رحلة الرائد المسرحي أبي خليل القباني إلى شيكاغو

يتتبع الباحث والروائي تيسير خلف في كتابه “من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893″، الصادر عن المركز العربي للأدب الجغرافي (ارتياد الآفاق) في دولة الامارات، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، رحلة فرقة الرائد المسرحي السوري أبي خليل القباني إلى شيكاغو لتقديم 8 مسرحيات قصيرة في “معرض شيكاغو الكولومبي” عام 1893، هي (الدراما الكردية، الدراما القلمونية، المروءة والوفاء، عرس دمشقي، عنتر بن شداد، هارون الرشيد، العروس التركية، والإبن الضال).
كانت فرقة القباني تتألف من 58 ممثلا وعازفا وراقصا، أغلبهم شبان وشابات من بيروت، وجبل لبنان، ودمشق، وبيت لحم، والقدس، والناصرة، والسامرية، وحلب، والقسطنطينية، وإزمير، إلى جانب بعض الغجر من بلاد النهرين، وبعض البدو من الصحراء، لم يكونوا يمتلكون خبرة مسرحية سابقة، دربهم القباني شهورا عديدة في بيروت حتى أثمر التدريب نتائج مبهرة، استحقت ثناء كبريات الصحف الأميركية، فكتبت عنهم مقالات مطولة وصل بعضها إلى مقارنة ممثلات الفرقة وراقصاتها بأشهر الممثلات والراقصات العالميات في ذلك الوقت. وفي المقابل، كان ثمة تقييم آخر اتسم بسلبية مفرطة يعود أصلها إلى الأوهام العميقة المترسخة عن الشرق منذ الحروب الصليبية.
يشير تيسير خلف إلى أن هذه التجربة، على أهميتها الاستثنائية، بقيت مجهولة في الأدبيات العربية، ولولا الصحافة الأميركية لما عرفنا عنها شيئا، وجلّ ما سمعناه أخبارا مشوشة ومضطربة وغير دقيقة سطرها بعض الكتاب السوريين في منتصف القرن العشرين، مدفوعين بعواطفهم الجياشة‍! من دون توثيق أو معرفة بطبيعة هذه المشاركة وحيثياتها وظروفها ومآلاتها.
يدون تيسير خلف، بناءَ على الكتابات المنشورة في الصحافة الأميركية مجموعة حقائق لم نكن نعرفها عن مسرح أبي خليل القباني تتعلق بالاحترافية العالية والإبهار البصري، وتقنيات التمثيل والأداء، وعلاقة الخشبة بالصالة، وتوظيف الموسيقى دراميا، منها أن الذين كتبوا عن مسرحيته “عنتر بن شداد” تحدثوا عن مخاطبة الممثل للجمهور مباشرة في بعض المواقف، ولعل هذا يسبق تنظيرات الألماني برتولت بريخت حول كسر الجدار الرابع بين الجمهور والخشبة، بنصف قرن تقريبا. وهو استنتاج في غاية الأهمية، حسب رأيي، يؤكد ما ذهب إليه باحثون كثيرون من أن أبرز مصادر بريخت في كسر حالة الإيهام، التي تستحوذ على عقل المتفرج في المسرح، ليجعله واعيا ومشاركا في الفعل الدرامي، هو المسرح الشرقي. وتؤكد جميع المقالات التي كتبت حول أعمال الفرقة، حسب خلف، على فكرة الإبهار البصري متعدد المستويات.
هذا ما يتعلق برحلة القباني، أما عن شخصية القباني نفسه، فيقول خلف، في تقديمه للرحلة، إنه أسس مسرحه في خان الجمرك على قواعد متينة، فأقبل الناس عليه، وملأ صيته الآفاق. ومن خلال قراءتي لبعض المراجع وجدت أن القباني أفاد كثيرا من مشاهدة العروض المسرحية التي كانت تقدمها فرقة مسرحية فرنسية في مدرسة “اللعازارية” بدمشق، حيث أخذ عنها فكرة عن المسرح والتمثيل وبعض التقنيات الفنية التي ساعدته في البدء بنشاطه المسرحي، في البيوت أولا، ثم في الخانات، ثم في مسرحه (أو مرسحه بلغة ذلك الزمان) الذي أقامه عام 1874 بتشجيع من الوالي العثماني صبحي باشا، لأهداف ثقافية وسياسية، تباينت آراء الكتاب الذين كتبوا سيرة القباني في تحليلها. وهو أول دار للمسرح في دمشق قدم فيها بعض مسرحياته، قبل أن يحاربه بعض السلفيين بسبب مسرحية بعينها، فقرر الانسحاب. غير أن فئة منهم اعترضت عليه مجددا بدواع شتى، كما يقول خلف، وحاولت إيقافه عن طريق الوالي فلم تنجح، فانتدبت إلى القسطنطينية وفدا منها سعى لدى رجال السلطان إلى إيقاف القباني عن التمثيل في سوريا، وعن طريق الحيلة والدهاء نجح الوفد في مهمته، فشد الرحال، مضطرا، إلى مصر عام 1884 طمعا بفسحة من الحرية.
لقد حدثت ردّة الفعل الظلامية، التي واجهت تجربة القباني المسرحية، على الرغم من أن إقبال الشعب على مشاهدة مسرحياته كان يفوق الوصف، كما يقول حسني كنعان، ولذلك أحرز شهرة فائقة، متخطية سوريا إلى البلدان المجاورة، بل بلغ افتتان الناس بمسرحياته، وخلبها لعقولهم “أن صار الفقير منهم الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول يبيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها، وكان لشدة الازدحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح، ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد الرواية…”.
وقد فضح سعدالله ونوس في مقال له بعنوان “لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني” ما تعرّض له القباني وتجربته المسرحية الرائدة من مؤامرة رجعية دبرها بعض السلفيين الدمشقيين ضده أدّت إلى منعه من التمثيل وغلق مسرحه بقرار من السلطان العثماني عبدالحميد، وإثارة الدهماء عليه من سواد الشام باسم الدين والحفاظ على الفضيلة!
دفعت هذه المؤامرة القباني إلى مغادرة بلده صوب مصر ليواصل فيها نشاطه المسرحي سنوات عديدة، لكن مؤامرة بدأتها جريدة “الزمان” القاهرية ضده عام 1885، أرغمته أواسط عام 1886 إلى مغادرة مصر، والبحث عن أي حلول ممكنة في سوريا، وبالتحديد في مدينة بيروت! كما يذكر خلف. ثم عاد مرة أخرى إلى القاهرة عام 1889 رفقة فريقه المسرحي الضخم، وفي جعبته عروض مسرحية جديدة رفعت سقف المنافسة في أرض الكنانة. إلا أنه واجه هذه المرة مصاعب كبيرة فقد احترق مسرحه وتشتتت فرقته في حادثة لم تكشف أي من الوثائق عن أسبابها، ويغلب الظن أنها من تدبير عناصر رجعية أيضا أرّقها انتقال “بدعته” من الشام إلى مصر، ونجاحه المتواصل في نشرها.
ويبدو أن الظروف قد تغيرت في مصر آنذاك، فلم يجد من يعوضه عن خسارته ويدعمه مرة أخرى ويفتح له أبواب مسرحه كما حدث في المرة الأولى حينما جاء مهاجرا، فعاد إلى سوريا التي دفن فيها أحلامه ليجد أن الحال في دمشق قد تبدلت، ومات من مات من عشاق مسرحه، وهلك من هلك من مناوئيه، فلزم بيته معتزلاَ لا يقوى على العمل.
لقد بذل تيسير خلف جهدا بحثيا كبيرا في الحصول على الوثائق التي اعتمدها في صناعة هذه الرحلة الفريدة من نوعها في أدب الرحلة العربي، وهي وثائق عثمانية وأخبار ومقالات من الصحف الأميركية، إضافة إلى وثائق من أرشيف الخارجية الأميركية ومعرض “شيكاغو الكولومبي” من معلومات وصور ألحقها بالكتاب الذي استحق عن جدارة نيل جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2017- 2018.

عواد علي

(ميدل إيست)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش