المسرح التونسي عطش لفرقة بلدية دوز للتمثيل …. عندما يعري المسرح كهنة الظلام   بقلم: أ. مكرم السنهوري

 

المسرح التونسي

عطش لفرقة بلدية دوز للتمثيل …. عندما يعري المسرح كهنة الظلام

 

بقلم: أ. مكرم السنهوري

 

فرقة بلدية دوز للتمثيل:

تأسست الفرقة التمثيلية بمدينة دوز في الجنوب التونسي سنة 1985 على يد الفنان منصور الصغير الذي اتفق مع زملائه في المرحلة التأسيسية وهم على التوالي كل من السبتي الجديدي ، سالم نصر ،الشريف بشطولة ،عبد الناصر عبد الدائم ،إبراهيم كريم ، توفيق الصغير ، شكري ومحسن بشطولة على تأسيس أول هيكل مسرحي قانوني في مدينة دوز ان لم نقل في كامل محافظة قبلي وانعقدت جلستها التأسيسية بفضاء دار الشعب بدوز تحت رئاسة المندوب الجهوي للثقافة بقبلي حينها المغفور له التوهامي بلحسن ومنذ انطلاقتها تسهر الفرقة على الإنتاج السنوي للمسرحيات الموجه للكهول والأطفال وبالإضافة للعناية الكبيرة بالتكوين المسرحي والتقني ببعث نوادي مسرح الشباب لكل الاعمار يشرف عليها مختصون من معاهد الفنون المسرحية بتونس والكاف وتقام الورش التدريبية في مسرحها الخاص دار المسرح والفنون إضافة لتنظيمها موعدا سنويا تحت اسم مهرجان دوز العربي للفن الرابع.

يقدم الدكتور محمود الماجري في مقدمة كتاب ذاكرة نفزاوة المسرحية “تاريخ وأعلام” الصادر في تونس سنة 2018 عن الدار الثقافية للنشر بالمنستير تعريفا فريدا لفرقة بلدية دوز للتمثيل حيث يقول في جزء من المقدمة: ” هي مؤسسة بكامل معنى الكلمة إذ أنها تتوفر أساسا على عقلية تقوم على حسن التدبير، وهو ما مكنها من إنجاز مسرح في قلب المدينة والتصرف في برامجه وفق عقلية احترافية، فضلا عن أنها لا تفرط في جزئيات شروط الإنتاج والتوزيع والإعلام، فحافظت بذلك على كيانها وخلقت من حولها حزاما يساندها ويتابع مسيرتها”. ويواصل الدكتور الماجري تعريفه للفرقة وما يعتبره مسارا ذكيا،  ” هذا الذي اتبعته الفرقة لتثبيت حضورها وتحصين ذاتها ضمن وسط محافظ ليس للمسرح فيه صورة نيّرة ولا للمرأة فيه حضور بالمرّة، فلقد عمدت الفرقة في بداية عهدها إلى إنجاز أعمال دون مشاركات نسائية برهنت من خلالها للمجتمع المحلي على جدية المسرح وشرعية وجوده إلى جانب الأنشطة الاجتماعية الأخرى فكان أن حققت رأس مال من الثقة جعلها في مرحلة ثانية تدمج ممثلات من غير بنات الجهة فقمن بمهامهن على أحسن وجه وبرهن حضورهن على أنه من البديهي أن تتواجد المرأة إلى جانب الرجل في النشاط المسرحي دون أن يكون ذلك مدعاة إلى استعمال المعجم الأخلاقي التقليدي، وهكذا أقبلت فتيات الجهة بمساندة عائلاتهن في مراحل لاحقة على الانخراط التلقائي في أعمال الفرقة دون مركبات ودون رهبة من آفات الجذب إلى الخلف، وهي عديدة”.

يختتم الدكتور محمود الماجري حديثه حول الفرقة قائلا:” لقد ساهمت الفرقة، إذن، في تغيير الذهنيات على غرار ما قامت به الحركة المسرحية إبان نشوئها في مطلع القرن العشرين حينما أسس أهل الثقافة والفكر جمعيات لنشر الفن المسرحي داخل وسط غير مستعدّ لتقبل المسرح، بل كان مناهضا في أغلب الأحيان لكل تغيير اجتماعي حتى وإن كان ايجابيا. إن مسار فرقة بلدية دوز للتمثيل هو مسار للاستنبات والتأصيل، وهو في ذات الحين مسار للتحديث بواسطة الثقافة والفن والإشعاع تشكلت من خلاله المدينة وكامل الجهة في صورة الفاعل المؤثر على المستوى الوطني، بعيدا عن هيمنة الأنماط السائدة، وبذلك يؤكد الحراك المسرحي بهذه الجهة أن جوهر اللامركزية يكمن أساسا في حرية الاختيار وسلطة القرار الفني من أجل التميز ضمن السياق الوطني العام”.

مسرح الخصوصية الثقافية:

سعت فرقة بلدية دوز للتمثيل التونسية منذ تأسيسها سنة 1985 لتقديم أعمال مسرحية تنطلق من بيئتها الصحراوية فكانت جل أعمالها ملتصقة بواقع مجتمعها الذي ولدت فيه فكانت دائما لسان حال أهل دوز وأهل الجنوب التونسي عموما وهذا ما أكسبها شرعية مجتمعية واسعة جعلت من القاعات تغص بالجماهير شبابا وعائلات خلال تقديم عروضها المسرحية في دوز أو خارجها وطنيا وحتى دوليا.

تعتبر تجربة الكتابة والإخراج في الفرقة التمثيلية بدوز فريدة حيث اعتمدت على مواهب محلية من أبناءها على غرار إبراهيم بنعمر و شهاب بنعمر وعبد الناصر عبد الدائم كما تناولت اقتباسات عربية لأهم الكتاب العرب على غرار رواية الياطر لحنا مينا في مسرحية رجوع الغائب سنة 1990 ورواية الليلة المقدسة للكاتب المغربي الطاهر بن جلون في مسرحية عود رمان سنة 1993 ومن رواية أساطير الصحراء للأديب الليبي الكبير إبراهيم الكوني في مسرحية ترياق سنة 2012 ورواية الماجوس في مسرحية عطش 2022 وتتالت الأعمال المسرحية التي تنطلق دائما من هموم الانسان الصحراوي على غرار مسرحية صابرة التي تناولت حقبة الاستعمار الفرنسي في الجنوب التونسي ورد فعل القبائل على معاهدة الحماية سنة 1881 وهي من تأليف الشاعر المبدع الناصر بنعون , وصولا للعمل المسرحي الجديد عطش وهو أيضا يتنزل ضمن مسار مسرح الخصوصية الثقافية الذي انتهجته الفرقة منذ انطلاقتها في سنوات التأسيس وازداد تعمقا مع تخرج العديد من أبنائها من المعاهد العليا للفنون المسرحية بتونس والكاف وساهم دعم صندوق التشجيع على الإنتاج الادبي والفني بوزارة الشؤون الثقافية في السنوات الأخيرة بمزيد تدعيم هذه الرؤية وتثبيت هذا المسار الفني الفريد من نوعه في المسارح الوطنية ان لم نقل حتى العربية منها .

عمل جديد:

بدعم من وزارة الشؤون الثقافية صندوق التشجيع على الإنتاج الأدبي والفني قدمت مؤخرا فرقة بلدية دوز للتمثيل عملها الجديد بعنوان “عطش” من تأليف عبد الناصر عبد الدائم وإخراج منصور الصغير الذي يعتبر العرض محاولة لاستقراء الصحراء وامتداد الروح فيها “نبحث عن ما نجهل  ونسائل ما نعرف وندفع ذواتنا نحو جدل لا ينتهي مع ذوات أخرى نبني وننبي بها ” و قد نفذ سينوغرافيا العرض  الدكتور نورالدين بنعمر وتمثيل نخبة من الممثلين القارين في الفرقة وهم على التوالي عبد الناصر عبد الدائم ومنصور الصغير و محمد بلحاج ومحمد بنعلي و عودة لقيدوم الفرقة وأحد المؤسسين بعد غيابه لعدة سنوات على خشبة المسارح الممثل المتميز السبتي الجديدي إضافة لبروز وجوه جديدة في الفرقة البلدية على غرار أستاذ المسرح عبد الله موسى وحضور نسائي لافت من خلال مشاركة متميزة لكل من الممثلتين رحاب مبارك وإخلاص عبد العظيم إضافة لفريق فني احترافي بقيادة قيدوم الفرقة توفيق الصغير على أجهزة الإضاءة واستاذ المسرح غسان الجديدي على الصوت وكتب قصائد أغانيها الشاعر الشعبي الكبير البشير عبد العظيم وكان تصميم الملابس للفنانة لمياء المرزوقي وإدارة خشبة الكيلاني فرج بإدارة انتاج رضا مرزوق .

 

 

 

عطش تعري كهنة الظلام:

عطش عمل ملحمي درامي , يمكن أن ننزله ضمن أدب الصحراء كتوجه جمالي تفردت به فرقة بلدية دوز التونسية عن نظيراتها من هياكل الإنتاج الوطنية والعربية ويحيلنا عرض عطش الى عالم رحب تتقاطع في الاساطير الموروثة بتعاليم الأسلاف , عالم تتداخل فيه تأملات الحكماء والمتصوفين والعارفين بأشواق الباحثين عن الحقيقة والحرية ٬ عالم يتصارع فيه الباحثون عن الثروة والطامعون في السلطة والمتاجرون في النفوس البريئة والمستغلون للجانب الروحي المقدس عند الناس بخداعهم بأنهم سدنة الدين وقد نصبوا أنفسهم أوصياء على البشرية يصدرون صكوك الكفر والغفران ويتلاعبون بسماحة الدين حسب مصالحهم الشخصية وهذا ماثل في شخصية “الفقيه” الذي يدعي معرفة الأسرار وأحوال الغيب وسيقود التائهين في الصحراء الى مدينة أفلاطون الفاضلة الضائعة بين الرمال الذهبية ذاك المخادع في نص عطش لعبد الناصر عبد الدائم لا يكف عن التصريح بأنه قد خلصهم من البدع الجاهلية وعقائد الظلام المجوسية قائلا : ” قاومت السحر والشعوذة ودعوتكم للتطهر والصوفية كي تفوزوا بالفردوس والحرية ” يقود ” الفقيه المخادع ” القبيلة الى نسك وعادات وتقاليد مبتدعة جديدة عليهم وأمام استسلام زعيم القبيلة الذي يهادن “الفقيه” المخادع خوفا من قيام حرب أهلية بين القبائل محاولا اقناع شخصية “بدة “بمحاولة فضح الفقيه لا محاربته محذرا من موته: “يعني يموت ..تقوم حرب في داخلنا وتدمر القبيلة و تضيع أرزاق الناس وييتم الأطفال ويصبح الوطن مرتعا للصوص وقطاع الطرق ” غير أن “بدة” يؤكد على أن خلاص القبيلة من شر هذا الدجال المخادع هو استئصاله مثل الورم الخبيث فلا حوار قد ينفع معه ولا سياسة فضحه قد تأتي بنتيجة لإنقاذ الوطن الصحراء من المهالك التي يسعى اليها مع أتباعه من اللصوص والانتهازين الذي يفضحهم عبد الدائم في لوحة السوق عندما يعري فكرهم اﻹجرامي الذي يصل حد المتاجرة في الأعضاء البشرية : التاجر الأول “عندي أي عضو يحتاجه جسدك …كل الأحجام…كل الأعمار…على قدر أموالك…يمكن أن تختار…فيسأله “أوداد” الراعي البسيط رسول الحب والحرية “وهل أنت جزار قصاب ؟ ” فيخبره التاجر الثاني: “بأن كل شيء متوفر تحت الطلب ” حتى تتضارب مصالح اللصوص وقطاع الطرق وكهنة معبد الظلام وتكون نهاية “الفقيه” المخادع على يد أتباعه طمعا في صندوقه الذي يخفي التبر وأسرار السيطرة ومسالك السعي لإخضاع الصحراء والقبائل غير أن الصحراء والبدو يولدون أحرارا مهما اشتدت العواصف لكي يبقوا كذلك فتلك سنن الصحراء التي لا تغيرها الأزمان.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش