النقد المسرحي العربي يعاني فوضى المصطلحات – عواد علي

 

 

شأنه شأن النقد الأدبي؛ يعتمد النقد المسرحي على الترجمات والنظريات الغربية، ولكن هذه الإسقاطات قد تجانب الصواب في الكثير من الأحيان، إما لضعف في ثقافة الناقد وإما لأخطاء في ترجمة المصطلحات أو إجرائها، ما خلق فوضى اصطلاحية وجب تصحيحها.

في ظل انفتاح النقد العربي الحديث على المناهج النقدية والعلوم الإنسانية في الغرب، من خلال الترجمة، صارت تنهال عليه معارف ومفاهيم ومصطلحات شتى، أخذ النقاد والدارسون يتعاملون بها، أو يوظفونها في كتاباتهم ومقارباتهم سواء التنظيرية أو التطبيقية.

وقد شمل ذلك كل أنواع النقد (الأدبي والمسرحي والسينمائي، إلخ.). لكن ثمة إشكالية كبيرة نتجت عن ذلك هي غياب الدقة، والقصور المعرفي والمفهومي في استخدام المصطلح، وجهل دلالته أحيانا، والخلط بينه وبين مصطلح آخر له اشتغاله في حقل آخر غير الحقل الذي يشتغل فيه الناقد، أي توظيفه في منهج نقدي غير المنهج الذي تشكّل في رحمه، علما أن المصطلح وثيق الصلة بالمنهج، ويفقد شرعيته خارج توظيفه.

تُعزى مشكلة غياب الدقة في النقد المسرحي إما إلى ضعف في ثقافة الناقد والدارس ومحدودية خبرته، وإما إلى الفوضى في ترجمة المصطلحات إلى العربية وتعدد مرادفاتها إلى درجة التنافر أحيانا، بحيث يصعب على هذا الناقد “المسكين” الأخذ بالأدّق منها.

في النقد المسرحي العربي تبدو هذه المشكلة واضحة يجب الوقوف عليها، وتنبيه النقاد والدارسين والمشتغلين في المسرح إليها، فهو يعاني من جملة معضلات واضطرابات تتعلق بكيفية التعامل مع المصطلحات النقدية أو توظيفها في قراءة وتحليل التجارب المسرحية (النصوص والعروض والظواهر).

وكثيرا ما أدّى الفهم المغلوط لتلك المصطلحات في الممارسات التطبيقية التي يقوم بها نقاد كثيرون إلى الإساءة إلى هذه التجربة المسرحية أو تلك أكثر من الإسهام في تحليلها، أو استكشاف أبنيتها الدلالية وجمالياتها، أو شعريتها (بالمعنى الذي حدده جاكوبسن وتودوروف)، أي الخصائص التي تصنع فرادتها، وتهتك الستر عن خباياها، ما جعل من تلك المصطلحات، في أحيان كثيرة مجرّد كيانات بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا قيمة معرفية.

من هذه المصطلحات، مثلا: المسرح االنسوي والمسرح النسائي، السيميائية وعلم الدلالة، الميتامسرح، التفكيكية، والمكان والفضاء، وهي غيض من فيض كما يقال.

النسوية والتفكيكية

في ما يتعلق بـالمصطلحين الأولين كثيرا ما نقع على مقالات نقدية مكتوبة عن تجارب مسرحية تقف وراءها كاتبات ومخرجات وممثلات عربيات على أنها تنتمي إلى “المسرح النسوي”، وحين نشاهد تلك التجارب، ومن ثم نقرأ المقالات المكتوبة عنها، نجد أنها لا علاقة لها بـ”المسرح النسوي”، وإنما هي مما يُصطلح عليه بـ”المسرح النسائي”، الذي يشير إلى نوع من النشاط المسرحي تقوم به نساء كاتبات ومخرجات وممثلات متمرسات أو هاويات.

ويستند هذا التحديد إلى ما يحدث وراء خشبة المسرح، لا إلى ما يُقدَّم عليها، ولا يخلو البعض من تجارب هذا النوع من المسرح، أحيانا، من رؤية ذكورية. في حين أن مصطلح “المسرح النسوي” يشير إلى التجارب المسرحية التي تحمل وجهات نظر نسائية بحتة تشكل محاولات لتحدي التقاليد المسرحية (الذكورية)، التي تسعى إلى قولبة صورة المرأة، وتعكس الأبنية الاجتماعية التي تحصرها في الأدوار الثانوية والتابعة، أو تروج لها بوصفها “قطعة تزيينية” أو “شيئا جميلا”.

فهم المصطلحات النقدية بشكل خاطئ في الممارسة التطبيقية يسيء إلى الكثير من التجارب المسرحية

ومن الواضح أن تحديد هذا المصطلح يستند إلى ما يحدث على خشبة المسرح، أو ما يُقدَّم عليها من خطاب مسرحي ذي طابع نسوي. ويحدث العكس، أحيانا، أي نقرأ مقالة نقدية عن عرض مسرحي نسوي بوصفه عرضا “نسائيا”، لمجرد أن المؤلف أو المخرج امرأة.

أما مصطلح “التفكيكية” فإنه كثيرا ما يُستخدم عن جهل في النقد التطبيقي وعلى المستوى الأكاديمي، في حين أن تفكيك عناصر العرض المسرحي شيء والمنهج أو النظرية التفكيكية في النقد شيء آخر لا يصح الخلط بينهما، فالركائز التي اعتنى بها دريدا في منهجه التفكيكي هي ركائز نقدية على غرار الركائز البنيوية أو السيميائية أو التأويلية، ولا نريد أن نحدد خصائصها، فبإمكان القارئ الرجوع إلى المصادر التي تبحث فيها.

في هذا السياق نجد العديد من المقالات النقدية التي يشير فيها أصحابها إلى أنهم يهدفون إلى “تفكيك” هذا العرض المسرحي، أو هذا النص، أو ذاك، وما إن تنتهي من القراءة حتى تجد أن ما قدمه الناقد ليس إلا انطباعات، أو كتابة إنشائية تستخدم المصطلحات النقدية على نحو عشوائي، خالطة الحابل بالنابل.

مصطلحات خاطئة

ويخلط بعض نقاد المسرح بين مصطلحي “السيمياء” و”علم الدلالة”، فيستخدم الثاني في سياق تحليله للعلامات البصرية والسمعية في هذا العرض المسرحي أو ذاك، أو العكس، غافلا عن أن “علم الدلالة” ترجمة لمصطلح “السيمانطيقا” (Semantic)، وهو علم لغوي يبحث في الدلالة اللغوية، ويلتزم فيه حدود النظام اللغوي والعلامات اللغوية، دون سواها، ومجاله: دراسة المعنى اللغوي على صعيد المفردات والتراكيب.

ويمكن توظيفه، بالطبع، في دراسة النص المسرحي، في حين أن مصطلح “السيميائية” هو ترجمة لمصطلح (Semiology) أو (Semiotics)، ويشير تعريفه، بوصفه مقاربة نقدية للعرض المسرحي، إلى دراسة النسق العلاماتي للعرض المسرحي، وتحليل شفراته، والتركيز بصورة خاصة على بيان كيفية انتظام هذه العلامات والشفرات في أنساق دالة، والكشف عن مكوناتها، وآلية اشتغالها، وصولا إلى استنطاق شعرية العرض. والأغرب من ذلك أن بعضهم يستخدم مصطلح “السيميائية” بمعنى “الرمزية”.

مصطلحات بلا ذاكرة ولا قيمة معرفية
مصطلحات بلا ذاكرة ولا قيمة معرفية

وينسحب الأمر كذلك على استخدام مصطلحات “الفضاء الدرامي” و”الفضاء المسرحي” و”المكان المسرحي”، وعدم إدراك الحدود الفاصلة بينها في التجربة المسرحية، فنقرأ عند هذا الناقد أو ذاك وصفا أو تحليلا للفضاء المسرحي بوصفه مكانا مسرحيا! أو بالعكس نقرأ عن أشكال مختلفة من أمكنة العرض (مسرح علبة، مسرح دائري، مسرح هواء طلق، إلخ.) بوصفها فضاءات مسرحية! في حين ميّز النقد المسرحي الحديث، بشكل عام، بين “الفضاء الدرامي” و”الفضاء المسرحي” مقابل “المكان المسرحي”، على أساس أن الأول هو من نتاج مخيلة الكاتب المسرحي، ويُعدّ فضاء مجردا؛ على القارئ أن يشيّده عبر مخيلته ليحدد من خلاله إطار تفاعل الحدث والشخصيات. وهو يحتاج إلى “مكان مسرحي”، أيا كان شكله وطرازه المعماري (خشبة مسرح علبة، مسرح دائري، مقهى، ساحة احتفال، إلخ.) كي يتحقق ويصبح ملموسا، ويتمكن من عرض خصوصيته، أي يصبح “فضاء مسرحيا”.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش