أدرك مخرج نص «طقوس الإشارات والتحولات» عمر الرفاعى البنية العميقة للنص التى تقوم على التناقض فى كل شخصية التى يتصارع باطنها مع ظاهرها، هذه التناقضات التى كان كشفها حدث أقرب إلى الخطأ المأساوى حين اعتدى رئيس الدرك على نظام المدينة، وهذا الصراع أدرك الممثلون أيضاً بنسب متفاوتة، فالماسة ليست غانية بل ست الأشراف التى تحولت إلى غانية وما زالت تحتفظ بطبيعتها والمفتى الذى يصارع نفسه.

وفى العرض الثانى لنفس النص لقومية الإسكندرية جسد مهندس الديكور وليد جابر روح الثقافة العربية فى فضاء المسرح من خلال ثلاثة مستويات، فى العمق كرسى الوالى فضاء السلطة السياسية وهو المستوى الأعلى وخلف الكرسى رموز الثقافة العربية من خلال فنون الأرابيسك، وفى مستوى أقل كرسى المفتى فضاء السلطة الدينية وفى مقدمة المسرح فضاء الحكاية وامتدادها بين العامة / فضاء المدينة دون قطع ديكور، فضاء السجن، فضاء السوق، وإلى اليمين فى مقدمة المسرح وأقرب إلى الجمهور فضاء اللذة، الشهوة سرير البغاء نشاهد فيه وردة مع نقيب الأشراف فى المشهد الافتتاحى، ثم يتحول إلى بيت وردة، بيت البغاء ثم فضاء مؤمنة بعد أن تحولت إلى الماسة مع زبائنها وأيضاً سرير غرام المفتى مع الماسة، إنه فضاء اللذة، وإلى اليسار فضاء عباس والعفصة، لذة أخرى وشهوة أخرى مع رجل ورفيقه وهى نفس المساحة التى سوف تشهد انتحار العفصة خلف قطعة شاش، كما شهد الفضاء المقابل «سرير البغى» مصرع الماسة. وظنى أن قراءة فضاء الحكاية وتوزيعها على خشبة المسرح يدل على فهم ووعى بالبنية العميقة للحكاية من مهندس الديكور وليد جابر ومخرج العرض محمد مرسى، حيث جسدت هذه الصورة ليس فقط فضاء الأحداث بل بنية المدينة التى أصابها الخلل ووضعت كل شخصية فى مكانها وأبرزت دورها فى الحكاية من خلال تعدد المستويات، السياسية والدينية والشعبية. ولكن بناء مشاهد العرض وإعادة ترتيب الأحداث من خلال الحذف والإضافة حين استعان العرض بالأغانى والاستعراضات غير المبررة يدل على رؤية سطحية للنص أو رؤية تنحاز لتقديم عرض جماهيرى، حيث يبدأ العرض بالغناء والرقص فى مشهد الغرام بين الغانية والمفتى بأغنية لا مبرر لها من خلال لغة ضعيفة لا تتناسب واللغة الشعرية العميقة التى كتبها «ونوس»، وسوف تتكرر هذه الاستعراضات فى العرض دون ضرورة، ليشعر المشاهد بالنظرة الأحادية للشخصيات من المشهد الأول وتتوالى الأحداث التى تؤكد هذه الاتجاه، فمن خلال أداء المفتى الذى أدى دوره المخرج وخاصة فى حواره مع مؤمنة قبل أن تتحول من ست الأشراف إلى غانية يدل على رؤية المخرج للنص، فالمفتى يؤدى الظاهر لا الباطن، ولم يقرأ عمق الشخصية، وهكذا مؤمنة أو الماسة التى ظهرت فى صورة بغى وليست ست الأشراف، فهذه الشخصية كما جسدها النص تعيش شخصيتين وهنا قوة وثراء الشخصية ست الأشراف والعاهرة فى لحظة واحدة، نعم تحولت ولكن ما زالت تحمل مقومات شخصيتها الأولى وهكذا كل الشخصيات.. ولكن فى هذا العرض لم يحدث هذا، فقط تحولت إلى عاهرة متصالحة مع نفسها، وهكذا المفتى مجرد رجل شرير، وفى أحيان كثيرة يشعر المشاهد بأن هناك تناقضاً بين الحوار والأداء، فعلى سبيل المثال فى مشهد الصلاة المفتى لا يعانى لا يتألم بل يبدو وكأنه يطرد الشيطان بصورة آلية! وبالإضافة إلى التناقض الذى ظهر واضحاً بين الحوار والأداء السطحى للممثلين فى التعامل مع الشخصيات بخفة من بعيد ساهمت الاستعراضات والأغانى فى إبعاد المشاهد عن رؤية سعدالله ونوس، بالإضافة أنها هامشية ولا علاقة لها بالنص جاءت ضعيفة، ناهيك عن محاولة إضفاء الطابع الكوميدى على بعض المشاهد!. وأيضاً فى المشهد الأخير وضع المخرج الشخصيات ضحايا الماسة فى مشهد واحد «المفتى، عبدالله، عزت بك، العفصة».

ما حدث فى «طقوس الإشارات والتحولات» وكما جسده النص زلزال أطاح بالمدينة، بالسلطة السياسية والسلطة الدينية وأيضاً بالبنية الاجتماعية وهذا ما لم يجده المشاهد فى عرض قومية الإسكندرية، فقط امرأة تحولت من زوجة نقيب الأشراف إلى بغى… ربما أراد المخرج أن يقدم الشخصيات من جانب واحد دون صراع أو تناقض، شخصيات واضحة وصريحة، ربما أراد أن يشرح ما حدث من خلال الأغانى والاستعراضات وهذه رؤيته ومن حقه أيضاً ولكن النتيجة لم تكن جيدة. وفى النهاية وجود ثلاثة عروض لسعدالله ونوس فى المهرجان الختامى لمسرح الأقاليم حدث يجب أن نتوقف أمامه، فهذا يدل على وعى هذه الفرق والمخرجين الثلاثة بقيمة النص المسرحى الذى تراجع فى أماكن كثيرة وأيضاً بضرورة طرح أسئلة اللحظة الراهنة من خلال نصوص تشتبك مع الواقع، سواء أصاب البعض أو لم يحالفه الحظ.

https://www.maspero.eg/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …