“بين الكلب والذئب”.. مسرحية تفكّك آليات الفاشية – أبو بكر العيادي

 

كعادتها في المزاوجة بين المسرح والسينما، قدّمت البرازيلية كريستيان جاتاهي عملا جديدا بعنوان “بين الكلب والذئب” استوحته من فيلم “دوغفيل” للدنماركي لارس فون ترير، لتسلط الضوء على الطرق التي تؤدّي إلى الفاشية.

يعاب على المسرح التجريبي الحديث تخليه تقريبا عن المؤلف، واعتماد نص يكتبه المخرج أو يشترك في تأليفه مع أعضاء فرقته، وأحيانا مع الجمهور مباشرة؛ أو اقتباس عمل مسرحي من رواية أو شريط سينمائي، دون أن يكون النجاح مضمونا في كل الحالات.

والبرازيلية كريستيان جاتاهي لا تنأى عن ذلك كثيرا، فقد اعتادت هي أيضا المزاوجة بين السينما والمسرح بنصوص من تأليف جماعي في العادة، مع تغليب السينما أحيانا على الفن الدرامي. وعملها الجديد “بين الكلب والذئب” يعتمد التقنيات السينمائية، ولكن مضمونه متأتّ من عمل سينمائي للارس فون ترير هو “دوغفيل”.

ولئن سعى المخرج الدنماركي لجلب المسرح إلى فيلمه، بجعل الأحداث تدور على خشبة عارية، فإن المخرجة البرازيلية حاولت أن تجلب السينما إلى المسرح، من خلال لوحات ثابتة وصور توهم بالبث المباشر، لإضفاء الواقعية على معاناة البطلة غراسا، اللاجئة السياسية الفارة من جحيم نظام شمولي، وهو الأسلوب الذي توخّته جاتاهي في أعمالها السابقة مثل “الأوديسة 1″ و”الأوديسة 2” اللتين تناولت فيهما مصائر متعدّدة لمنفيين فارين من أوطان تشهد حروبا وكوارث.

في فيلم “دوغفيل” يصوّر فون ترير قدوم فتاة اسمها غريس إلى كفر معزول هربا من منحرفين محترفين ثم من البوليس، فيقبل سكان ذلك الكفر إيواءها وإخفاءها عن عيون مطارديها، ولكن مقابل خدمات ما فتئت تتكاثر (أعمال منزلية، رعاية الأطفال، جني الغلّة..) وسرعان ما كشف السكان عن طبعهم الحقيقي، فتحوّل الملجأ بالنسبة إلى تلك الفتاة إلى نوع من السجن أفقدها شيئا فشيئا إنسانيتها.

المسرحية تسرد معاناة لاجئة سياسية فارة من جحيم نظام شمولي طلبا للأمان في مكان معزول، فتفقد إنسانيتها

استوحت جاتاهي تلك الفكرة لتحلّل آليات الفاشية، فاشية السلطة لا محالة، ولكن فاشية الفرد أيضا حين تتلبّس بكل قرار من قراراته، وفاشية المجموعة، وكلتاهما يمكن أن تقود إلى ما يأباه كل مؤمن بالحرية والكرامة والديمقراطية. وقد نزّلتها في واقع بلادها البرازيل، حيث الشعبوية والليبرالية المجحفة فضلا عن فساد الطبقة الحاكمة، لتروي قصة فتاة هاربة من حكومة تنخرها الميليشيات، وتلوذ هي أيضا بمن كانت تحسبهم تقدميين وثوريين وحقوقيين، فإذا هم يستغلونها أبشع استغلال، وإذا هي تُسخَّر لتلبية حاجات هذا الطرف أو ذاك، فتتهاوى المثل العليا لتترك مكانها لأكثر السلوكيات أنانية.

وإذا كان فيلم فون ترير يعرض بطريقة واضحة وقاطعة آليات استقرار الشر، فإن مسرحية جاتاهي تقترح تجربة معقدة نوعا ما، حيث يدعى الشخوص إلى عدم الخضوع للأمر الواقع، والتفكير في الطرق الكفيلة بقبول الآخر والتضامن معه. فالعملية لم تعد مسرحة التخييل السينماتوغرافي كما اقترحه فون ترير، بل إجراء تجربة مشتركة داخل المسرحية حول تكرار فظاعة حدثت، ما دام تصويرها قد تمّ، بغرض إيقافها، وفي الأقل تغيير الأسباب التي ولّدتها بهدف تعويضها بما يضمن للإنسان كرامته.

وقد ورد على لسان أحد الشخوص قوله إن ما يقومون به غايته خرم الروح الإنسانية للكشف عن سوداويتها، حتى يتسنى لهم بعدئذ السعي لاجتثاث ذلك السواد، ولو أنها باتت أشبه بالطوباويات في هذه المرحلة.

يبدأ العرض بأسلوب قديم قدم المسرح، ونعني به المسرح داخل المسرح، مع الممثلة البرازيلية جوليا برناط التي تؤدّي دور البطلة غراسا وهي جالسة وسط الجمهور، ثم يدعوها أحد الممثلين إلى الخشبة، بعد أن تحاور مع الجمهور مباشرة، في ما يشبه شرح النص الأصلي الذي يروي قصة فتاة أجنبية لجأت إلى جماعة لها مشاعر نبيلة ولكنها منغلقة على نفسها، ويحافظ في سرده على بنية الفيلم، قبل أن ينزاح عنه كما ذكرنا.

Thumbnail

ويتصرّف الممثلون فيما يظهر على شاشة كبيرة، ثم يبحثون له عن ترتيب مغاير، فالصور المعروضة غالبا ما تعارض تلك التي تم التقاطها بالفعل، لكون المسرح في نظر جاتاهي هو في الأساس مكان البروفة، المكان الذي يقوم فيه الممثلون بمراجعة النص، وأداء الأدوار، والتكيّف مع ردود أفعال الجمهور.

والعمل الذي سبق عرضه في مهرجان أفينيون لهذا العام يطرح واقع الخشبة كوسيلة لتسليط الضوء على السبل المظلمة التي تقود إلى الفاشية. فهو يتوقف عند اللحظة الحاسمة التي ينقلب فيها النهار إلى ليل، حيث تستغل الذئاب الظلام لتهيئ نفسها للهجوم على القطيع، مثلما تتهيأ الكلاب للصدّ والدفاع. وفي ذلك استعارة عن إمكانية المرور من الديمقراطية إلى الفاشية، كما هو الشأن في البرازيل اليوم. ذلك أن جاتاهي تعترف بأنها لا تستطيع الفصل بين الخيال والواقع.

وتقول في هذا المعنى “ما نعيشه في البرازيل معقّد.. وأنا أشعر أنّ من واجبي، بوصفي فنانة، أن أتحدّث عنه”. ومن ثمّ ساد المسرحية تنديد بالوضع القائم من جهة، وتأكيد على ضرورة التغيير من جهة أخرى، وعدم القبول بـ”فشل الإنسانية”، أي أن مسرح جاتاهي ملتزم بالقضايا السياسية الراهنة التي قد تقود البشرية إلى ما لا ترضاه، بسبب هذا الانحدار إلى الفاشية في أكثر من بلد عبر العالم.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش