المسرحي الموريتاني سلي عبدالفتاح لـ”العرب”: الإخراج تجربة ورؤية أو لا يكون

تواجه موريتانيا شبه غياب للحراك المسرحي المؤثر، وذلك راجع إلى عدة أسباب، لكن العديد من المسرحيين والمثقفين والكتاب الموريتانيين يحاولون التأسيس لحركية مسرحية في البلاد من خلال أساليب مبتكرة، ومن بينهم المسرحي سلي عبدالفتاح الذي كان لـ”العرب” هذا الحوار معه.

تحفل مسيرة المسرحي الموريتاني سلي عبدالفتاح بأكثر من خمسة وعشرين مسرحية من تأليفه وإخراجه وتمثيله، ومشاركات في مهرجانات مسرحية محلية وعربية ودولية حازت خلاله عروضه على العديد من الجوائز، هذا بالإضافة إلى تمثيله في أكثر من فيلم سينمائي إحداها قام فيه بدور البطولة، وتمثيله في أعمال درامية تلفزيونية.

يترأس عبدالفتاح حاليا مصلحة المسرح بالمعهد الوطني للفنون، ومهرجان أيام بلدية دار النعيم الثقافية، كما أنه عضو مؤسس ومسؤول التكوين والتأطير في جمعية المسرحيين الموريتانيين، وهو ما يجعله على اطلاع بأدق تفاصيل الحراك المسرحي في بلاده.

من أعمال عبد الفتاح المسرحية كتابة وإخراجا وتمثيلا “شنقيط”، “الاعتراف الأخير”، “القاعة”، “رقصة المولد”، “أيوب”، “كابوس”، “فتيان لفيريك”، “ملعب بر الأمان”، “منت البار“، وفي المسلسلات التلفزيونية “وحل راصو”، “وجوه من خشب”، “أحلام مواطن”، وفي السينما “بالفطرة” و”لحظة صمت”.

المسرح الموريتاني وتحدياته

أبرز التحديات التي يواجهها المسرح الموريتاني هي غياب أكاديمية مسرحية والبنى التحتية والتأطير والفعاليات

بداية يؤكد عبدالفتاح أن الجمع بين الكتابة والتمثيل والإخراج لم يكن خيارا بل كان ضرورة حتمتها عليه قلة الكتاب والمخرجين المنفتحين على آخر التجارب المسرحية في العالم وانعدام التخصص في المهن المسرحية في البلد، لذلك يكتب ما يراه مسايرا لحداثة الفعل المسرحي العربي، ويخرجه بالطريقة التي تعكس الرؤية التي يملكها محاولا بذلك أن يلتحق بركب الحداثة في الفعل المسرحي العربي والعالمي وما بعد الحداثة فيه مع الحفاظ على الطابع المجتمعي المحلي. ويشدد على أن المسرح لا يمكن فصله عن واقعه الاجتماعي، وهذا يسهّل عليه عملية الإخراج لكنه أيضا يحرمه من إدارة العرض من الخارج، خصوصا إذا كان ممثلا في العرض، وهذا قد يؤدي إلى طغيان الكتابة والإخراج على مكونات العرض الأخرى، أو العكس مما يؤثر سلبا على النتيجة المرجوة من العرض، ولكنه يبحث عن بدائل لذلك، خصوصا موضوع الكتابة إذ يسعى إلى الاقتباس من أمهات نصوص المسرح العالمي أو القصص التراثية المعروفة والتعامل مع كتاّب من الخارج وغير ذلك.

ويقول “الأعمال التي أخرجتها تبقى ضمن دائرة المتوسط نظرا إلى عدة مسائل منها غياب التخصص، ومنها انعدام التكوينات في شتى مجالات المسرح في موريتانيا، وحتى غياب بنية تحتية يمكن أن تقدم عليها ما تشتغل عليه، ويبقى الرهان هو التجرد من الذات ونقدها من أجل تقديم الأحسن والتركيز على الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلي اللذين من خلالهما يمكن أن نقدم إبداعا يعكس المنشود من العرض، ففي النهاية الإخراج تجربة ورؤية أو لا يكون”.

ويضيف “بالنسبة إليّ أقيس أعمالي على الأعمال العربية الحديثة، وأكون قاسيا جدا على نفسي رغم كل النواقص، وأغوص عميقا جدا في دائرة المسرح الفقير كملاذ يمكن لمسرحنا أن ينمو فيه، وأؤمن تماما أن الممثل هو العازف وهو الآلة في الوقت ذاته، وأنه هو الأصل في المسرح ولا يمكن إيجاد مسرح دون ممثل، أما الأشياء الأخرى فهي مكملات للممثل أثناء عطائه المسرحي، ربما لأن رؤيتي في الكتابة مختلفة أو غير موافقة لبقية المخرجين، وربما بقليل من النرجسية قد يكون حبي لما أسميه ‘نصوصي‘ هو المانع”.

ويتابع  “في الحقيقة أتمنى أن أجد كاتبا مسرحيا موريتانيا أخرج له نصوصا أو مخرجا منفتحا غير متصلب أدفع إليه نصا من نصوصي، لكن انعدام هذين الخيارين هو الذي يمنعني أساسا فلدينا طغت الشعبوية بمفهومها السالب على المسرح مما قضى على فعل الكتابة المسرحية بالكامل، وغابت الجدية في الطرح وانتفى فعل الإبداع، وأورث هذا كسلا متأصلا لدى المشتغلين بالمسرح، وهذا ما جعله جسدا مسجّى بلا حراك وإن تحرك فالاجترار هو سمته الغالبة”.

ويرى عبدالفتاح أنه في موريتانيا هنالك عدة قضايا وهموم لكن الأجيال الحديثة التي تسعى للتشبع بالحضارة الغربية وتنسلخ من المعارف والحضارة الشرقية ـ رغم أنها لا تسعى للتمسك بها ـ تعيش فراغا وهذا الفراغ هو منبع غني لإبراز عقدة مسرحية موريتانية صرفة، وهو يطرح سؤال الهوية دائما، لكن الموريتاني أيضا لديه نفس هموم العالم العربي والأفريقي الثقافية والسياسية والاجتماعية، والمسرح وليد بيئته مهما بلغ من الحداثة أو التغريب، هذه الروافد مجتمعة تشكل مادة مغرية بالنسبة إليه يشتغل داخلها، ويحاول من خلالها أن يقدم هموم مجتمعه وتطلعاته وأحلامه على الخشبة بالضحكات والدموع عبر ما أسميه بدائرة الأسئلة الغنية “من؟ ماذا؟ أين؟ كيف؟ متى؟ لماذا؟”.

المسرح الموريتاني متأثر بالمسارح العربية بصفة غير مباشرة، فالمتلقي الموريتاني يتابع الفعل المسرحي العربي بالوسائل المتاحة

ويشير عبدالفتاح إلى أن للمسرح الموريتاني خاصية تميزه وهو هذا الخليط العربي العامر بقوة الكلمة العربية الفصحى وما يلازمها من بلاغة مع العمق الأفريقي الغني بالسيمياء والأسطورة، وهو عالم لم تفكّ عذريته بعد، ومازال يكتنفه غموض شهي بدأ يدفع الباحثين عن آفاق أوسع للولوج إليه، ولو تم نقل هذا التداخل الثقافي في الواقع إلى الخشبة بطريقة إبداعية محترفة لأصبح علامة فارقة في كتاب المسرح العربي والأفريقي ولم لا العالمي أيضا.

ويشدد على أن ما أشار إليه هو مكمن قوة المسرح الموريتاني القادم، لذلك لو توفرت الإمكانات سيكون المسرح الموريتاني الناتج عن هذا الخليط مميزا جدا ومختلفا، ومن هذه الزاوية يشتغل لإظهار هذه السمة.

ويكشف أن أبرز التحديات التي يعاني منها المسرح الموريتاني هي غياب أكاديمية مسرحية وغياب البنى التحتية ـ دور عرض ـ وانعدام التكوينات وغياب الفعاليات المسرحية كالمهرجانات وغير ذلك، وغياب المسرح عن دائرة القرار لدى الجهة الوصية. أضف إلى ذلك كسل المشتغلين بالمجال وجهلهم التام به وعدم احترامه وعدم تعزيز قدراتهم بما هو متاح على الأقل: القراءة عن المسرح ومشاهدته عن طريق وسائط التواصل، وكذلك نجد غزوات أفواج من الدخلاء ـ ممن يعتقدون أن المسرح مهنة من لا مهنة له ـ لهذا المجال قد أكسبه أسوأ سمعة يمكن أن يتسم بها.

ويتابع “أضف إلى ذلك جموع المتملقين المتمصلحين المنصبين أنفسهم ناطقين باسم المسرح والمسرحيين وتهافتهم على أبواب الجهة الوصية، وتماهي هذه الأخيرة معهم دون بينة أو بحث، وهذا بالطبع أورثنا عزوفا موجعا للجمهور عن المسرح والتفاعل معه وهذه شذرات فقط، وغيض من فيض كأداء العقبات التي تقف عائقا أمام إبراز مسرح يحمل موريتانيا التنوع والثقافة والتاريخ والطموح والحلم إلى الآخر، فنا جميلا راقيا وممتعا ويرفعها في سماء الثقافة والإبداع كما كانت دائما”.

تأثيرات المسرح

ii

يلفت عبدالفتاح إلى أن المسرح الموريتاني متأثر تماما بالمسارح العربية بصفة غير مباشرة، حيث أن المتلقي الموريتاني يتابع الفعل المسرحي العربي بشتى الوسائل المتاحة، في حين أنه من النادر جدا أن تقدم عروض من الدول العربية في موريتانيا، وأما بالاتجاه المعاكس فلا يوجد تأثير “للمسرح الموريتاني” في أيّ بلد عربي، لأن التواصل مع الآخر الخارجي يبقى ضعيفا جدا، ولهذا الضعف أسبابه التي ذكرها آنفا.

ويضيف “أنوّه إلى أنه توجد شطحات مسرحية موريتانية بين الفينة والأخرى تترك صدى في البلدان المجاورة، ولكنه صدى مؤقت يعاني من عدم الاستمرارية، ورغم أننا كمجتمع موريتاني مازلنا نستهلك المسرح الخارجي أكثر مما ننتج بكثير خصوصا المسرح العربي، فبالبداهة أن يكون له أثره البارز في إرهاصات النشأة المسرحية الجديدة وأن التعاون العربي خصوصا دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة وكذلك الهيئة العربية للمسرح ودعمهما له هو الآخر الدور البارز والفعال في هذه النهضة المنشودة. وباختصار شديد فإن تأثير المسرح الموريتاني داخليا مازال دون المرجو وأما خارجيا فبالكاد تصل ذبذباته”.

ويضيف “بناء على كل ما سبق فمن الجلي أن المسرح في موريتانيا مازال في طور الهواية رغم كل شيء وهو الأكثر حراكا، وهذا ليس منقصة منه، فالهواية أمّ الاحتراف ومنبعه الذي لا يجف وهي مكمن الشغف والعطاء الإنساني البحت البعيد عن الدوافع المادية الأخرى، وحيثما وجدت الهواية وجد الفن الصادق الأصيل، أما الاحتراف فبالكاد تجده إن لم يكن معدوما لأن أسبابه لم تتوفر بعد على أرض الواقع، فقانونيا لم يتم حتى الآن تفعيل ما يسمى بقانون الفنان الذي من خلاله يمكن تصنيف المشتغلين في المجال، ولا توجد نقابات مسرحية وهذه من أساسيات الفعل المحترف على الأقل من الجانب المهني، وأما من الناحية الإبداعية، فالأسباب مذكورة سلفا”.

 

أكثر من خمسة وعشرين مسرحية من تأليفه وإخراجه وتمثيله
أكثر من خمسة وعشرين مسرحية من تأليفه وإخراجه وتمثيله

 

ويكشف أن بداياته مع المسرح كانت من خلال الالتحاق بالجمعيات الشبابية المحلية، وكنا نقدم إسكتشات توعوية تحسيسية كفعل تطوعي خدمة للمجتمع، وكانت الجهات الوصية تقيم من حين إلى آخر ما يسمى بالأسبوع الجهوي، وأحيانا الوطني للثقافة، وكان هذا الأسبوع متعدد الاختصاصات من شعر ورقص جماعي وأغنية جماعية ومسرح “تمثيليات” كما كانوا يسمونها شاركنا مرة أو اثنتين وفزنا بجائزة المسرح أكثر من مرة، هذا الفوز دفعني إلى تقوية قدراتي في مجال الكتابة والتمثيل والإخراج والبحث عبر كل السبل والالتحاق بالورشات التكوينية رغم ندرتها.

ويتابع “كان من حظي الاحتكاك بالآخر الخارجي من خلال دعوات تلقيتها للمشاركة في تونس والمغرب والإمارات ومصر وغيرها، والمشاركة في تكوينات خارجية بالإضافة إلى المثابرة والاطلاع مع الإصرار على ضرورة خلق فعل مسرحي موريتاني يضارع المسرح العربي. كل هذه الأسباب كانت دوافع ولدت لديّ العناد الذي أنتج بدوره استمرارية في هذا المجال، كما قمنا بتأسيس جمعية المسرحيين الموريتانيين كمحاولة منا لجمع المسرحيين في كيان واحد، وبعد توقفها أسست مع رفقاء الدرب جمعية إيحاء للفنون الركحية وهي الكيان الذي أترأسه حاليا، وأحاول من خلاله بالإضافة إلى الوظيفة التي أشغلها بالمعهد الوطني للفنون أن أحرك مع زملائي هذه الساحة، وأن ندفعها للإقليمية ثم العالمية”.

الطموحات كثيرة، كما يقول عبدالفتاح، وأبرزها وأولها افتتاح دورات تكوينية دورية كل ثلاثة أشهر في أقرب وقت ممكن واستجلاب مؤطرين من الخارج لتكوين المشتغلين في المسرح في شتى المجالات من أجل تقوية الأساس الذي يحاول أن يبني عليه المسرح الموريتاني. ثانيا دمج المسرح في المنظومة التعليمية وخلق كلية خاصة بالفنون واستجلاب خبرات من الخارج لتدريس المسرح في موريتانيا، فالفعل المسرحي هو مكمل للفعل التربوي وهو الأقدر على بناء شخصية التلميذ وتعليمه فن القيادة والتفاعل والثأثر والتأثير في الآخر.

أما ثالثا فيرى ضرورة “خلق ثلاثة مهرجانات مسرحية سنوية مسرح مدرسي ومسرح جامعي ومسرح وطني، وتوفير بنية تحتية لذلك وتوفير الدعم اللازم. رابعا خلق دائرة خاصة بالمسرح في الوزارة الوصية وتفعيل قانون الفنان. خامسا أن يوقد قنديل المسرح الموريتاني بجانب قناديل المسرح العربي في كل المناسبات وفي أقرب الآجال وهو حلم مشروع جدا وممكن في الأخير، فسفراء الثقافة أحيانا يكونون أكثر تأثيرا من سفراء السياسة والأمثلة كثيرة والمسرح بالتحديد يظل من أقوى وسائل التعبير إذ أنه يخاطب هدفه مباشرة بلا وسيط، وأيّ إغفال لهذه السفارة هو تفريط في قوة ناعمة يمكن أن توجه وتعلم وترفع قيمة البلد المتحدث عنه”.

شاهد أيضاً

وادي الذئاب تعيد للمسرح الصومالي حياته بعد ثلاثة عقود من التوقف

        وادي الذئاب تعيد للمسرح الصومالي حياته بعد ثلاثة عقود من التوقف …