المسرح الجهوي صيراط بومدين –سعيدة يرفع الستار عن عرض ” الجاثوم ” حينما يطبق على الحرية والعيش الكريم – بقلم : عباسية مدوني –الجزائر

استقبل ركح المسرح الجهوي ” صيراط بومدين ” لولاية سعيدة ، العرض المسرحي  ” الجاثوم ” من إنتاج المسرح الوطني ” محيي الدين بشطارزي” في إطار الجولة الفنية للعرض ، ” الجاثوم ” من تأليف ” وفاء براهم شاوش” وإخراج ” عبد القادر عزوز ” .

العرض عصارة ورشة بحث مكثّف في حقل التراث وتحديدا موروث الصحراء الضارب في الأعماق ، اتسم العرض بإيقاع مميّز رافق لوحات العرض منذ الإستهلال إلى قفلة العرض التي بقيت مفتوحة وسط إيقاع التكهّن ، وإيقاع التفكير الجديّ في مسائل ستظل عالقة ولن يكون لها حل جذري ما دام ” الجاثوم ” قابعا في حلق أمم مغيّبة الفكر والمنطق والقرارات الصائبة  ، مطبقا على صدورهم التي تحتاج إلى التأوه والتنفس السليم .

في ” الجاثوم ” عديد الإسقاطات ذات الأبعاد الإنسانية والبعد العالمي ، من هرم السلطة إلى آخر إنسان ما يزال يسعى لأن يرى النور وسط كثافة القوانين وقهر السلطة وجبروت الإعلام وتكميم أفواه الحريات ، وسط أبصار تريد أن ترى ما تفرضه القوى العليا أن تراه ، ووسط صدى الإيقاعات الواجب التمتّع بها بمنأى عن التمرّد والخروج عن العـُرف والتقاليد تحت مظلة وقبضة السلطة بشتى توجهاتها وانتماءاتها التي تفرض ما يجب وتضرب من حديد حين المساس بتعرية وكشف الحقائق .

العرض المسرحي في تناوله الأعراف والقيم والعادات والتقاليد التي هي قانون ثابت ما وجب الخروج عن حدودها ، نلمس قدرة المخرج على ضبط فواصل الربط ما بين اللوحات ، وما بين النقط المتتالية التي تسبق كل رواية أو قصة وتنتهي بها كذلك ، ولربما غالبا بعلامات التعجب والإستفهام ، حينما وضع المتلقي وسط دوّامة الموروث الأفرو –أمازيغي بمعناه الشامل ، وحينما أدخل هذا المتلقي دائرة الإرث على مستوى الصحراء ،  وكيف يمكن استغلال ذلك خدمة للمسرح وخدمة لعرض مسرحيّ أراده رسالة واضحة المعالم والإتجاهات في أن الإبداع لا حدود له ولا عرق ولا توجّه ، بل قيمة إنسانية خالصة .

وفي ” الجاثوم ” نراه قد وفّق إلى حد كبير في إختيار طاقم الممثلين وحتى الراقصين ، فكانوا مختلفي البشرة ، والقامة والحجم متعمّدا ذلك ، مبرزا خاصية التنوع في وطن بحجم الجزائر ، مانحا كلّ شخصية عالمها وتوجّهها وعالمها، منطلقا من قصة صاحب القصر ” أحمد مرزوقي ”  في دور  “الصادق” الذي في سعيه للحفاظ وهمًا على الإرث من عادات وتقاليد نراه متجبّرا ، حانقا وصاحب سلطة تدميرية تأتي على الأخضر واليابس إذا مسّ ذلك مصالحه ، هو الذي تنكشف أسراره تباعا جرّاء تمرّد ” فوزية ” التي جسّدت دورها ” إيمان بلعالم”  التي ضربت عرض الحائط كل الأعراف والتقاليد كسبا لحريتها ، رافضة أن تكون ممّن جثمت على صدورهم القوانين الجائرة والأعراف البالية التي تقيّد الحريات وتقمع الرغبات ، وتطمس حرية الاختيار ، فكانت عروسا في قراراتها ، وكانت صاحبة مواقف ثابتة ما أرادت أن يتمّ كسر جناحها الذي تحلّق به في عزّ شبابها وعنفوانها بعد أن كسرتها الأعراف البالية والقيم المفخّخة  ، وقد كان الممثل ” هورو سليمان ” ميزان العرض المسرحي من خلال دوره الذي كان متزّنا ، ممثلا صوت الضمير الحيّ الذي قد يبقى بمنأى عن كل الصراعات وفوضى السلطة ، لكن حين الجهر بالحق يكون المجهر والأداة الضاربة في وجه الجبروت وفي وجه الصراعات الداخلية والخارجية ، فكان سندا ل” فوزية ” ويدا ممتدّة لها حين تأزم ، كما الوطن وصراعاته السياسية سيظل يحمل في رحمه جينات النضال والرجال الأحرار والنساء الحرائر لقول كلمة لا فعلا في وجه كل صراع يهدّد أمن واستقرار الأمم .

وكانت الفنانة ” باعلي وهيبة ” محور الربط في القصة الجوهرية للجاثوم ، فكانت من جسّد دور الوالدة في القصة ، وكان دورها متأصلا في الحرية بمعناها الشامل ، في الرغبة التي قـُـمـعت على حين غرّة ، وفي الإنسان الذي قهر تحت مسمى القانون والانصياع له ، فدخلت خشبة الركح عرجاء ، عمياء ومثقلة الظهر بقبضة المجتمع الغارق في الأسمال البالية من تقاليد وعادات قاهرة ، فكانت الأم التي تبحث عن ملاذ آمن لإبنتها ، وكانت الوطن الذي وجب الإحتماء بظهره جراء طعنات السلطة والقوانين  الجبرية ، وكانت الزاد في زمن الجوع والقحط والجبروت ، وصارعت مرارا وتكرارا ، إلى أن إنقطع نفسها وسط دوامة الإستفهامات ووسط زوبعة من الظلم والقهر ، فخرجت منحية الظهر تماما ، مثقلة الخطى مجدّدا ، منكسرة الظهر جرّاء أكثر من مقاومة خاضتها في ظل صراع سياسي وأيدلوجي وإجتماعي ، بقيت تصارع فيه حتى تظل سامقة الحضور وشامخة .

في حين كانت الفنانة ” نسرين بن محمد محي الدين ” أحد الألغاز المبهمة في القصة ، وأحد الموجات الغير مستقرة وسط عاصفة السلطة وجبروت الزمن ورعب المكان ، فكانت بين مؤيد ومعارض ، بين سلطة رحيمة تارة وبين سلطة قاهرة مرارا ، لعبت على الحبلين كحزب يسعى لكسب الأصوات واعتلاء عرش السلطة ومنح الفتات لاحقا للشعب المغلوب على أمره ، فكانت هي الإعلام المسيّس والموجّه ، والجاثم بقوّة على أنفاس الشعب والأمم تحت حجة التشدّق بالإرث والانصياع لسلطان القصر ، وكانت الملعقة التي تمتدّ إلى أفواه المعوزين والمحتاجين تحت مظلة الإكتفاء الذاتي والعيش الكريم والرضى بجرعات من الحرية الموجهة  ، وإن حدث وحادوا عن طريق العرفان ضربت بقوّة غير مبالية  ، لتكون هي الإعلام الموجّه .

في ” الجاثوم ” اللوحات الإستعراضية الخاصة بالراقصين كانت دقيقة وذات بُعد وإيحاء في كل خطوة ونفس ، وكانت أداء حيا لميقات الصراعات والهدوء والتمرد  ، وكانت الحركات ذات دلالات إضافية ورمزية محدّدة تعكس آهات وقهر وفرح كل لوحة ، وحتى العصيّ المستعملة كانت ذات رمزية للحصار وعدم الاستقرار ، وكانت دلالات واضحة للمعالم لحمّى الصراعات تارة ولإنفراج الأزمات تارة أخرى ، وغالبا كانت القوة الضاربة التي تزيد من فجع الشعب وترفع من نبضات قهره وخوفه ، وإن لاح له بصيص أمل على حين غفلة ، كان الجاثوم وإيقاع العصيّ الحصار الضارب في كل محاولة تحرّر .

العرض المسرحي ” الجاثوم ” من العروض المسرحية التي تحتاج إلى أكثر من قراءة نقدية ، بحكم الدلالات والرمزية المتاحة فيه ، حيث لابدّ  ألاّ نحضّر عاجلا تابوتا خاصّا بالجاثوم إذ وجب التحرّر من قبضته لننعم بحريّة عذرية وسط سياسة شفافة وتوجّه إعلامي حرّ وقياديّ .

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …