دمشق تعيد رفيق علي أحمد إلى خشبة المسرح

يحدث أن يوثق تاريخ وطن بما لديه من فنانين ومبدعين، فيكون عهدا مشفوعا باسمه وعمله. من هؤلاء فنان لبناني، وضعته مجلة “ليكس بريس” الفرنسية في قائمة مئة شخصية تحرك لبنان، كما أدرجته مجلة “تايم أوت” في نسختها العربية ضمن الشخصيات الأربعين التي تجعل من بيروت مدينة عظيمة. رفيق علي أحمد مسرحي لبناني، وضع خطا مميزا في تاريخ المسرح العربي وكان إحدى ظواهره. كان ضيفا على ملتقى الإبداع في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.

يكسر الفنان اللبناني رفيق علي أحمد حدود أي شكل اجتماعي أو ديني أو سياسي يمكن أن يؤطره، فهو لا يعترف بمؤامرة سايكس بيكو التي قسمت الوطن العربي الواحد إلى أوطان، كما يعلو فوق المشهد الطائفي والشعبوي، ويخرج من أي استقطاب حزبي، وينطلق من مفهوم الإنسان بآلامه وهمومه ويتجه إلى عمقه. شغوف إلى درجة الهوس بالمسرح، ربيب الجنوب اللبناني حيث البيئة البسيطة التي لا تعرف تعقيدات الحياة قريته (يحمر شقيف) التي “لا يصل إليها إلا من يقصدها، كونها لا تقع على طريق يمتد بعدها”.

وكان اللقاء مع الفنان مساء السابع والعشرين من أبريل الماضي في مسرح سعدالله ونوس، حيث امتلأ المدرج بطلاب المعهد المسرحي بدمشق.

شخصيات موجوعة

الوضع المسرحي في العالم العربي وفي لبنان صعب وبعيد عن سياسات الدعم الرسمية والأهلية ويواجه واقعا مأزوما

بدأ الحوار مع رفيق علي أحمد بتعريف للفنان من قبل عميد المعهد المسرحي الدكتور تامر العربيد، وبمكانته التي يحتلها في المشهد المسرحي العربي. وامتد الحوار طويلا بإدارة سعد القاسم ليكون الطلاب في حوارية مسرحية غنية.

 يقول رفيق علي أحمد في لقائه مع طلاب المعهد عن بداياته الفنية “نشأت في قرية بسيطة هادئة، كانت لدينا فيها ثلاثة وظائف فحسب وهي: المدرس والدركي والعسكري، ولم تكن لدي أحلام كثيرة كما غيري من الناس، كنت شغوفا بالفن، أغني وأرقص وأعزف بشكل بدائي. صدمت منذ البداية بأن ممارسة الفن تحتاج إلى المال، فالعازف بحاجة إلى آلة كي يقدم عليها معزوفاته، ومن يريد الرسم أيضا، لأنه سيحتاج إلى لوحات وألوان وفرش، فكان الخيار في الغناء والرقص والتمثيل”.

ويضيف “حاولت في طفولتي الرسم على مساحة أرضية في حديقة منزلنا الريفي، فرسمت وجه امرأة من الطين ووضعت عليه بعض السواد من موجودات البيت، لكن محاولتي البدائية جوبهت برفض الأهل وبددت اللوحة المرسومة على الأرض. عندما زرت لاحقا متحف اللوفر وشاهدت لوحة الموناليزا الشهيرة، استفاق الطفل الحالم بداخلي وحدثني عن إمكانية أن تكون لوحتي تلك مكانها في هذا الركن”.

 يتابع عن دراسته في معهد المسرح في الجامعة اللبنانية في بيروت “وصلت إلى بيروت ودرست فيها على حسابي وعندما اجتزت الثانوية العامة دخلت معهد المسرح الذي كانت ظروفه بائسة، لكنني تخرجت فيه بعد سنوات وبدأت بتقديم أعمالي المسرحية وأنا ما زلت طالبا فيه، وفي سنوات دراستي تعرفت على تجربة يعقوب الشدراوي وروجيه عساف وقدمت معهما الكثير من الأعمال ومنذ ما يقارب الخمسين عاما ما زلت أقدم هذا الجهد”.

يؤكد صاحب “الجرس” و”المفتاح” و”زواريب” و”قطع وصل” و”جرصة” أنه لا يذهب إلى المكتبة المسرحية العالمية لكي يحدد شخصية ما يستحضرها ويقدمها في عرض للجمهور، بل يذهب للناس في تفاصيل حيواتهم اليومية ويوثق ذلك ويجعله في وجدانه مخزونا إبداعيا.

 

المعهد المسرحي بدمشق يحتفي بالفنان
المعهد المسرحي بدمشق يحتفي بالفنان

 

يقول “في عملي أراقب الناس في أدق التفاصيل، وأضع إشارات وأفكارا، أبحث عن هم الناس البسطاء ومواجعهم، وأتخيل أن مرآة سوف تنقل حكاياتهم إلى خشبة المسرح، لتتحدث عن هذه اليوميات والهموم بكل صدق. رغبتي أن أبين لهم موقعهم الحالي في الحياة وأن أقدم وجهة نظري في مستقبلهم وخطورة ألا يقوموا بالتغيير نحو الأفضل. أعتمد في ذلك على مخزوني الإنساني الذي يعيش حياة مشتركة مع هؤلاء، أتقاسم معهم ظروف حيواتهم وآمالهم وانكساراتهم، أضع الجمهور أمام واقعه بكل قسوته، ليرى حقيقة ما يعيشه. ربما كان ما يقدم في الشخصية عنيفا وصادما، فأنا أكون حادا في العرض المسرحي وربما أشتم المتلقي، لكنني أفعل ذلك من أجل أن أجعله في لحظة وعي بخطورة اللحظة التي يعيشها وضرورة أن يخرج منها نحو الأفضل”.

منذ أن كان طالبا في معهد المسرح تميز رفيق علي أحمد بخياراته المسرحية الخاصة واختار شكل مسرح المونودراما ليقدم من خلاله توهجه الإبداعي. وكانت نقطة النجاح من خلال مسرح الحكواتي مع المخرج المسرحي اللبناني روجيه عساف، حيث قدم مسرحية “أيام الخيام” عام 1981 التي شكلت انطلاق تجربة مسرحية غنية سلطت الضوء على موهبة عربية هامة، تتالت العروض بعدها حتى قدم عام 1991 مسرحية “الجرس” التي نطق فيها بهم المواطن اللبناني، وهو الخارج والمثقل بأعباء حرب أهلية خربت حياته. وعنها نال جائزة أحسن ممثل في أيام قرطاج المسرحية.

ويتابع عن وجوده في المسرح الرحباني “كنت أقدم عرضا مسرحيا في بيروت عندما شاهدت شخصا بين الجمهور يشبه منصور الرحباني، دققت البصر. إنه هو هذا هو شكل رأسه وجسده، في آخر العرض نزلت إليه كي أشكره على الحضور، فهنأني. وقال لي بصوته العريض: كنت أبحث عن ممثل يلعب دور سقراط ووجدته فيك، تعال إلي غدا، وذهبت، وقدمت معه مسرحية ‘آخر أيام سقراط’ عام 2008 وعددا آخر بعدها. وأنا أعتبر العمل مع الرحابنة مرحلة هامة في تاريخي المهني الذي أمتد سنوات طوالا”.

قطيعة وعودة إلى المسرح

 

الفنان يرى أن المسرحي عليه أن يذهب إلى الناس في تفاصيلهم اليومية ويوثق ذلك ويجعله في وجدانه مخزونا إبداعيا
الفنان يرى أن المسرحي عليه أن يذهب إلى الناس في تفاصيلهم اليومية ويوثق ذلك ويجعله في وجدانه مخزونا إبداعيا

 

لا ينفي رفيق علي أحمد أن الوضع المسرحي الحالي عربيا ولبنانيا ليس في حال سليم. فهو بعيد عن سياسات الدعم الرسمية والأهلية ويواجه واقعا مأزوما. يقول “لا يتلقى المسرح دعما رسميا في كل الدول العربية ومنها لبنان، لو أراد أحدهم البحث عن دعم مالي لعرض أزياء أو كليب لوجد من يدعمه بشكل جيد، لكن هؤلاء يختفون عندما نتحدث عن المسرح، ربما لأنه يخلق حوارا وبالتالي هو خطر عليهم”.

ويضيف “وجدت أن المطلوب هو تقديم شيء أقرب إلى التهريج وأنا لا أريد أن أقوم بذلك، ما زال شغفي بالمسرح الذي ينقل وجع وهم الإنسان إلى الخشبة وأعتبره الأهم، لكي تتحقق معادلة المرآة الإبداعية ونقلها للواقع. انسحبت من المشهد المسرحي عام 2015 لأنني لا أجد ما أريد قوله فيه”.

لكن الحالة الوجدانية التي ولدت لديه بعد زيارة المعهد جعلته في مكان آخر. يقول “بعد أن زرت المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق وتحركت في أروقته وتعرفت على طلابه وشغفهم بالمسرح والنبض المسرحي الخلاق الموجود عندهم، تراجعت عن قراري، وسوف أعمل على تقديم عمل مسرحي جديد خلال المرحلة القادمة، وسوف آتي به إلى دمشق لكي يقدم مع الجمهور الذي كان سببا في وجود حالة العمل ثانية”.

لا يظهر رفيق علي أحمد على منبر التمثيل فحسب، بل يقدم إبداعه في الإخراج والكتابة المسرحية، بل نجده أيضا في بعض المهن المسرحية المكلمة. يصفه بعض العاملين في المسرح العربي بأنه مؤسسة مسرحية، فكثيرا ما ينتقل بين مناطق لبنان هو وفريق صغير يستقلون سيارة واحدة، بحيث يكون كاتبا ومخرجا وممثلا، فربما قدم عبر عروضه في المونودراما عددا من الشخصيات وليس شخصية واحدة في عرض مسرحي. وهو بهذا الشكل الفني رغم صعوبته استطاع أن يقدم عروضه في أصغر المساحات الفنية حيزا مكانيا، فتكفيه بضعة أمتار في قاعة داخلية أو ساحة خارجية حتى يقدم عالما مسرحيا خلاقا لا يقف عند حدود.

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.