توظيف السينما في المسرح: الضرورة والإسراف – عواد علي

 

 

يلاحظ المتتبع للمسرح العربي في السنوات الأخيرة ازدياد توظيف المخرجين لمشاهد سينمائية، روائية ووثائقية، في عروضهم المسرحية بهدف تعميق الأثر الدرامي في نفس المتلقي، أو لأغراض جمالية في سياق التداخل والمزاوجة بين فني السينما والمسرح. لكن هذا التوجه أسرف أحيانا في الدمج بين الفنّين، من دون انسجام وتنسيق وتآلف، إلى الدرجة التي أفقدت المسرح خصوصيته وهويته، إن لم نقل تسميمه وسلب روحه.

ولعل أبرز مثال على ذلك العرض التونسي “راشامون” للمخرج لطفي العكرمي، الذي شاهدته في مهرجان الأردن المسرحي الـ26، فقد عرض على شاشة خلفية مشاهد سينمائية روائية صامتة طويلة تصوّر روايات متباينة لحادثة مقتل ساموراي جرت في غابة، وسُردت في المحكمة: رواية قاطع الطريق الذي يغتصب زوجة الساموراي، ورواية الزوجة، ورواية الحطّاب الذي يُفترض أنه رأى كل شيء، فإذا بالمتلقي أمام شهادات مختلفة كل الاختلاف، قاطع الطريق يؤكّد أنّه القاتل، والزوجة تؤكّد أنها هي القاتلة، والحطّاب يشهد بأن الرجل قتل نفسه بسيفه.

هذه المشاهد السينمائية، بغض النظر عن ضعف مستواها الفني، والمتأثرة بالفيلم السينمائي الروائي الياباني “راشومون” لأكيرا كوروساوا في بداية خمسينات القرن الماضي، احتلت حيزا كبيرا من العرض فسلبت منه طابعه المسرحي.

يعود توظيف السينما، أو المادة الفيلمية، أو الشرائح في المسرح إلى الربع الأول من القرن العشرين، ويُشار إلى أن المخرج الألماني بسكاتور طبّق تصوّراته عن المسرح الوثائقي مستعينا بشاشة سينمائية لعرض مشاهد مصوّرة من الحرب العالمية الأولى في عرضه المسرحي “رغم كل شيء” عام 1925، صاحبت أحداثه أشرطة وثائقية تمثل أجزاء من خطب وتعليقات ومقالات صحافية.

واستعمل في عرضه اللاحق “عاصفة على غوتلاند” عام 1926، وهو دراما تاريخية تدور أحداثها في القرن الخامس عشر، فيلما سينمائيا يبرز ثورة الحمالين بشنغهاي، خالقا نوعا من التوازي في الأفعال لتطوير الإيحاءات الدرامية.

وواصل بسكاتور هذا النهج في أعماله التي قدّمها في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات في مسرحه الخاص، ابتداء بالعرض الافتتاحي “هوب لا، نحن نعيش” لإرنست توللر، حيث استعان بمقاطع سينمائية معدة خصيصا له، إضافة إلى عروض تجريدية، في محاولة لخلق ما أسماه بـ“الموسيقى الحركية”.

وفي عرض “راسبوتين” لتولستوي عرض بسكاتور أفلاما لغرض ديالكتيكي درامي يقدّم معطيات موضوعية من ناحية، ويضع المتلقي مباشرة في الحدث من ناحية أخرى.

وأراد في عرض “أعلام” وضع السينما في خدمة الدراما، معتبرا ذلك أولى محاولات قطع التسلسل الحدثي في تجارب تالية، يجعل منها وسيلة تحريضية تنشئ علاقة عضوية، فتغدو السينما رافدا من روافد المسرح، ووسيلة لخلق مسرح جديد متجذّر في المادية التاريخية، وهو ما تسمح به السينما عبر نقل صور من الواقع ووثائق منه عبر وضعه في علاقة مع الشخصيات ومصيرها. وإضافة إلى الصبغة التوثيقية والتفسيرية للأحداث سعى إلى جعل السينما تسهم في التعليق على الأحداث، ومخاطبة المتلقين وجذب انتباههم، وخلق صورة مسرحية جديدة.

وقد استخلص الباحثون ثلاثة أنواع من الأفلام التي اعتمد عليها بسكاتور هي “الفيلم التعليمي”، “الفيلم الدرامي” و“الفيلم التعليقي”.

توظيف السينما في المسرح ذو حدين، فهي مفيدة حينما تكون مسوغة، ومسمّمة للعرض حينما تُستعمل بإسراف أو في غير محلها

وإلى جانب بسكاتور، وظف مخرجون مسرحيون آخرون، خلال تلك الفترة، التقنيات السينمائية في بعض عروضهم المسرحية، مثل الروسي مايرهولد، والألماني بريخت، بإسقاط عناوين وتعليقات وشرائح على الشاشة السينمائية تغني عن أحداث تقع في فضاءات خارجية واسعة مثل المعارك من جهة، أو لاختصار الزمن في بعض المشاهد المنبثقة من رؤية المخرج المسرحي، والتي من المتعذّر تقديمها على الخشبة، أو تحمل رسالة في تأكيد معنى المشهد من جهة أخرى لإحداث التغريب وكسر الإيهام لدى المتلقي، خاصة لدى بريخت في مسرحه الملحمي.

وبتأثير بريخت دخلت السينما والمادة الفيلمية في عروض المسرح العربي في سبعينات القرن الماضي، ومن أبرز تلك العروض العرض العراقي “المتنبي” (أدى دوره سامي عبدالحميد)، الذي كتب نصه عادل كاظم وأخرجه إبراهيم جلال للفرقة القومية عام 1977. ففي اللوحة الأولى يُعرض فيلم لحصان وهو يركض ويصهل، ثم يبدأ الصهيل بالتلاشي ليختلط بصوت وصورة انفجار قنبلة ذرية. وقد أراد المخرج أن يقرن مقتل المتنبي بانفجار القنبلة الذرية في “هيروشيما” أو “ناكازاكي”، يلي ذلك ظهور مقاتلين يرتدون الزي العربي، ويحملون سيوفا لتبدو الأحداث المعاصرة في قالب تاريخي.

وحديثا زاوج بعض المخرجين العرب بين أحداث مسرحية على الخشبة وأخرى مصوّرة سينمائيا لأغراض مختلفة، كما في العرض المسرحي الغنائي الاستعراضي “إليك أعود” الذي أخرجه المسرحي والموسيقي الأردني عامر الخفش، وقدّمه على خشبة مسرح قطر الوطني في الدوحة عام 2007، بمشاركة موسيقيين أردنيين وأوركسترا أذربيجانية.

المخرج الألماني بسكاتور طبّق تصوّراته عن المسرح الوثائقي مستعينا بشاشة سينمائية لعرض مشاهد مصوّرة من الحرب العالمية الأولى في عرضه المسرحي “رغم كل شيء” عام 1925

جسد العرض الشتات الفلسطيني وآلامه عبر شخصية “يافا”، بتاريخها ولحظات الصمود والانكسار التي عاشتها، وحلمها بمستقبل أفضل، وتميز بشموله على عناصر فنية عديدة جرى توظيفها جماليا ودلاليا، كالتمثيل المسرحي، والرقص التعبيري، والموسيقى والغناء، ومادة فيلمية تسجيلية وأخرى ممَثّلة أُعدت خصيصا للعرض تلخّص تاريخ النكبة والشتات الفلسطيني.

وكذلك العرض المصري “أنا هاملت” الذي قُدّم في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 2009، وهو معالجة معاصرة حملت رؤية جديدة ركزت على هموم المواطن المصري، أعدّه وأخرجه هاني عفيفي، وقد مزج بين الشكل الكلاسيكي للمسرح، باللغة العربية الفصيحة، والعرض السينمائي، باللهجة المصرية (إخراج أحمد روبي)، لتقديم نظرة معاصرة لمعاناة الشباب المصري، والعربي بشكل عام، من الأنظمة الدكتاتورية، وحرمانه من حقوق المواطنة، وتغييب الوعي، على خلفية الملامح الأساسية للشخصية التي رسمها شكسبير لشخصية هاملت.

وراهنت المخرجة الأردنية مجد القصص في عرضها “النافذة” (2018)، تأليف الكاتب العراقي مجد حميد، على توظيف مادة فيلمية لتصبح جزءا ممّا يحدث على الخشبة، من خلال إيجاد علاقة عضوية بينها وبين الفعل المسرحي، خاصة في مشهد لعبة الشطرنج، حيث جرى تصميم مربعات على الأرض عليها قطع شطرنج بحجم كبير، وفي اللحظة التي يموت فيها جندي الشطرنج يعرض المشهد السينمائي شخصا يموت، وبذلك ربطت المخرجة بين ما يحدث في المسرحية وما يحدث في الواقع العربي، الذي أصبح فيه الموت والقتل حدثا يوميا.

نخلص من هذه الأمثلة إلى أن توظيف السينما في المسرح ذو حدين، فهي مفيدة حينما تكون مسوغة، وتقتضي الضرورة الدرامية والدلالية دمجها في العرض، ومقحمة وفائضة ومسمّمة للعرض المسرحي حينما تُستعمل بإسراف، وفي غير محلها.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش