الميزانسين في العرض المسرحي – سعاد خليل

 

ماذا تعني كلمة ميزانسين؟

الميزانسين يعني  التشكيل الحركي بمعني انه في العرض المسرحي لا ينفصل الميزانسين عن الحركة المسرحية. ستستعرض في هذه الدراسة اهمية المفهوم للميزانسين في تاريخ المسرح.

 وفي مقالات  اخري  سنستعرض  علاقة الميزانسين بالفن التشكيلي ، أي اللوحة الفنية  لما لها من علاقة وخصوصية.

 وكذلك سنتطرق الي حركة الممثلين علي خشبة المسرح واشكال الحركة وانواعها ووظيفة كل شكل او نوع منها .اي سنقسم بعض من هذه الدراسة الي مقالات كل مقال نطرح فيه جزئية منفصلة.

في دراسة للدكتور فاضل المويل عن الميزانسين والحركة يعرفنا حسب القاموس الموسوعي الروسي الصادر عام 1903 عل النحو التالي : اخرج مسرحية علي خشبة المسرحة ، مسرحتها فالميزانسين اذا حسب هذا التعريف هو الاخراج نفسه. وبنا علي هذا التعريف يمضي المخرج والباحث المسرحي السوفيتي الكسي بوبوف بالحديث عن ما يسميه بلغة المخرج ،ن حيث ان التعبير بسلسلة من التشكيل الحركي هو لغة المخرج واذا انتقلنا قدما الي عام 1937 نجد ان الموسوعة السوفيتية الصادرة في ذلك العام تعطينا تعريف متطورا اكثر للميزانسين، فهو:

التشكيل الحركي ، توزيع الادوار علي الممثلين.

لحظة من لحظات عمل المخرج التي تسجل وضع الشخصيات المسرحية علي مدي العرض المسرحي كله وهو التعريف الذي يبدو بنظر ريمز قديما جدا حيث يظهر بعد قرابة عقدين من الزمن مفهوم الفعل الذي ينطبق علي التشكيل الحركي ، وذلك في طبعه جديدة من القاموس الموسوعي السوفيتي الصادر عام 1954 أي بعد مرور نصف قرن علي اكتشاف ستانسلافسكي .ففي هذ القاموس نري تعريف الميزانسين عل النحو التالي : توزيع لممثلين علي الخشبة في كل لحظة من لحظات الفعل في العرض المسرحي.

 وتضيف الموسوعة السوفيتية الكبيرة الصادرة في العام نفسه ان التشكيل الحركي يعبر عن افعال الشخصيات ومنطق سلوكها الذي ينشأ من سيرورة الفعل وعن العلاقات النفسية والصدم والصراع في السيل الذي لا ينقطع من التشكيلات الحركية التي تحل كل منها مكان الأخرى. اما المخرج والمنظر الروسي الكسي بوبوف فيعرف الميزانسين علي انه التعبير علي الاحداث بالصور التشكيلية عبر الممثلين وهو يراه بانه لغة المخرج مثلما ن الرقص هو لغة فن الباليه . كما انه اجدي وسائل التعبير لدي المخرج، بل واحدة من اضخم وسائل التعبير الفني عن خطة ومشاعر وافكار المخرج التي تتولد عن المسرحية وتنعكس فيها بالحياة ذاتها.

اذا انتقلنا الي المعاجم المسرحية العربية (وهي قليلة علي اية حال) لوجدنا مثلا ان معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية للدكتور ابراهيم حمادة قد غاب عنه مصطلح الميزانسين وذلك في  طبعاته الثلاث. مع ان الطبعة الأخيرة منه تعود الي عام 1994 أي بعد انن اصبح هذا المصطلح متداولا في الوسطين المسرحي والسينمائي . لكن المؤلف يذكر مصطلح التشكيلات الجماعية كترجمة لكلمة Gruping  ويعرفها علي النحو التالي : التشكيل هو عملية تنظيم اوضاع ومواقف اللاعبين ، وتحركاتهم فوق خشبة المسرح. ولا شك في ان التشكيل في نظر المخرج خاضع لأسس نفعية وجمالية ايضا.

وبالانتقال الي مفهوم ، الحركة المسرحية فإننا نجد هذا المعجم يفرد له مساحة واسعة من الشرح والايضاح ، فالحركة حسب هذا المعجم هي ترجمة لمجموعة من المفردات الانجليزية والفرنسية .فالمعني gesture بالإنجليزية ,geste بالفرنسية  مأخوذة من اللغة اللاتينية التي تعني وضعية الجسد وحركة اطرافه . وقد استخدم الالماني برتولد بريشت الكلمة بلفظها اللاتيني غستوتس للتعبير عن مفهوم محدد للحركة في المسرح .  اما كلمة gestuelle  فهي كلمة محدثة ظهرت في القرن العشرين للدلالة علي الحركة كنظام تعبيري . كذلك تطلق كلمة حركة بالعربية علي حركة جسد الممثل الواحد او مجموعة من الممثلين علي الخشبة Movement وهي عكس الثبات .. اما علم الحركة kinesique فهو العلم الذي يرصد التواصل الذي يتم بحركة الجسد وتعابير الوجه، والتأثير المتبادل بين الحركة والكلام ، وبين الجسد والفضاء.

من خلال هذه التعاريف لكل من الميزانسين والحركة نجد ان هذين المفهومين متقاربان، بل لعل الحديث عن الحركة في المراجع التي ذكرناها غالبا ما يقصد به الحديث عن المزانسين كما راينا ، حيث اننا لا نجد في أي كتاب من الكتب الثلاث أي ذكر لكلمة ميزانسين.

كما ذكرت سنتطرق للحركة المسرحية في مقال اخر اما هنا سنوضح تاريخ واهمية الميزانسين في المسرح.

اهمية المزانسين في العرض المسرحي:

للميزانسين اهمية كبيرة في سياق العرض المسرحي ، ولعل اول من نظر لهذه الاهمية هو الكسي بوبوف الذي يري انه غالبا ما يكون للميزانسين النابع من صميم المخرج والمتكون في الزمان والمكان تأثير يضاهي في قوته تأثير الاقصوصة والقطعة الموسيقية .والقصيدة الشعرية واذا ارتبط هذا التأثير بالجوهر الانفعالي للمسرحية وبنائها الشعري  فإنها ستؤثر متوحدة بالأفكار والمشاعر الي تستثيرها المسرحية ، ونحن نذكر عددا من الميزانسينات التي وضعها معلمونا الكبار : ستانسلافسكي ، ودانتشنكو ، وماير خولد، وفاختانكوف ، وميردجانف ، التي تعتبر صورا ساطعة في فن الاخراج . ويعتبر بوبوف ان قدرة المخرج علي التفكير بالصور الفنية التشكيلية ، أي التعبير عن الاحداث بالصور التشكيلية عبر الممثلين تتجلي في تمكنه من فن الميزانسين . ان قدرة العرض المسرحي وقوته في التأثير تأتي من خلال اسلوبية محددة في وضع الميزانسين الذي يعبر بطبيعته وشكله التخطيطي وسرعة ايقاعه عن الفكرة بدقة  ويري بوبوف ان المثل الأعلى الذي يجب ان يصبو ا اليه المخرج في العرض المسرحي هو ( التوصل الي وضع ميزانسينات تعبر عن جوهر ما يحدث بشكل ملموس وصادق من وجهة النظر الحياتية ،  .و في الوقت نفسه بتعبيرها الحركي الي مصاف الاظهر الفني لفكرة العرض .ويحدد بوبوف مجموعة من الاشكال للميزانسين فهناك الميزانسينات المستوية ، والعميقة ، والتي تشكل افقيا او عموديا . او قطريا ، و حسب دائرة ، او فق خط حلزوني ، واخري متناظرة او عديمة التناظر ولكل شكل منه الاشكال وظيفته في العرض المسرحي ، فهو مرتبط بالمضمون الداخلي للمشهد ، وان لم يكن علي هدا النحو فانه يكون فاقدا للمعني وغير مفهوم من قبل المتفرج. فالمزانسين المتناظر مثلا قد ينشأ من الدراما التي تضع شخصيات المسرحية علي نحو متناظر ، فمثلا عند موليير نري الابوين في المركز ، بينما نري الابنين والخادمين علي طرفين متوازيين. ومن المعروف ان الميزانسين المتناظر لا يخلق انطباع بالديناميكية ، وانما انطباعا بالهدوء والاستقرار النفسي . وعندما يتحول الميزانسين المتناظر الي مجرد وسيلة جمالية شكلية محضة تفقد المسرحية ديناميكيتها وحيويتها . اما الميزانسين الدائري فيعطي انطباعا بالانغلاق. بينما الميزانسينات القطرية هي الاكثر ديناميكية علي خشبة المسرح .

الميزانسين عبر تاريخ المسرح :

من الصعب بمكان معرفة كيف كان الميزانسين عند المخرجين المسرحيين القدماء ، بل وحتي المحدثين ، ذلك لعدم وجود الدراسات او المقالات النقدية الكافية التي كانت تتناول العرض المسرحي بالتفصيل بحيث يتم خلالها الحديث عن الميزانسين , بهذا الصدد يقول اوسكار ريمز : من المؤسف ان المعلومات المعلقة بالتشكيل الحركي جد شحيحة  ولا يبدو المؤرخون المسرحيون دقيقين عندما يتطرقون الي خصائص الحركة الجسدية في العرض المسرحي عبر تاريخ المسرح ، من المسرح القديم الي العصور الوسطي ، الي عصر النهضة ، بل لا يشد المسرح الاوروبي الحديث عن هذه القاعدة ، لقد نسي البحاثة التشكيل الحركي وهم يدرسون الادب المسرحي والعمارة المسرحية دراسة  وافية ومستفيضة يحسدون عليها .

فاذا انطلقنا من الفكرة التي تقول بان الكتاب المسرحيين الاوائل أي قبل ظهور الاخراج المسرحي كفن مستقل بذاته كان مخرجين لأعمالهم وانطلقنا من المسرح الاغريقي لوجدنا ان الجوقة في عروض هذا المسرح كانت توضع في تشكيلات حركية كمناسبة للقيام بأدوارها علي اكمل وجهة. وكانت هذه التشكيلات تراعي هندسة المسرح وتكوين المنصة والعلاقة مع الممثلين والديكورات فوق هذه المنصة . لقد كان عدد افراد هذ الجوقة يصل في بعض العروض الي خمسة عشرة فردا . ومن الخطأ تصور انهم كانوا يوضعون علي خشبة المسرح دون خطة يتم بموجبها ترتيبهم وتنظيمهم وفق تشكيلات حركية محددة : فقد كانت الجوقة في اقدم العروض المسرحية هي التي تتلو المقدمة التي كانت تسرد الأحداث  وسير الحبكة المسرحية ، وكانت هذه التلاوة تأتي علي شكل نشيد يسمي (باردوس ) وفيما  بعد تولي احد الممثلين هذه المهمة . وعندما كان ينتهي من تلاوة المقدمة تدخل الجوقة الي الجزء المسمى من المسرحي ب (الأوركسترا) الذي هو مكان بجوار الصفوف الاولي للمدرجات التي يجلس عليها المشاهدون . وهو المكان المخصص لهذه الجوقة . وعندما كانت تحل الجوقة الي هذا المكان كانت تدخل احيانا بحركات راقصة علي نغم منفرد يعزف علي الناي او القيثارات احيانا وهي تغني . وبعد ذلك يلتف اعضاؤها حول الهيكل وظهورهم لي الجمهور ، وكانوا وهم في هذه الحالة يتابعون سير الدراما . ويدخلون في وقت لأخر في حوار مع الشخوص . ومع نهاية الحدث كانت الجوقة تنشد الوقفة الاولي ) والميستاسيمون ). وكانت الاحداث والوقفات تتوالي بالتناوب . اما خاتمة العرض فقد كانت احيانا عبارة عن نشيد لهذه الجوقة ان مشهدا ختاميا . هذا كان في التراجيديا ، اما في الكوميديا فان الامر مختلف قليلا . حيث ان وظيفة الجوقة هنا هي وظيفة هجائية فإضافة لتلاوتها للمقدمة والوقفات كان موكلا للجوقة ادأ  ما يسمي( بالباراباسيس ) وهو قسم من الكوميديا يهدف الي اضافة المزيد من الحيوية علي العرض المسرحي ، حيث تتوجه الجوقة به الي المشاهدين مباشرة وكانت ( الباباباسيس )تتألف من سبعة عناصر تقسم الي مجموعتين تحتوي اولادها علي (الكوماتيون) وهو نشيد وداعي قصير يحص ممثلي الحدث السابق . وعلي (الماكرون ) وهو مقطع شعري ذو تفعيلة واحدة يتلوه قائد الجوقة . اما المجموعة الثانية فتتألف من الاودة ) وهو مقطع غنائي موجه الي الاله لطلب الحماية والنصر . (والايبرما ) الذي بتم فيه مهاجمة ساسة العصر، وتناول الاخلاق العامة بالنقد اللاذع. لقد كانت حركات الجوقة والممثلين في العروض الكوميدية تسهم الي حد كبير بإظهار الجانب الهزلي. وبالانتقال الي مسرح شكسبير نجد ان حركة المجاميع في هذا المسرح تشبه الي حد ما حركة الجوقة في المسرح الاغريقي ولو  كان الامر مختلفا من حيث الوظيفة .

 فعروض شكسبير تميزت بوجود عدد كبير من الممثلين او المجاميع علي خشبة المسرح. ففي مسرحية يوليوس قيصر مثلا يقف أنطونيو ويخطب في المجاميع ويلهب مشاعرهم ويدفعهم لممارسة القتل والتدمير ، ولا تغب عن الذهن مشاهد المعارك  في معظم مسرحيات شكسبير ، وهي المشاهد التي تملاء خشبة المسرح بالجنود والفرسان المتحاربين فيما بينهم . ولعل  الأكثر بروزا هو تلك المشاهد الاخيرة في ريتشارد الثالث ومشاهد الفصل الرابع في انطونيو وكليوباترة ، وغيرها الكثير كانت هذه المشاهد يرسمها شكسبير بدقة  متناهية وفق خطط للميزانسينات  ينتظم وفقها الممثلين  بحيث لا تحدث اخطاء سواء في حركة الممثلين او في المعارك او في عملية المشاهدة لأنه لو حدثت اخطاء لكانت هذه الاخطاء قاتلة للممثلين في مشاهد المعارك ..يقول النقاد  الالماني اوسكار ريمز عن جوتهالد افرايم انه نقطة فاصلة  فيما يتعلق بطور التشكيل الحركي ويقول بان التشكيل الحركي قبل هذا الناقد كان عبارة عن تحريك بسيط خط سير الممثل علي الخشبة ، من نقطة الي اخري ، وليسينغ هو الذي قال بضرورة ان يكون لهذه التنقلات معني ، وان تتجاوب الحركات مع مشاعر الشخصيات ويعلق ريمز بانه من الطبيعي ان هذا التجاوب كان واردا ولكن بطريقة عفوية . والممثلون السابقون كانوا يحافظون عليه ، ومن غير المحتمل ان يكون المخرجون قد وقفوا في وجه ذلك عن وعي . وعلينا نحن ان نفترض ان ثمة معوقات كانت موجودة حيث ان المخرجين يميلون دوما لوضع القواعد والقوانين والحدود.

في كتاب الكسي بوبوف فيورد ( التكامل الفني في العرض المسرحي) وصفا للميزانسين في عرضين مسرحيين من اخراج ستانسلافسكي هما (زواج فيغارو لبومارشيه ، والقلب الحار ، لاستروفسكي . حيث يشبه الميزانسين في العرض الاول بالرقص علي الجليد. يقول : اننا نذهل من ذ لك التضاد الصارخ في طبيعة الميزانسينات وسرعتها الايقاعية في هذين العرضين . واذا رسمنا علي الارض الميزانسينات في زواج فيغارو ، لذكرتنا بالتأكيد بالرقص علي الجليد ، فهي تتكون من دوائر وخطوط حلزونية وثانيات . ان خطوطها وسرعتها الايقاعية انما يمليها المضمون نفسه . وطبيعة الشخصيات والعصر والتألق الرشيق في الحوار الكوميدي .

واخيرا خطة اخراج ستانسلافسكي ورؤيته لمسرحية بومارشيه في مرحلة تاريخية محددة بعد ثورة اكتوبر . اما الشخصيات المسرحية في القلب الحار . فهي كالأصنام قدت من جذع شجرة واحدة فخطو وسرعة ايقاع عالم خلينوف .. غرادوبوف .. قد امليا ميزانسينات اكثر ثقلا وسكونا .

باختصار شديد عن ميزانسينات العروض يقول الباحث الدكتور : فاضل المويل  ان ميزنسينات عروض مسرح موسكو الفني اصبحت علامة بارزفة في المسرح الروسي  فليس عبثا ان اعلانات مسرحيات تشكوف التي كانت تقدم في الريف كانت تحمل عبارة اخرجت هذه المسرحية علي طريقة التشكيل الحركي لمسرح موسكو الفني وهكذا يبدا تاريخ التشكيل الحركي الفني في المسرح الروسي كوسيلة خاصة من وسائل التعبير المسرحي كعنص =ر تول من عناصر فن الاخراج المعاصر .

ان الحديث عن المزانسين عبر تاريخ المسرح ننهيه عند ستانسلافسكي وعروض مسرح موسكو الفني وذلك لعدم وجود المراجع التي تتحدث عن الميزانسين عند المخرجين الاخرين كما ذكرنا.

جزء من دراسة للدكتور :فاضل المويل .

home

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش