“برودواي دمشق” رحلة المسرح الصعبة ضد المحافظين والمؤامرات

 

أطلق الشاعر السوري الراحل نزار قباني مصطلح “برودواي دمشق” على مسرح جده أبي خليل القباني حيث قال “أعجوبة كان هذا الرجل.. تصوروا إنساناً أراد أن يحول خانات دمشق إلى مسارح ويجعل منها برودواي”، هذا المصطلح الذي كان يطلق بشكل عام في الغرب على المسارح التي تتسع مقاعدها لخمس مئة شخص على الأقل. ومن هناك بدأ تاريخ مسرحي غني بالتقلبات.

دمشق – رحلة المسرح والفن المعاصرين في سوريا بدأت مع أبي خليل القباني الذي ينظر إليه بوصفه رائداً على مستوى سوريا والوطن العربي واستقطب نخبة من أبناء دمشق المحبين للفن في سبعينات القرن التاسع عشر ممهدين لأجيال قادمة كافحت وصبرت إلى غاية ظهور التلفزيون.

ولكن هذه الرحلة الطويلة لم تحظ بما تستحق من دراسة وهو ما حدا بالباحث والمؤرخ الدكتور سامي مبيض إلى إعداد دراسة تاريخية حملت عنوان “برودواي دمشق” ألقاها أمام مجموعة من كتاب السيناريو الشباب في مركز “دراما رود” في فندق الفردوس بدمشق.

مسيرة القباني الصعبة

رغم تقبل المجتمع التدريجي لمهنة الفنانين إلا أنها ظلت العمل الثاني لمعظمهم فلم يحترفوا الفن إطلاقا

بدأ مبيض حديثه عن نشأة أبي خليل القباني الذي ولد في حي الشاغور عام 1843 واسمه الحقيقي أحمد آقبيق، وهو من عائلة محافظة حيث كان أغلب أبنائها إما تجاراً أو رجال دين، ولكن أبا خليل تمرد على عائلته وكانت لديه مشاريع أخرى فكان يحضر عروض كراكوز وعيواظ في سوق ساروجة لمعلم المصلحة علي حبيب.

وعندما علم والده بميول ابنه عارض دخوله مجال الفن فافتتح محل قبان، وفيه كان يقدم عروضاً مجانية مع مجموعة من الهواة، حتى التقى بعبداللطيف صبحي باشا والي دمشق عام 1872 والذي أولاه الرعاية.

ويعرض مبيض لأسماء شباب دمشقيين استهواهم الفن فعملوا مع القباني في المسرح وغدوا لاحقاً زعماء وسياسيين كباراً أمثال عطا الأيوبي الذي شغل منصب رئيس وزراء سوريا سنة 1943 والمناضل عبدالرحمن الشهبندر ونيقولا شاهين الذي أصبح لاحقاً قائد شرطة سوريا عام 1920.

وأشار مبيض إلى أن المجتمع المحافظ في ذلك الوقت كانت لديه مشكلة مع القباني في امتهانه مهنة التمثيل وابتعاده عن تقاليد أسرته وتأثيره على الشباب ليشاركوا في مسرحياته.

وما زاد من نقمة المحافظين على القباني وفقاً لمبيض أنه بعد أن كان يستمد عروضه من المسرح الأوروبي بدأ يستعين بالتراث العربي ويحول الأناشيد والابتهالات إلى قصائد عشق وغزل، كما أن معظم قصص مسرحياته دارت حول علاقات الحب فاشتكاه أحد مشايخ دمشق للسلطان العثماني الذي أغلق مسرحه، وهو ما اضطره للسفر إلى مصر عام 1887.

ويتحدث مبيض عن رحلة عمل قام بها القباني إلى أميركا سنة 1893 بصحبة فرقته التي حملت اسم “المسرح للعادات الشرقية” وضمت 30 فناناً، حيث شارك في معرض دولي بمدينة شيكاغو وقدم عرضاً استوحى ديكوراته من خان أسعد باشا، ما يعكس حبه لمدينته رغم ما لاقاه من بعض أبنائها، كما قدم هنالك عرض “العرس الدمشقي” الذي حاكى تفاصيل البيئة الشامية.

ومن المفارقة أن القباني خلال تلك الرحلة واجه انتقادات شديدة من المجتمع الأميركي المحافظ بسبب تضمن عروضه وصلات من الرقص الشرقي التي اعتبرها الأميركيون انتهاكاً لعاداتهم، كما سعى البعض لنشر شائعات تفيد بأن القباني يتواصل مع الإدارة الأميركية حينها بغرض الإيقاع بينها وبين سلطات الاحتلال العثماني.

ويؤكد مبيض أن القباني خلال إقامته في مصر لم يسلم من مضايقات المحافظين وتم إحراق مسرحه فعاد إلى وطنه الأم حتى وافاه الأجل في مدينة دمشق عام 1903 إثر إصابته بمرض السل تاركاً خلفه نتاجاً ضم 80 مسرحية لم يعش منها إلا القليل.

مرحلة كاملة

أبو خليل القباني في مصر لم يسلم من مضايقات المحافظين وأحرق مسرحه فعاد إلى سوريا حيث توفي

بعد وفاة القباني عاشت البلاد فراغاً فنياً بسبب الظروف العامة حتى عام 1914 حيث ظهرت فرقتان مسرحيتان هاويتان بدمشق، الأولى مؤلفة من 3 أشخاص من منابت طبقية متباينة، هم أحمد عبيد وفوزي العظم وعبدالوهاب قنواتي، وقد قدمت عروضاً مهمة لم يبق منها إلا ما ذكرته جرائد تلك الحقبة وبعدها انصرف أعضاؤها إلى مشاغل الحياة، فأسس قنواتي معمل أدوية وافتتح عبيد مكتبة في سوق الحميدية من إصداراتها “الروزنامة الهاشمية” فيما انصرف العظم إلى أعمال أسرته.

أما الفرقة الثانية فكانت تابعة لنادي الكشاف الرياضي وعاشت مدة طويلة وكانت تقدم أعمال شكسبير ومسرحيات تاريخية، حيث عرضت عام 1919 مسرحية نقدية بعنوان “جمال باشا السفاح”، قدمت بصالة زهرة دمشق في ساحة المرجة، وهي من تأليف صاحب جريدة “الفتى العربي” الصحافي معروف أرناؤوط وبطولة الفنان الفلسطيني عبدالوهاب أبوالسعود.

ولفت مبيض إلى أن فرقة الكشاف استمرت حتى عام 1928 حيث أعلن إفلاسها بعد عملية سرقة تعرضت لها أثناء أدائها عرضاً مسرحياً في حلب، فعملت تلك الحادثة على تغيير طريقة التعاطي الرسمي والاجتماعي مع الفن حيث قامت الدولة السورية آنذاك بتسديد دين الفرقة وتأسيس ناد جديد باسم “نادي الفنون الجميلة” -ضم أبوالسعود والفنان تيسير السعدي وعضوية فخرية للعديد من الفنانين- ليقدم عام 1932 مسرحية داخل القصر الجمهوري مؤذناً بالاحتضان السياسي والرسمي لمهنة التمثيل.

وتجلت أول أشكال الدعم الرسمي للفن عندما تبنت وزارة التربية والمعارف طباعة بطاقات مسرحية “قيس وليلى” التي قدمها نادي الفنون عام 1944، حيث حضرت العرض الذي قدم في سينما عايدة مجموعة من الوزراء والنواب يتقدمهم رئيس الوزراء آنذاك سعدالله الجابري.

وفي إطار الدعم الرسمي لهذه الفرقة أرسلت الدولة السورية -بتوجيه من شكري القوتلي، رئيس الجمهورية في تلك الفترة- فنانين من الفرقة إلى مصر للاطلاع والتعلم والاستفادة من التجربة المصرية العريقة، وهما وصفي المالح وتيسير السعدي، لتكون المفارقة الكبيرة أن الشخص الذي عرّفهما على المجتمع المصري وأستوديوهاته ومسارحه ومخرجيه دبلوماسي شاب كان يعمل بالسفارة السورية في القاهرة اسمه نزار قباني.

ويبين مبيض أنه رغم تقبل المجتمع التدريجي لمهنة الفنانين إلا أنها ظلت العمل الثاني لمعظمهم فلم يحترفوا الفن إطلاقاً؛ فوصفي المالح كان يعمل مديراً لخزنة بالقصر الملكي في المهاجرين وفهد الكعيكي المعروف بشخصية أبوفهمي كان حاجباً في رئاسة الوزراء وسليم كلاس كان موظفاً بالبنك المركزي ورفيق سبيعي كان في محافظة دمشق ودريد لحام كان أستاذاً بكلية الكيمياء، لتأتي النقلة النوعية للفن وللعاملين فيه مع تأسيس التلفزيون السوري سنة 1960.

وذكر مبيض أنه “في مطلع الستينات أخذت فنون المسرح والدراما الإذاعية والتلفزيونية تدخل مسار تطورها الطبيعي بعد أن قدم لها أبوخليل القباني إنجازات كبيرة مهدت لأجيال محترفة من الفنانين السوريين وبهذا السرد المختصر نطوي صفحة مرحلة كاملة كانت غائبة ولم يكتب عنها إلا ما ندر”.

https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش