بيتر بروك جورج غورجيف لقاء استثنائي مع رجلين استثنائيين – عبدالناصر خلاف

مقال حول بيتر بروك
عبد الناصر خلاف
رحل منذ أيام المخرج و المنظر المسرحي العالمي بيتر بروك عن عمر يناهز97 سنة
و الذي يعد “أسطورة ” نظرا لتأثيره الكبير في الحركة المسرحية العالمية بدءا من كتابه المرجع : المساحة الفارغة ..و يسعدني ان اعيد نشر اخر مقال كتبته عنه في صفحة المسرح الجهوي الجلفة – كنت قد نشرته في مجلة “الفجيرة الثقافية ” بعد تكريمه في المهرجان الدولي للفنون- و سأتحدث في المرة القادمة عن لقائي بابنه سيمون بروك (Simon Brook) وكان حلمي الكبير ان يكتب لي بيتر بروك مقدمة لكتاب كنت بصدد إعداده و خاصة علاقته بالمسرح الشرقي و تأثره بالمعلم الروحاني : جورج غورجيف..
بيتر بروك
جورج غورجيف
لقاء استثنائي مع رجلين استثنائيين
– عبدالناصر خلاف-
تابعت مغامرة المخرج و المنظر الانجليزي المثير للجدل الظاهرة :” بيتر بروك ” منذ ان كنت طالبا بالمعهد العالي للفنون المسرحية – الجزائر ، وكنت اتساءل دوما عن سر هروبه من “الضجر الذي يسكن المسرح الغربي” الى سحر المسرح الشرقي الذي ينير عتمة وروح المتلقي التواقة الى وعي جديد ..
كنت أتلمس تأثيراته على المسرح في الوطن العربي نظرية و تطبيقا ، و بحثت عن نماذج لهذه التأثيرات خاصة عبر منجز مسرح الصواري بمملكة البحرين ( للأسف الشديد مشروعي هذا لم يكتمل لأن إدارة مسرح الصواري وافتني بالملفات الصحفية فقط ولم ترسل لي فيديوهات العروض المسرحية)
في البدء كانت هذه الغواية التي مارسها علينا نظريا عبر حواراته وخاصة كتابه المرجع “المساحة الفارغة ” : أعطني أية مساحة فارغة, وسأصنع منها مسرحاً حقيقياً .. إضافة إلى كتب أخرى مهمة ترجمها إلى العربية: د. سامي عبد الحميد- د. محمد سيف – د. فاروق عبدالقادر- غريب عوض…..وقد فتحت لنا من خلالها نوافذه السرية ،و جعلتنا نقترب اكثر من عوالمه الداخلية و اسماكه الذهبية و ينابيعه اللامرئية التي تفيض رؤى ،وتصورات و رغبات و اسفار تنقل القارئ العادي والمسرحي المتخصص على سواء إلى عوالم أكثر غرابة.. هذا الساحر الذي حلق عاليا بأجنحة المخيلة النورانية فوق جدران المسرح الغربي التي قتله الضجر.. و بفرح الطفل راح يرفل في عوالم التجديد و التجريب و الطيران بلغة سردية لذيذة و شهية تشبه تلك الصور الحالمة التي استغرقت عروضه المسرحية العديدة .
لكن الكتب و الحوارات و الدراسات لم تجب عن ماهية المؤثر الحقيقي الذي جعل من” بيتر بروك ” الذي يعيش حياة :الروسي – الانجليزي – الفرنسي يدخل غابة التحولات، و يأخذ منعطفا آخر في تفكيره و ابداعاته وحياته و تكوينه الغربي ( ابن عائلة روسية ، استقرت في لندن بعد الحرب و هاجر هو الى فرنسا حيث يقيم حتى الآن )
ظلت هذه الحلقة المفقودة في مسيرة الرجل تحضر احيانا على هيئة إشارات في عروضه و تدريباته و مضمرة في كتاباته.. ما الذي جعل هذا الساحر- القورو- الحكيم – العرفاني.. الذي احتفلت به إمارة الفجيرة سنة 2012 وكرمته خلال مهرجانها الدولي للفنون ، يفنى ليبقى ويخفي سره ؟؟
في كتابه “نسيان الزمن ” (1)Oublier le temps الذي أراد ان يعنونه بالذكريات الزائفة لأنه عبارة عن شذرات غير مكتملة لسيرته الذاتية ، وهنا يشير الى حادثة مهمة شكلت انقلابا حقيقيا في مسيرته و حياته وهي عثوره على قصاصة جريدة في بيت صديقته jeanne تتحدث عن المفكرو الصحفي وعالم الرياضيات الروسي “اوسبانسكي” (2)، والذي يتحدث فيها عن تجربته الشخصية مع الحكيم “جورج جورجيف” التي وثقها في كتابه “شذرات من تعليم غير معروف” ،
وقد وجهته صديقته الى السيدة Jane Heap (3) وهي المشرفة على تدريس تعاليم “جورجيف” و ( الرقصات المقدسة )
ذات يوم سألها “بروك”:
– ماهو اكبر عائق يحول بيني وبين الحقيقة ؟
اجابته “جين هيب”:
– بتر بروك
– ………..؟؟؟؟؟
هذه الاجابة جعلت” بيتر بروك” يتحول إلى عربة تجرها احصنة في اتجاهات مختلفة .. لقد كان داخله ممزقا ..هكذا ترك جين هيب و قام برحلة عرفانية الى دول عدة منها ” افغانستان” حيث التقى هناك بمجموعة من المتصوفة خاصة في مدينة “كابول” التي سحره لونها البني و لون ” جدران الطين والطرق الموحلة .”
معروف عن” بيتر بروك” عشقه و اختصاصه في السينما التي اكتشفها منذ صغره في زمن الحرب ، فقد كان منذ البداية يسعى كي يكون مخرجا سينمائيا، و بعد عدة عثرات اخرج افلاما قصيرة و طويلة منها ( رحلة عاطفية – جلالة السيد الذباب – اوبرا المتسوليين- المهابارتا – موديراتو كانتابل- الملك لير – تراجيديا هاملت – مارا-صاد – لقاء مع رجال استثنائئين ..)
لم يدرس” بروك” المسرح و لم يكن في يوم من الأيام ممثلا او أستاذا في المسرح,, وهو يصرح في كتابه انه ” لم يتلق قبل أن يعمل فى المسرح تدريبًا أو يتخرج من أكاديمية بل كان يسير خلف مشاعره وحماسه”..
بل انه يرتكز في بناء اعماله على بوصلة الحدس حيث تناول الكثير من النصوص المسرحية الملغمة خاصة منها نصوص شكسبير ،وكان همه هو الوصول إلى المصدر الذي ينبعث منه صوت المسرحية ..هذا الصوت الذي ينادي مخيلة المخرج ويحثه على الإصغاء..
تشاء الاقدار ان يلتقي” بيتر بروك “في نيوورك السيدة سلزمان Mme Salzmane (4) ،والتي يصفها بحافظة ارث “جورجيف” و حيث عرضت عليه اخراج فيلم عن معلمها مقتبس من كتابه ” لقاء مع رجال استثنائيين” ، وهو كتاب سيرة ذاتية كتبه باللغة الروسية .. وفعلا اخرج “بروك” هذا الفيلم الذي أحدث تحولا عميقا في حياة بروك الروحية و المسرحية ،وارسى تقنيات تدريب الممثل ..
ومن اجل تجسيد احداث هذا الفيلم سافر “بروك” الى عدة دول: ايران- روسيا- تركيا – مصر لكنه قرر تصويره بمدينة “كابول” التي زارها حين كان يبحث عن معالم طريقه كي يؤثث عالمه الداخلي الممزق وخيباته ..
قدم ” بروك” الكثير من التفاصيل في كتابه، عن اعداد و تصوير احداث الفيلم ، خاصة حديثه عن مقدمة الفيلم ،و يعتبر هذا المشهد الافتتاحي من اصعب المشاهد لأته صور في فضاء مفتوح مع سكان المنطقة بين الجبال .. صوره بحس المخرج المسرحي لا المخرج السينمائي حيث اسس فضاء للعرض بحيث تكون مجال الرؤية من اعلى الى اسفل .. وهذا ما جعله يهتم فيما بعد بنظرية الفضاء الخالي ,, و يبدو ان السبب الوجيه لاختياره بناية مسرح :Théâtre des Bouffes du Nord. (5) أنه يمنح الحميمية للمتلقي ، وذلك الشعور الذي استغرقه خلال ذلك المشهد الذي يرتكز على الطقوسية، و الصمت و الموسيقى و الفضاء الفارغ ..بعد إخراجه لهذا الفيلم بدأ “بيتر بروك ” يقدم عروضه في فضاء ات مفتوحة .
يقول الحكيم ” اوشو” ان اهم مشهد في فيلم” بيتر بروك ” هو المشهد الأخير الذي يقدم فيها “رقصات جورجيف” التي كانت تحت إشراف السيدة سلزمان شخصيا ,وقد سبق “لجورجيبف “ان قدم للجمهور الغربي لأول مرة عرضا سماه ” حركات” في مسرح الشانزليزيه بباريس اكتوبر 1923، كما قدم عرضين آخرين مع اربعين من تلامذته في نييورك جانفي 1924 ..قدمت هذه الرقصات في فضاء مسرحي خال بموسيقى Thomas Hartman ,, انها تركيبة فنية عبارة عن حركات متناغمة و رقص لم تألفه العين الغربية المتعودة على الرقص الكلاسيكي وعروض الأوبرا ..
و تقول الباحثة: فاطمة بلفوضيل (6) : ” ان هذه الحركات هي اكثر من تقنية رقص ، هي طريق حقيقي للعودة الى الذات في رحاب لقاء بين اللاحركة و الرقص “…تساعد هذه “الرقصات المقدسة” -تضيف الباحثة – على تعلم التأمل ، و الهدف منها هو التحرر من اتوماتيكيتنا و لا وعينا.. ان كل افكارنا و مشاعرنا في نظر “جورجيف” هي بالأساس ردود افعال ميكانكية ،و الرقصات بحاجة الى الانتباه و الحضور الكلي للشخص الذي يواجهه سؤال محوري : من انا ؟ انها إستراتجية للانفتاح على الكينونة الكلية المتناغمة ، حيث يكون العقل والجسم و مركز الإحساس في انتظام و تقارب متناغمين..
و هذا ما ركز عليه ” بيتر يروك” في تدريباته .. فالبروفة عنده اهم من العرض و هي” طقس” بامتياز .. لا يعلم “بروك” الممثل التمثيل لأنها مهنته ،لكنه يعلمه الانتباه و المراقبة و المشاهدة و البحث، وهو نفس ماذهب اليه “ستانسلافسكي” اذ على الممثل ان يبحث عن شيء ما بداخله و يحرر الطاقة .. فالانتباه في المسرح و الحياة ضرورة ..
وهنا تسمح هذه الرقصات لخلق حقل استكشاف كل ما يحتاجه الانسان لمواجهة ما يجعله حبيس ” الاعتقادات ،الأوهام ،المخاوف، العادات ، التوتر ، انعدام التناغم ، عدم القدرة على الفهم ، الذاكرة الضعيفة الخ …”
لقد استفاد” بيتر بروك” كثيرا من هذه الرقصات على مستوى عمل الممثل خلال التدريبات ، و على مستوى تجربته الشخصية مما جعله يتحول تحولا عميقا من كونه انسان ممزق الى مبدع، ولكنه لم يشر يوما الى تأثير “غورجييف ” في حياته كانسان و كمسرحي ، فأغلب المصادر التي يشير اليها دوما هي : ستانسلافسكي، أنطونان أرطو ، ماييرخولد ، بريخت ،قـروتوفسكي ،باربا …
بعد تقديم فيلمه :Meetings with Remarkable Men (7)
نجد اغلب الأعمال المسرحية التي اخرجها “بيتر بروك” ، تسير في اتجاه شرقي و روحاني و عرفاني .
اعمال تبحث عن الحقيقة مثل : المهابارتا – مؤتمر الطيور – العاصفة –حتى اخر اعماله “السجين”.
نتساءل، في النهاية، لما ذا لم يتحدث ” بيتر بروك “، عن حركات وتعاليم “جورجيف” ؟؟؟، لماذا لم يحدثنا عن كتاب ” جورجيف” الذي اقتبس منه الفيلم رغم ان الكتاب ترجم الى الفرنسية و الانجليزية ،وهو في الأصل مكتوب باللغة الروسية ، وهي لغات يجيدها” بروك” ؟؟؟
لقد كانت رحلته مع تعاليم ” جورج جورجيف” سرا من الأسرار.. لقد علمته جوهر المسرح أو ما أسماه ب “اللحظة الآنية” ,,التي هي انعكاس حقيقي لحقيقتنا الراهنة، حيث شبه هذه اللحظة بصياد سمك، يرمي شباكه في البحر وعندما يخرجها يمكن أن يصطاد سمكة تصلح لطبق حساء ..سمكة ذات ألوان ..سمكة سامة ….وفي لحظة تألق يصطاد سمكة ذهبية..
فهل اصطاد “بيتر بروك” اسماكه الذهبية بشبكة “جورج جوجيف “؟؟
احالة
– نشر هذا المقال في مجلة الفجيرة الثقافية العدد 18،مارس2020- هيئة الثقافة و الإعلام – إمارة الفجيرة- دولة الإمارات العربية المتحدة
المراجع
1- نشر هذا الكتاب باللغة الانجليزية سنة 1989 ، وصدر بالفرنسة سنة 2003 ، وترجمه الى العربية د.فاروق عبدالقادر بعنوان: خيوط الزمن : سيرة شخصية .
2- بيتر دميانوفيتش أوسبنسكي: هو فيلسوف واديب و عالم رياضيات روسي ( 1878-1949) نشر عدة كتب متعلقة بتجربته الباطنية مع جورجيف منها : البحث عن الخارق – شذرات من تعليم غير معروف..
3- ناشرة اميريكية ( 1883-1964 اصدرت مجلتها : The Little Review نشر فيها عدة كتاب من امريكا و بريطانيا و ايرلندا منهم ( اليوت – ازرا باوند..) اسست حلقة جورجيف الذي تعرفت عليه سنة 1924 ينيويورك .
4- اسمها جان دو سلزمان (1889-1990) من اصول سويسرية ،فرنسية الجنسية ،مترجمة واستاذة الرقص وهي تلميذة متفرد لجورجيف، الذي عرفها به صديقها الفنان الموسيقي طوماس هرتمان حيث قامت يترجمة بعض كتبه الى الفرنسية منها ” لقاء مع رجال استثنائيين” وهي من ساعدت بيتر بروك في كتابة سيناريو الفيلم المستوحى من هذه السيرة الذاتية لمعلمها وساهمت في عملية الانتاج ، اشرفت على تدريس رقصات جورجيف في نيويورك و باريس وكراكاس و لندن إلى غاية وافتها .
5- بني هذا المسرح سنة 1876 وتم ترميمه لأنه كان في حالة سيئة جدا واعيد فتحه يوم 15 اكتوبر 1974 بمسرحية تيمون الاثيني . بعد عمل شاق قام به كل من بيتر بروك و ميشلين غوزين .. وهما من مؤسسي النكز الدولي للابداع المسرحي الذي يضم ممثبيت من جنسيات متعددة.
6- كاتبة مسرحية ، باحثة و مترجمة جزائرية نشرت العديد من أعمالها في عدة صحف و مجلات جزائرية و عربية.. لها مشاركة دولية في ورشة : حركات غورجيف ، التأمل الديناميكي ، مركز أوشو نيسارجا ، الهمالايا ، التيبت ، ترجمت و نشرت عددا من الترجمات للحكيم اوشو، وكريشنا مورتي..
7- يمكنكم مشاهدة هذا الفيلم على هذا الرابط : https://www.youtube.com/watch?v=uYhv0O0gUTk

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش