د . راجي عبدالله في الحداثة : المسرح ومراحل تطوره

 

 

                           د . راجي عبدالله

                              في الحداثة :

                          المسرح ومراحل تطوره

                   

إن المسرح هذا التكوين الإبداعي المتطور من مرحلة إلى أخرى منذ نشأة الخليقة وتكوين المجتمعات البدائية , قد ظهر في بداياته كحاجة موضوعية وإنسانية للتعبير عما يجول في داخل النفس البشرية من أحاسيس متنوعة , تلك التي لايمكن وصفها بطريقة موجزة سريعة  , لأن المسرح  قد خضع للتجريب منذ بداياته الأولى من خلال أفعال تعبيرية متنوعة عبر العصور والأزمان الضاربة في القدم حتى يومنا هذا , وبهذا أصبح رويداً  رويداً فعلاً  إبداعياً  متنوعاً ومتطوراً ضمن متغيراته من حالة إلى أخرى , وثم  أصبح الشغل  الشاغل الأكبر للمشاهدين على إمتداد مشاربهم وتنوعاتهم  وتركيباتهم  في مراحل تاريخية مختلفة .

فهنالك الكثير من الدلائل على أن المسرح نشأ نتيجة تأثير الطقوس والإحتفالات التي كانت تقام في أعياد الربيع إحتفالاً بعودة الإله تموز أو ( دموزي ) كما ورد ذكره  في المثيولوجيا السومرية والبابلية أو أزوريس في الحضارة الفرعونية القديمة وكذلك ديونيسوس في الحضارة الإغريقية أي في بلاد اليونان القديم . ومهما كانت الأسماء  وتنوعت مصادر تكرارها في الحضارات الغابرة , فإن وقت ظهورها وتشابه وجودها في جميع هذه الحضارات والقصص التي نسجت حولها , تثبت أن ظهور المسرح كان نتيجة لوجود نوع من الطقوس التي إرتبطت عناوينها وطرق تنفيذها بالإلهة وتعدد وجودها إبان مرحلة تبلور الفكر الإنساني والإجتماعي في علاقة الإنسان مع الوجود  , التي لاتخلو من الإحتفال والتقديس  على شكل حكايات وأناشيد تحولت و تطورت بعد فترة  إلى إحتفالات تتخلها مشاهد درامية تعتمد على فن المحاورة , ومن ثم  تطورت أيضاً إلى دراما مسرحية لها أسسها وقواعدها بمرور السنين .

   

وعلى هذا الأساس  فإنه تجدر الإشارة إلى أن مجمل هذه التجارب قد بدأت بداية عفوية سهلة التوصيل ومن ثم تحولت هذه الحالة إلى حالة أرقى وأنظم وأكثر قدرة على التأثير بمرور الوقت , لأن الدراما بدأت ترتبط أولاً وأخيراً في تلك المراحل بنشأة الشعر وتطور الفلسفة في مراحل قريبة من تكوين المجتمعات الإنسانية المتآلفة في قوميات متنوعة و لها عاداتها وتقاليدها وسبل التعبير عن تإثيروجودها الإجتماعي على الحياة , حتى أصبحت الحاجة فيها إلى التحول من حالة  الوصف الذي كان ملازماً لكتابة الملاحم إلى النص من صيغته الروائية إلى صيغة المحاورة المباشرة بين شخص وآخر ,  ومن ثم إلى صيغة أكثر تعبيراً في وحدة الموضوع والزمان والمكان وغيرها من الوحدات التي فرضتها قواعد الكلاسيكية القديمة , بعد أن  تنوعت تجاربها عبر التاريخ لكنها ظلت ملازمة إلى نِشأتها الأولى التي تخلصت منها رويداً رويداً بعد مرحلة مسرحيات الأسرار والمعجزات وبلورة فكرة كتابة النص المسرحي الذي يقال عنه أنه نشأ أولاً في بلاد الأغريق كما يشاع .

تلك هي التي كانت البدايات الأولى لنشأة الدراما وتلك هي المراحل التي مرت بها سواء أكانت في بلاد الإغريق أو في بلاد سومر وبابل أو حتى في بلاد الفراعنة أو لم تكن كذلك  , لأن النشأة غالباً ما تكون مرتبطة بتكويناتها الأولى التي إنبثقت منها , ولا يصح أبداً فصل تلك التكوينات عن أصولها وجذورها الأولى , كما لا يصح أن تكون قد ظهرت في بقعة جغرافية معينة دون غيرها , مادامت هنالك نهضة  إجتماعية وعمرانية وحضارية متجذرة .

هكذا حسب إعتقادي قد نشأ المسرح وظهرت أولى بواكيره في بلدان مختلفة وفي أزمان بعيدة دون أن تكون لأحدها ريادة تذكر على نشأته في هذا البلد أو ذاك أو أنه ينتمي إلى هذا البلد دون غيره من البلدان ,  لأن غالبية الأسباب والظروف التي أدت إلى نشأته متقاربة ومتشابهة كثيراً , وإن الإختلاف لم  يكن وارداً في تلك الفترات بين درجات بلورة ونمو التطور المسرحي وهو في بدايته , إلا بعد أن تعمقت وتطورت التجارب والممارسات المسرحية في هذا البلد أو ذاك أو في هذه البقعة الجغرافية أو تلك . وبهذا يكون الرأي السائد على أن نشأة المسرح يونانية الأصل غير صحيح وغير دقيق لأنه إعتمد فقط على النصوص المكتوبة والمحفوظة منذ زمن بعيد إعتماداً على كتابات أسخيلوس ويوربيدوس وسوفوكليس كما هو معروف , بينما نجد أن بقية البلدان الأخرى لا توجد فيها هذه النوادر الإبداعية لمؤلفات مكتوبة على شكل نصوص  قبل وبعد التدوين , لأن التدوين والنصوص المحفوظة لها علاقة بأحسن الأحوال في النشأة الأدبية , وليست النشأة المسرحية التي لها شروطها ومستلزماتها حتى وإن كانت بدائية , وبناء على هذا  الرأي أيضاً  أصبح الأثر المكتوب هو الرأي السائد والمعروف لأن البحث فيه والدلائل الواردة فيه قد تعطي الباحثين في الآداب وفي شؤون المسرح النتائج المرجوة في الحكم والتعميم والإستنتاج دون ذكر أية حقائق أخرى مغايرة , ودون البحث عن الإحتمالات والظواهر والأدلة العلمية لأية ظاهرة مهما كانت صغيرة أو كبيرة , تلك التي كانت ومازالت غائبة عن ذهن الكثير من الباحثين المسرحيين إلى يومنا هذا .

وبهذا نسي أو تناسى منظرو المسرح موضوعة في غاية الأهمية هي المحاولات الإنسانية وتطورها عبر التاريخ ومن بينها  موضوعة التجريب وتأثيره  على الريادة والتجدد والإستمرار من زمن إلى آخر دون أن يكون هنالك تراجع في تطوره , ودون أن يكون هنالك وجود مانع لتطوره المستقبلي إلا المانع الذي يرتبط بالظواهر الطبيعية القاهرة التي أثرت أو تؤثر فيما أنتجه الإنسان القديم من  إنتاجات إبداعية لها علاقة بوسائل التعبير الإبداعي , فالمسرح لم يكن فعلاً حجرياً منحوتاً , أو صورة حجرية مرسومة على جدران الكهوف بل أنه ممارسة إنسانية ترتبط بالإنسان  ( الممثل ) الذي قد لايدوم بقاؤه ردحاً طويلاً من الزمن , حتى إذا إفترضنا وجود حركة مسرحية في هذه البقعة الجغرافية أو تلك  , أو وجود مجاميع مسرحية هنا أو هناك , لأن الفن المسرحي بطبيعته محكوم بالناس أو البشر وهذه الدلالات الإنسانية غالباً ما تكون زائلة سريعاً ولا يدوم بقاؤها طويلاً على مدى الدهور .

تلك هي المشكلة وهذا هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه الكثير من الباحثين والمنظرين المسرحيين , لأنهم لم يتعمقوا في دراسة الظواهر المسرحية أو أية ظواهر إبداعية أخرى , التي كانت قد نشأت أولاً بفعل التجريب سواء أكانت تلك الظواهر شفاهية التعبير أو أنها كانت مدونة التأثير , إذ أن فن التمثيل وفن الرسم وبقية الفنون الأخرى قد ظهرت في بداياتها بداية فطرية وعفوية قد إراد بها الإنسان القديم التعبير عن معاناته وأحاسيسه في هذا الوجود حتى ظهرت فيما بعد قدرته الخلاقة على حفظ تلك الأعمال البدائية على شكل نقوش حجرية أو نصوص مسرحية بعد التدوين .   

وعليه فأن النص المسرحي ( المدون )  قد إرتبط أولاً وأخيراً بالتجريب ونما وتطور من خلاله  , ولولا التجريب لبقيت جميع النصوص المسرحية قديمها أو حديثها تدور في فلك واحد وتحكمها قواعد واحدة  , وهذا ما نجده في الدراسات والأبحاث المسرحية التي كتبتها وناقشت فيها تلك الأفكار التي تربط نشأة المسرح ببلد واحد دون غيره من البلدان , لأن المسرح إرتبط بنشأة الحياة وتطور بتطورها اللاحق حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن إلى مرحلة كتابة النصوص المسرحية الحديثة والمعاصرة , التي يمكن أن تتلائم فكرياً وتقنياً مع متطلبات العناصر التقنية الحديثة في المسرح بعد أن أصبحت متوفرة إلى حد كبير في الوقت الراهن , وساهمت في تحول المسرح  لصيغة مرئية جديدة تعتمد على الصورة وعلى فلسفة الحركة ومدلولاتها الكثيرة ,  بعد أن كانت تعتمد لفترة طويلة من الزمان على فن الحوار والمحاورة وعلى  أسس المسرح السمعي .

وإذا أخذنا هذا الموضوع بنظر الإعتبار فإننا سنجد  أن الصور والحوارات الموجودة في كل النصوص  لها علاقة أيضاً بفن التجريب على المسرح عبر مراحل تاريخية ,  ثم أنها تبلورت شيئاً فشيئاً لتكون فيما بعد مدرسة فنية لها قواعدها في الكتابة النصية أو عند تنفيذها على خشبة المسرح تمثيلاً وإخراجاً ,, لأنها ترتبط أيضاً بما هو سائد وما هو في علاقة أيضاً بالذائقة الإجتماعية التي إعتادت على نمط معين من النصوص أو العروض المسرحية دون غيرها , مما يتحتم علينا كمسرحيين الإنتباه إلى أن كل الأعمال المسرحية يمكن التعامل معها وفقاً لصيغ متغيرة لما هو سائد عند إخراجها مسرحياً , شريطة أن تتوفر فيها الشروط الإبادعية الفنية التي تميزها عن الفوضى التعبيرية التي ليس لها أول ولا آخر لمجرد الإدعاء أن فن المسرح هو فن التجريب الدائم , فالتجريب لم يكن في يوم من الأيام فوضوي المنهج أوأنه يشبه خلطة مسرحية عديدة الألوان دون وجود إنسجام نوعي بين كل ألونها المبهرة الأخاذة , تلك هل الحقيقة التي يمكن لنا تحقيقها  لكي نصل معها إلى حالة تعبيرية  مناسبة لكل ماهو مرئي ومسموع  على خشبة المسرح   , إذ أن تحقيق نسبة كبيرة من التواصل بين الإثنين في عرض مسرحي واحد يمكن أن يكون سهلاً للتوصيل وتحقيق المتعة البصرية عند المشاهدة , أو من خلال المتعة الحسية للحوار أو عند  تحقيقها من خلال قراءة هذه النصوص فقط .

هذا ما أردت توصيله  للقارئ في نشري لهذا الموضوع  , إذ أن كل المحاولات الإبداعية منذ نشأة المسرح حتى يومنا هذا , كانت تهدف إلى تقديم فعل إنساني وإبداعي مهما كان نوعه أومهما كانت طريقة تقديمه إلى الجمهور , إذ لولا ذلك لأصبح المسرح جزءاً من الأدب سواء أكان قد كتب في مراحل غابرة من تاريخنا الإنساني أو أنه لم يكتب بعد .

                                                                 

                                                        المصدر   د . راجي عبدالله

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش