المسرح الإذاعي الأفريقي د. محمد حسين حبيب

المسرح الإذاعي الأفريقي

“الطحالب” لمؤلفها جاغشيت سينغ، مكونة من سبع شخصيات منوعة من أفارقة وآسيويين، سعت للبوح عن المسكوت عنه في علاقات الآسيويين مع الأفارقة.
 دور الإذاعة عامة يتمثل في نشر المسرح والترويج له عبر العديد من البرامج الإذاعية المعروفة عالميا وعربيا
 أفريقيا تغطي 23 بالمائة من مساحة الكرة الأرضية، وتشغل حيزا يفوق الـ (30) مليون كم مربع

تعد المحاولات التأسيسية الأولى للمسرح الأفريقي، والتي مهدت لجذوره الأساس، وبلورت هذا المسرح وجعلته علامة مائزة عبر المراحل التاريخية المتنوعة والمختلفة في المسرح العالمي، هي تلك البدايات التي تكاد لا تختلف كثيرا عن بدايات المسرح عامة، فالأسطورة والدين والسحر قد أسهمت بشكل فاعل ومؤثر في التمهيد للمسرح الأفريقي، إلى جانب الطقوسية الشعائرية المحتكمة إلى واقع القبلية المجتمعية، إضافة إلى الفلكلور الشعبي والتراث بعد ذلك ومرورا بالثقافة الشفاهية – قبل الكتابية – والتي تناقلت عبر أجيال متلاحقة حفظت بطريقة مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى، حفظت من هذا الارث الروحي والحضاري والثقافي ليمد أثره عبر تشكل الكيانات الممهدة للمسرح وصولا إلى شكله ومضمونه المعاصرين عبر أسماء وأعلام من مؤلفين ومخرجين أفارقة تبوؤا الصدارة الإبداعية في المشهد المسرحي العالمي.
يبدو للوهلة الأولى قد يتفاجأ الباحث ويسأل نفسه: كيف يمكن الإلمام بمكونات القارة الأفريقية السوداء العرقية والإجناسية والدينية والقبائلية، أفريقيا هذه التي تغطي 23 بالمائة من مساحة الكرة الأرضية وتشغل حيزا يفوق الـ (30) مليون كم مربع، وما تتوفر عليها من إمكاناتيات وكنوز وذخائر تاريخية وتراثية حية، هذه القارة التي واجهت الكثير من الأزمات مثل الفقر والفساد والحروب والجفاف والتميز العنصري والأمراض الفتاكه مثل (السل والملاريا والإيدز) التي قتكت بحياة الملايين، فضلا على ذلك أنها تضم أكثر من ثمانمائة قبيلة، تتكلم بأكثر من ألفين من اللغات واللهجات ..؟ فضلا عن تمسكها بالرمز والقناع أثناء تأدية بعض من شعيراتها الطقوسية المتضمنة أيضا الرقص والغناء والحلقات الدائرية التي تشكل فرجتها الاحتفالية، وعبر رقعة جغرافية ليست صغيرة، والتي تضم دولا عدة مثل : (ارتيريا / جامبيا / غانا / كينيا / ليسوتو / مالاوي / مورشيوس / ناميبيا /  نيجيريا / جنوب أفريقيا / أوغندا / ريمبابوي / جنوب السودان .. وغيرها )، لكن العودة إلى مناهل الدراسات والبحوث الأولى عن الأدب والفن الأفريقي قد تخفف من عناء هذه الرحلة الموجزة، أمثال: جورج سيلنيكس أستاذ الأدب الأفريقي بجامعة كارنجي ميلون- بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، وعبده بدوي كتابه “مع حركة الإسلام في أفريقيا” 1970، وأيضا علي شلش كتابه “الأدب الأفريقي”، والذي يشير إلى كتاب الباحث السنجالي بكري طراوريه الموسوم “المسرح الزنجي الأفريقي ووظائفه الاجتماعية” باللغة الفرنسية عام 1958.

“من المسرح الأفريقي” ثلاث مسرحيات قصيرة، ترجمة صخر الحاج حسين، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة دمشق 2010

إن دور الإذاعة عامة في نشر المسرح والترويج له عبر العديد من البرامج الإذاعية المعروفة عالميا وعربيا، لأنها شكلت وسيطا ثقافيا مهما لتنشيط المسرح وترصين بعض المسميات أو المصطلحات الجديدة مثل (الدراما الإذاعية أو المسرح الإذاعي) أو صناعة أعمال يتم إعدادها للإذاعة حصرا، ويمكن أيضا أن نذكر في هذا السياق، ظهور أسماء إذاعية عربية شكلت دورا رياديا مائزا في هذا الجانب، أمثال: عبدالله شقرون مؤسس المسرح الإذاعي في المغرب، ومخلوف بو كروح من الجزائر، وحسين الهنداوي مؤسس المسرح الإذاعي في العراق، إلى جانب الجهود العملاقة الرائدة لـ عبده بدوي محرر مجلة “نهضة أفريقية” والذي عرض الفلكلور الأفريقي برمته في مقطوعات درامية إذاعية خلابة.
ولا بد من الإشارة هنا أيضا إلى نماذج مختارة من رجالات المسرح الأفريقي، امثال: وول سوينكا وجون ببر كلارك وفرديناند اويونو وهارولد كمل وتوماس مونولو وبرنارد دارييه و لويسي نكومي واثول فيوجارد وكويس كاي وكوزمو بييترسي الذين عمدوا إلى ترسيخ الدراما الأفريقية وإعطائها نكهة خاصة بها ذات مضامين وأشكال متعددة ومرتبطة بجذرها التاريخي والطقوسي والشعبي. 
إذن، نحن هنا أمام ثلاث نصوص مسرحية قصيرة تمت كتابتها للإذاعة أصلا، ينتمون مؤلفوها إلى القارة الأفريقية وهم: ريتشارد رايف مؤلف مسرحية “الممر”، وجاغشيت سينغ مؤلف مسرحية “الطحالب” وكين تسارو- ويوا مؤلف مسرحية “الراديو”. والواضح من تقنيات الكتابة ومقتضياتها أنها مسرحيات إذاعية قصيرة تعج بالكثير من ملاحظات مؤلفيها الخاصة بالتمثيل الإذاعي، مثل الابتعاد عن المايكروفون أو صوت الأوراق والملابس وبقية المؤثرات الصوتية والموسيقية المصاحبة للحدث المتخيل والمسموع من قبل مستمعي الراديو. 
تتحدث المسرحية الأولى “الممر” لمؤلفها ريتشارد رايف عن شخصيتين هما (هو / ليونارد ديكسون ) و(هي / ايستيل كوهلر) لنكتشف بأن (هو) خبير مسرح زنجي و(هي) مخرجة مبتدئة بيضاء، جاءت طالبة النصح منه في إشكالية تعاملها مع فرقة مسرحية مكونة من مجموعة ممثلين هواة من الزنوج باسم “نيانغا”، طالبة منه المجيء معها بسيارتها الخاصة إلى قاعة التدريبات، فيجري الحدث أو الاغلب منه داخل السيارة تتخلله حوارية بين الاثنين تكشف عن جهل السيدة بعملها الذي يجب، واستهجان الخبير منها وانزعاجه من سلوكياتها وتوجهاتها الفكرية والثقافية لكن بدون الكشف الصريح عن موقفه، وحديث مطول عن فكرة العبودية وعن شعور المرء بلونه الأسود، فينصحها الخبير بجملة “إن أفضل المسرحيات هي التي تمثل خارج الخشبة .. أفضل المسرحيات توجد في الحياة الحقيقية”، ولقد قال عنه مارتن اسلين: “هذا النص لكونه ﺘﻌﺭﺽ لمشكلة ﺘﻘﻨﻴﺔ ﺼﻌﺒﺔ ﺠﺩﺍ، ﻭﻫﻲ ﺍﻤﺘﻼﻙ ﺸﺨﺼﻴﺘﻴﻥ ﻤﺤﻭﺭﻴﺘﻴﻥ ﻓﻲ ﻨﺹ ﺍﻤﺘﺩ لأكثر ﻤﻥ ﻨﺼﻑ ﺴﺎﻋﺔ ﻤﻊ ﺍﻻﺤﺘﻔﺎﻅ ﺒﻌﻨﺼﺭﻱ ﺍﻟﺘﺸﻭﻴﻕ والإثارة وحركة ﺍﻟﻤﺴﺭﺤﻴﺔ ﻨﻔﺴﻬﺎ كانت ﻤﻔﺘﻭحة ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺩﻭﺍم، وﺜﺎﻨﻴﺎﹰ ﺭﻏﻡ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻭﻀﻭﻉ ﻗﺩ ﻋﻭﻟﺞ ﻤﺭﺍﺭﺍﹰ ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺴﺭﺤﻴﺔ ﻋﺎﻟﺠﺘﻪ ﺒﻁﺭﻴﻘﺔ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻭﺃﻅﻬﺭﺕ ﻤﺎ يكمن ﺨﻠﻑ ﺍﻟﻨﺹ المكتوب”. 

أما المسرحية الثانية “الطحالب” لمؤلفها جاغشيت سينغ، مكونة من سبع شخصيات منوعة من أفارقة وآسيويين، سعت للبوح عن المسكوت عنه في علاقات الآسيويين مع الأفارقة، وموقف الحكومة الأفريقية من كلا الطرفين، فضلا عن كشف المسرحية عن تلك العلاقات المرتبكة بين الطرفين إضافة إلى الإعلان دراميا عن موقف الحكومة من الذين في الداخل، ومن الترحيل والهجرة والاغتراب، والأهم من ذلك كله أن النص وضع شخصية العاهرة في بؤرة الحدث معبرا عن جرأة وكشف معاناة هذا المخلوق المسحوق اجتماعيا وحكوميا، ولقد عبر لويس نكوسي عن المسرحية بقوله: “موضوع المسرحية والأسلوب الذي عولجت به أمر لم يتطرق إليه سوى القليل من كتاب الأفارقة، وأن يضع المرء شخصية غريبة شأن العاهرة في مركز المسرحية شيء جديد تماما، للنص طلاوة وطراوة الموضوع ومقاربته”.
وجاء النص الثالث “الراديو” لكين تسارو- ويوا، قاسيا في طروحاته مستندا على الكوميديا السوداء الساخرة بزعمنا، ليكشف عن حجم وكبر معاناة الشخصيات المسحوقة والمضطهدة والمعوزة، تلك الشخصيات التي لا يتبقى لها شيء في الحياة سوى حلمها بإدخال شيء ما لمعدتها، وإلا تنتحر وينتهي الأمر، لكن بطريقة حوارية ماتعة ومشوقة، فشخصية “باسي” و”الالي” يحلمان ويفكران بالبحث عن حياة معقولة وادمية، وما بعض من جملهما الحوارية إلا التأكيد على ذلك، مثل: “كيف يمكن للإنسان أن يعيش بمعدة فارغة”، أو “لماذا يرسلوننا إلى المدارس إذا لم يكن هناك وظائف”، أو “تبا للعمل الشاق، سوف أقتل نفسي يوما ما”، أو جملة “السجن أفضل حالا من هذه الغرفة على الأقل ستضمن ثلاث وجبات يوميا”. وأيضا جملة حوارية أخرى تقول: “المحتالون هم الوحيدون الذين يستطيعون تدبر أمورهم في هذه المدينة”. وغيرها من جمل أخرى تكشف عن أهمية هذا الكاتب وانغماره في عصارة مجتمعه ومعاناة ناسه في نيجيريا وتحديدا في لاغوس، و “كم هي الحياة قاسية في لاغوس” ويقول باسي في النص: “عندما تكون في لاغوس عليك أن تكون عفريتا .. الكثير من المحتالين هنا” .. لا تعليق. 
 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش