المؤتمر الفكري التجارب المسرحية المغربية، الامتداد والتجديد مساءلات علمية وعملية، لتجارب مسرحية مغربية (الندوات الفكرية.. تفاعل حيوي، تطبيق وتدريب)المادة الفكرية والفنية لتجربة المسرحي بوسلهام الضعيف

 

المؤتمر الفكري

التجارب المسرحية المغربية، الامتداد والتجديد

مساءلات علمية وعملية، لتجارب مسرحية مغربية

(الندوات الفكرية.. تفاعل حيوي، تطبيق وتدريب)

 

 

المادة الفكرية والفنية لتجربة المسرحي

بوسلهام الضعيف

 

يوم الجمعة 12 يناير 2023

12:05 – 14:00 : الجلسة الخامسة

مسير الجلسة: لحسن قناني

المتدخلان أصحاب التجارب :

  • بوسلهام الضعيف
  • محمد الحر

المسائل: ابراهين الهنائي

المحوصل: الحسين أوعسري

فكرة الجنوب لا تروقني فهي تعني ان هناك آخر في الشمال، الشمال الغني الشمال المتطور

إنها لعنة الجغرافيا،

كيف جئت إلى المسرح ؟ نسبي ؟ سلالتي المسرحية ؟

 لأي جغرافية أنتمي ؟

قدري جغرافيتي ؟ مصيري جغرافيتي ؟

اللغة ، كيف تساهم اللغة في تحديد الهوية المسرحية (الأسلوب المسرحي)ثم الترجمة كألية لحوار الثقافات.

الجسد،

الدين،

المرأة ،

الهندسة المعمارية ،

ماذا يريد الجمهور مني ؟

مفهوم المسرح الوطني بالمغرب، وكيف نتحدث عن الذخيرة (الريبرتوار ) المسرحية.

أوجد في منطقة المابين، مكر الجغرافيا: شبه جزيرة أو جزيرة

ولدت في جزيرة (كيف يفكر سكان الجزر ) ثمة إحساس بالانقطاع عن العالم والانتماء إلى حضارة الماء،

لغة الأم الدارجة ولغة التعبير الأدبي اللغة العربية ولغة المعرفة الفرنسية

بالنسبة إلى الشرق العربي لغتي غير مفهومة وأنا بالنسبة إليهم أوربي أو فرنسي

وبالنسبة إلى أوروبا أنا إفريقي، مسلم، نعم هكذ كونوا عنا صورة نمطية

بالنسبة إلى الأفارقة أنا عربي من شمال إفريقيا

بالنسبة إلى العرب أنا أمازيغي

المسرح ورشة مفتوحة

ذات لقاء مفتوح سألني أحد المتدخلين، ماذا يفعل المخرج أثناء العرض المسرحي ؟. كان سؤالا مربكا ودقيقا لأن عمل المخرج ينتهي مباشرة بعد بداية العرض المسرحي، ساعتها ماذا يفعل المخرج؟

يصبح مجرد متفرج، مشاهد، متلقي لعمله.

هذا السؤال دفعني للتفكير في عمل المخرج وماهية الإخراج المسرحي. في هذا السياق لا أريد استعراض مفاهيم ونظريات الإخراج المسرحي، ولكن يمكنني القول بأن عمل المخرج يتحدد في ثلاث مساحات:

  • مساحة المسرح: (المعرفة بتاريخ المسرح وبتقنياته وأسرار تخصصاته )
  • مساحة المعرفة: (المعرفة بالتاريخ والفكر والمجتمع والانفتاح على المدارك والمعارف بتنوعها وتعددها )
  • مساحة الذات : ( البصمة الذاتية والرؤية الشخصية للعالم وللوجود)

    هاته المساحات تتفاعل بشكل متواصل ومستمر في مسار المخرج .

ليس المهم بالنسبة لي هو الإنجاز المسرحي، ولكن المهم هو المسار الذي عبرته، فلنكتشف ولنقتسم جزءا من مسار في بداية تشكله، مسار قيد الإنجاز.

المسرح ورشة مفتوحة، أو ورشة غير مكتملة.

الانفتاح وعدم الإكتمال هو جوهر إن لم نقل قوة المسرح.

المسرح ورشة مفتوحة

البروفة، التمرين، التدريب، التحضير، الإعداد ..كلها أسماء وأخرى تحيل على الإعداد للعرض المسرحي، وتتضمن كل ما يتعلق من تداريب بدنية، وتوزيع الأدوار، وقراءة الطاولة وحفظ النص المسرحي والعمل على الشخصيات وإنجاز الديكور وتصميم الملابس وصولا الى الصيغة النهائية للعرض المسرحي. وقد تستمر التداريب والبروفات ما بعد العرض الأول سواء من خلال إعادة النظر في بعض المشاهد أو محاولة تعديل أشياء متعلقة بالديكور أو بالأداء. أو خلال الجولات المسرحية وما تقتضيه من تدريبات تجعل فريق العمل الفني والتقني يتأقلم مع المكان المسرحي الجديد.

رجوعا الى المعجم نجد أن بعض المفاهيم المرتبطة بالتدريب والبروفة تمتح معانيها من المعجم العسكري(la général) و(la colonelle) وهذا في عمقه مؤشر يدل على أن

مرحلة التدريب (البروفة) تتطلب انضباطا وصرامة سواء في الاشتغال أو في الالتزام بمواقيت التداريب.

(على الممثل أن ينضبط لنظام صارم من حديد مثل عسكري )

ينقسم إنجاز العرض المسرحي إلى مرحلتين :

– مرحلة البناء (التداريب).

– مرحلة العرض (التقديم (.

وبالنسبة إلي أرى أنه ليس هناك بناء وإنجاز بقدر ما هو تركيب.

التداريب (البروفة) تنقسم إلى المراحل التالية :

– مرحلة الإعداد: مرحلة لخلق الجو العام، لا وجود لقراءة الطاولة. ليس هناك شيء جاهز ومكتمل وإنما تتحدد أهداف هذه المرحلة في خلق طقس ومناخ يساعد الممثل على العطاء. خلق مؤثرات خارجية وداخلية تحفز الممثل على الإبداع وتجعله في حالة استعداد بدني وذهني وتخييلي لولوج العوالم التي نسعى للدخول إليها .

– مرحلة البحث : هي امتداد للمرحلة الأولى وفيها اشتغال على مواقف ووضعيات داخل النص المسرحي المقترح. لحد الان ليس هناك توزيع للشخصيات. ليس ثمة أشياء جاهزة .هناك استكشاف للذات، ضبط للحساسيات المختلفة، إلغاء الكليشيهات، محاربة التوترات النفسية والجسدية الذاتية والجماعية.

– مرحلة التثبيت (fixation): وهي تجميع للخلاصات الإبداعية التي أثمرتها عطاءات فريق العمل والوقوف عليها ودمجها في مواقف وذوات الشخصيات.

– مرحلة التطوير والإتقان (perfection): وهي المرحلة النهائية التي يصبح فيها التكرار (répétition) (2) وتطوير مهارات الأداء بوعي تقني، ثم بوعي التلقائية (أداء المرة الأولى).

لا يحق لك أن تمرض :

أثناء الدراسة في المعهد كان أستاذ مادة التشخيص (التمثيل) يقول لطلبته: ليس لكم الحق في أن تمرضوا.  وكان يبدو الأمر فيه الكثير من المغالاة، كثير من التطرف. مع الاشتغال ومع مرورالزمن، فهمنا ذلك جيدا، فهمت عمق الإشارة وباطنها.

العبارة تعني أن يكون الممثل قادرا على فهم جسده وذاته. وأن يعمل كل ما في وسعه ليجد الطريقة  المثلى للحفاظ على لياقته ثم فهم هذا الجسد بكل كيميائه في ظل التغيرات المناخية، نزلة برد خفيفة قد تعصف بعرض مسرحي .

بين المسرح والتلفزة :

في التلفزة يبدأ المخرج بإعداد الفيلم (معاينة الديكورات ، اختيار الممثلين …) ثم تأتي مرحلة التصوير. في هاته المرحلة يلتحق الممثل ويكون عمله :

  • لعب – أداء
  • إعادة –répétition
  • تصوير

وتكون عادة لحظة : العرض – الأداء – الإعادة ،هي لحظة التصوير وقد تكون لحظة التمرين هي اللقطة المحتفظ بها للمونتاج (التوضيب). (قليل هم المخرجون الذين يأخذون فرصة للتعامل مع الممثل وتخصيص وقت للتمارين، الإعداد، البروفة، والتحاور لبناء الشخصية ).

ينتهي عمل الممثل ويبدأ عمل كتابة أخرى هي صناعة الفيلم بالمونتاج والتركيب.

لماذا هذه الإشارة حول العلاقة بين المسرح والتلفزة؟

لأن الحلقة المفقودة هنا هي التدريب، البروفة…

البروفة في المسرح جد صعبة، الملسوعون بالمسرح هم القادرون على التمتع بزمن البروفة، القابضون على حرقة جمال وشغف المسرح، هم المتمتعون بلحظات التدريب، لحظات القلق، الغضب، العياء، الملل، الإشراقات المتقطعة، الجمود، القنوط، الفرحة، الاستكشاف، اللذة ، المتعة، الفراغ، اللامعنى، الرتابة، التكرار، الأفق المسدود، انتظارات بلا أمل، تعب، عدم الفهم، سوء الفهم، الآخر جحيم، بخل، عطاء، الآخر لا يفهمني، ضرورة الانضباط، تأخر…تأخر ..، إيقاع بطيء، لم يتبق لنا وقت كثير، صراع مع الزمن، نحن غير جاهزين ، هاتف آخر لحظة …فلان لن يحضر لديه تصوير…نزوة ممثلة نجمة، قاعة تمرين غير مجهزة، المال القليل….متى سيكون الديكور جاهزا؟.  كل هذه الأشياء (وأشياء أخرى  يصعب إدراجها) نعيشها في التداريب (زمن مكثف خارج الحياة يطل على شرفة حياة أخرى )

عندما يتعود بعض الممثلين على ما يتيحه العمل في التلفزة من ترف ورخاء وشهرة سريعة، فإن أغلبهم لا يعودون قادرين على تحمل المسرح وتحمل خصوصيات تداريبه وعروض جولاته.

أصعب ما في المسرح ليس ساعة العرض ولكن ساعات التدريب.

عدو الممثل هو الاطمئنان، اللاطمأنينة جديرة بخلق المبدع.

عدو الممثل هو الإقامة في نمط معلب.

عدو الممثل هو النجاح والإقامة في حرير تصفيقات الآخرين.

عدو الممثل هو الطمأنينة الخادعة المبنية على يقين مغشوش.

من هنا تصبح البروفة – التمرين مشرحة لعلاج الذات، مساحة للممثل للتعرف على ذاته ورسم مسارات أخرى غير تلك التي ننتظره فيها.

اليوم الأول للعرض المسرحي: التمرين الأخير

يوم العرض الأول، في هذا المساء سيقدم العرض للجمهور، عرق أيام التداريب سيجف للكشف عن خلاصات العمل – الإنجاز. هو يوم الأسئلة المكثفة، المتسلسلة، البسيطة، الساذجة، الدقيقة،  المعقولة، الغير مبررة. أسئلة ..أسئلة. ولأننا أجلنا الكثير من الأشياء إلى وقت لاحق فحتما سيصبح للاحق نهاية وأجل.

يأتي إليك الممثل (أو الممثلة ) ليسأل عن تفصيل دقيق وصغير يتعلق بلباسه، نسيته مصممة الملابس، قد يسألك أيضا عن لحظة خروجه من الخشبة ..الجهة والمكان وما بين الدخول والخروج ..أين سيضع كاس الماء ؟ وماذا سيفعل بذلك الأكسسوار المعلوم ؟ أسئلة كثيرة

عليك كمخرج أن لا تغفل أي سؤال، أن تصغي للجميع وأن تعطي لكل سؤال حقه في الإصغاء أولا ثم في التفكير. أنت لوحدك لا يمكن أن تجيب على كل هاته الأسئلة ولكن في الوقت المناسب (لأن الوقت يمر بسرعة يوم العرض والضغط يزداد على فريق العمل ومعه يزداد التوتر) عليك أن تجد من بين فريق عملك من يتكلف بمسؤولية حل كل مشكلة مهما كانت صغيرة ودقيقة وقد تبدو للبعض لا أهمية لها. مهمة المخرج أن يعرف متى يقول لا ومتى يقول نعم، هو بإحدى الصيغ هو الذي يصادق على الاقتراحات.

البروفة الأخيرة، يوم العرض.

أن تكون قادرا على تقبل السؤال وانتظار الأسئلة الأخرى، انتظار الأسئلة ليس بالضرورة معناه أن تكون قادرا على الإجابة عليها لأنها إشكالات ومشاكل تخلقها اللحظة والسياقات الخاصة بالعرض المسرحي، أنت بدورك لم تفكر فيها ولكن الآن (التمرين الأخير في يوم مضغوط بالتوتر) عليك أن تفكر عمليا وتطبيقيا في فك ألغازها.

زمن البروفة (المدة ):

ماهو الزمن الذي يمكن ان تأخذه البروفة ؟ هل يجب أن نأخذ وقتا طويلا في التدريب ؟ تخصيص وقت كثير للتداريب يتطلب مالا وتفرغا وجهدا فهل لدينا الاستعداد البدني والمالي لتخصيص زمن طويل للتداريب؟ ما علاقة التمرين بالزمن – الوقت؟ ثم هل تخصيص وقت قليل للتداريب ألا يحرمنا من نتائج إبداعية مبهرة ؟ ما علاقة الزمن بالإبداع ؟

وحول زمن التمرين نجد هذا النص لبيتر بروك يختصر فيه كل الأسئلة:

(إن الزمن ليس العامل الوحيد أو العامل الشامل، فقد نستطيع الوصول إلى نتائج مدهشة خلال الأسابيع الثلاثة ، وأحيانا يحدث في المسرح ما ندعوه بالتفاعل الكيميائي أو الخلط فتتفجر الطاقات على نحو مدهش، وتتلاحق الابتكارات ابتكارا بعد الآخر في سلسلة متوهجة، لكن هذا يحدث نادرا والحس العادي يعرف أنه في ظل نظام يستبعد أكثر من ثلاثة أسابيع للتدريبات ، فلا بد أن يعاني كل شيء من هذا التحديد ، لامجال هنا للتجريب أو للمغامرة الفنية ، لا على المخرج أن يسلم البضاعة في اليوم المحدد وإلا فهو مهدد بالطرد وكذا الممثل بالضرورة. صحيح أيضا أن الوقت قد يساء استخدامه فتنقضي الشهور ونحن نناقش ونرتجل دون أن يتبين لنا طريق من الطرق . وقد رأيت في روسيا عرضا شكسبيريا كان تقليديا لدرجة أن سنتين كاملتين من المناقشة والدراسة في الأرشيفات أدت إلى نفس النتيجة التي يصل إليها مسرح تجاري يستهدف الربح خلال الأسابيع الثلاثة. ولقيت ممثلا ظل يتدرب على دور هاملت سبع سنوات ثم لم يلعبه لأن المخرج مات قبل العرض .)(3)

ضيف التدريب :

كنا نتدرب لإنجاز مسرحية (العوادة )(4) وهي اقتباس حر عن نص (ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) للكاتب الايطالي لويجي بيراندللو بمسرح المعهد الفرنسي بمكناس (المسرحية تحكي عن تدريب –بروفة- لفرقة مسرحية داخل مسرح وكيف تأتي الشخصيات المتخيلة لتلج عالم المسرح، تطلب من الممثلين أن يحكوا عن مأساتها، مسرح داخل المسرح، تداخل الوهم والحقيقة ..

ونحن في التدريب، فجأة في عمق الصالة المعتمة سمعنا صوت الباب وهو يفتح ..كدت أصرخ في هذا الزائر المجهول الذي فتح الباب ..إن التدريب مغلق. ولا يسمح بحضور الغرباء ..لكن شيئا ما منعني …رأينا ثلاثة اشخاص ينزلون الأدراج أوسطهم كان عجوزا يتمشى ببطء وكأنه يتأكد من موقع خطواته في عتمة الصالة ..هل هو فعلا ؟ لا يمكن ..كيف حصل ذلك ؟

الذي دخل علينا البروفة – التمرين هو المخرج المسرحي الشهير بيتر بروك. بحضوره الهادئ والباذخ صعد الخشبة. و كأننا أصبحنا نعيش بين الوهم والحقيقة وكأن الأسطورة تداخلت مع عالم اليومي.

كانت لحظة ساحرة، هدوء، تجاعيد وجه أبيض خبر الخشبات والمسارح، لم أعرف كم مر من الوقت وهو يحدثنا (في حضرة الكبار لا تحس بالزمن حتى وإن طال ) المهم ما جرى في تلك البروفة تمحور حول :

المكيف والبروفة : كيف أن المكيف في صالة التمرين يؤثر على عضلات الجسد. بالإضافة إلى نقاط أخرى متعلقة بكيفية بداية البروفة وكيف يمكن أن يكون للتدريب وجوه (مناخه)، طقسه العام، لم تكن توجيهات بل كانت مثل اقتراحات وتساؤلات عفوية مع فريق العمل .

النقطة الثانية : وهي التي شكلت توجيها اساسا لمقترحاتي فقد قال لي : عد إلى إفريقيتك، عد الى نصوص افريقيا. كانت دعوة شفافة إلى الاهتمام ليس بالتراث المحلي ولكن بالمكون الإفريقي.

بعدها سأشتغل على مسرحية (لعظم ) وهي مأخوذة عن حكاية إفريقية لأمادو همباطي مبا وهي اشتغال على شكل مسرحي مفتوح خارج الصالة وخارج العلبة الإيطالية، ومن ثمة وانسجاما مع روح هذا العرض كانت تدريباتنا مفتوحة في الساحات العمومية فلم نكن نهتم بعيون المشاهدين سواء عندما كنا نتدرب في بعض الساحات المفتوحة أو في بعض المواقع

الأثرية التاريخية، حيث كان السواح يقفون ليشاهدوننا وقد يلتقطون بعض الصور. في البدء شكل هذا مصدر انزعاج لبعض عناصر فريق العمل، بعد ذلك اتفقنا على أن جزء من عملنا وتدريباتنا في هذا العرض المسرحي هو لوحات مكشوفة وعارية وأن نعي بأننا نتمرن ونشتغل بالمكشوف وفي حضور الآخر وفي حضور العابرين والسواح دون أن يؤثر ذلك على تركيزنا بالعكس كيف يمكن أن يتحول حضور الآخر إلى طاقة إيجابية للاشتغال وكل يوم تدريب هو بمثابة فرجة يومية للجمهور، جمهور العابرين .

ماذا أفعل في هذا المسرح ؟

في سنة 2011 و2012 اشتغلت على مسرحية (حسن الوزان – ليون الافريقي ) (5) وهو عرض مسرحي ينطلق من مادة تاريخية من خلال شخصية حسن الوزان الملقب بليون الافريقي .عاش في القرن الخامس عشر ميلادي ولد في غرناطة من أسرة موريسكية ثم تربي في مدينة فاس بعد سقوط الاندلس. قام بمهمات ديبلوماسية لفائدة سلطان المغرب ومنها الذهاب في رحلة الى السودان للمصالحة بين المسيحيين والمسلمين .اشتغل في مرسطان سيدي فرج بفاس وهو مستشفى للأمراض العقلية وكان يعالج المرضى بالموسيقى الأندلسية . سافر الى العديد من البلدان ثم سقط في الأسر على يد قراصنة بجزيرة جربة التونسية وقدموه كهدية للبابا ليون العاشر بروما الذي حمله على اعتناق المسيحية وتدريس اللغة العربية للأوربيين.

مسار متفرد لشخصية استثنائية، أتقن ست لغات وألف كتابا مرجعا وممهدا لمجموعة من المعارف الحديثة (وصف افريقيا ) الذي كتبه باللاتينية وساهم في قيام النهضة الأوربية وله كتابات أخرى كالمعجم (العربي – العبري – اللاتيني ).

مسرحيا وفي زمن الانغلاق والتمركز على الذات وتنامى التطرف وسوء فهم الاخر والتعصب ..كنت أريد أن أقول إن ماضينا يتجاوزنا (أو على الأصح لم أكن أريد أن أقول أي شيء ) بقدرما وجدت مادة درامية غنية وخصبة وخصوصا وأن الذي سيجسد شخصية حسن الوزان، هو الفرنسي فريدريك كالميس، الذي اكتشفته ساعتها والذي يعيش في المغرب منذ أكثر من عشر سنوات، فنان موسيقي أغرم بالثقافة المغربية وخصوصا بالموسيقى التراثية الحمدوشية، فأصبح من رواد هذه الطريقة بل من شيوخها أبرز فنانيها. حسن الوزان سافر من إفريقيا إلى أوروبا وفريدريك كالميس سافر من أوروبا إلى المغرب، السفر بمعناه الثقافي والوجودي، أن تقيم في ثقافة الآخر، أن تصبح ذاتك مجلوة في الآخر، بلغة العرفان ولغة العبور والسكن في مناطق باطنية خطرة.

ونحن في التداريب، بدأ ما سمي “بالربيع العربي”، حراك وغليان في مجموعة من الدول حكومات تسقط، رؤساء يتهاوون كأوراق الخريف. كنا نعيش زمنين، زمن التمرين، البروفات ثم زمن التحولات التي بدأت تعيشها هاته المجتمعات العربية، القنوات التلفزية سيدة الأمكنة وأخبار سقوط أنظمة وزلزلة أخرى تتوالى.  بدا وكأنني أعيش شرخا وجوديا وفي لحظة من اللحظات بدا وكأن التدريبات تمر وكأنها مسلسل تاريخي جاف وبارد. كنت ألمس حماس الممثلين وفريق العمل ليس في التداريب بل في تفاعلهم مع الأحداث ثم بدأ الحراك المغربي وظهرت حركة 20 فبراي، وبدأت مطالب الشباب المغربي تتزايد. وأصبحت أقول مع نفسي ماذا أفعل ؟ ماذا أفعل في هذا المسرح ؟ ..كان العالم تحت رجلي يتداعى، يهتز. المسرح في الشارع لا في تدريباتي . في الشارع يقع (هكذا خمنت) الحماس والحرارة، الانتظار، الشوق، الانفعال، الترقب، الغضب، التعبير، الصراخ.

كنا نناقش ما يقع حولنا أكثر مما نتحدث عن المسرحية. ماذا يقع؟ المسرح يتجاوزني، أبحث في ذاتي، أجدد أسئلتي، أبحث عن الخلل، أراجع بديهياتي، أبحث عن محركات ومولدات للحماس للفعل داخل البروفات …أبحث عن تمارين أخرى لتوليد محفزات للتركيز في عوالم جديدة …

وفي لحظة صفاء وتوهج داخلي وجدت دليلي، عبر صورة شريط، لقطة ذات معنى في فيلم سينمائي.

وكما في شريط التيتانيك

السفينة تغرق والجوقة الموسيقية تعزف غير مبالية

تعزف نشيدها

هكذا تخيلت الحالة :

البروفة يجب أن لا تكون صدى للظاهر

الروفة تأمل صامت لا صخب عابر

ثمة أسئلة يراكمها الواقع كل يوم ونحن نذهب الى المسرح للإصغاء إلى نشيد آخر إلى عزف مختلف. الشارع أردئ مسرح في العالم، والمسرح ليس دوره أن يكون خطبة (هذا لا يعني عدم الاهتمام بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ) وإنما الإصغاء إلى تلك النداءات الآتية من عمق الإنسان، تلك الاستغاثات الخارجة من أساطير أجسادنا. القدرة على الإقامة في مساحة التوترات العميقة التي تجترح معادن الإنسان فينا .

____________________________________________

  • في اللغة الفرنسية تحيل كلمة تدريب- بروفة – تمرين على التكرار والإعادة: (répétition)   

وفي هذا الصدد يقول بيتر بروك :..لكننا ألفنا أن نقول (البروفة) أو (جلسة التدريب ) في حين يقول الفرنسيون (التكرار أو الإعادة ) وتستحضر الكلمة الفرنسية الجانب الميكانيكي من العملية  أسبوعا بعد أسبوع، ويوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة،  يؤدي التدريب إلى الكمال. إانه كد وكدح ونظام،  إنه العمل السخيف الذي يؤدي لنتائج طيبة ، وكما يعرف كل رياضي، فان التكرار يؤدي دائما إلى التغير، والتكرار عمل خلاق يكون مسخرا لغاية ومدفوعا بإرادة ….) بيتر بروك (المساحة الفارغة ) ترجمة  وتقديم فاروق عبد القادر .منشورات مركز الشارقة للإبداع الفكري .ص189

3 –  بيتر بروك (المساحة الفارغة ) ترجمة وتقديم فاروق عبد القادر. منشورات مركز الشارقة للإبداع الفكري .ص27

4 – (العوادة ) اقتباس وإخراج : بوسلهام الضعيف عن نص (ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) قدمته فرقة مسرح الشامات  سنة 2013 بدعم من وزارة الثقافة وبتعاون مع المركز الثقافي الايطالي المسرحية قدمت في جولة بالعديد من المدن المغربية

(5) – مسرحية (حسن الوزان – ليون الإفريقي ) تأليف : أنور المرتجي إخراج : بوسلهام الضعيف قدمتها فرقة مسرح الشامات بدعم من وزارة الثقافة (قدم العرض الأول يوم 1 مارس 2011 بالمركز الثقافي محمد المنوني مكناس ) كما مثل المغرب ضمن فعاليات مهرجان المسرح الأردني الثامن عشرنونبر2011

قراءة الطاولة

 

(في بداية البروفة يكون الممثلون عكس الصورة النموذجية لتلك الكائنات المستريحة التي يتصورهم الآخرون عليها، إنهم يأتون ومعهم حقائب ملأى بالتوترات )

بيتر بروك

ماهي أول مرحلة لإنجاز عمل مسرحي ؟

متى يبدأ الإنطلاق الفعلي لإنجاز العرض المسرحي ؟

يكاد يجمع الممارسون المسرحيون إجمالا على أن مرحلة القراءة الجماعية للنص، أو قراءة الطاولة، تكاد تكون العتبة الأولى لدخول مرحلة الإنجاز المسرحي، فيها تتشكل البنيات الأولية للمشروع، يتحدث المخرج عن نوياه، عن مقاصده، عن تصوراته، تتضح معالم الفريق، من سيشتغل مع من، من سيقوم يهذا ومن سيتكلف بهذا، إنها المرحلة الجنينية حيث تلتقي جميع العناصر لتشكيل وهندسة ذلك الكائن المستقبلي الذي سيسمى عرضا مسرحيا.

الممثل يلمس النص، النص المطبوع أو المخطوط، المرقون أو المكتوب بخط الكاتب. أول علاقة مادية للممثل مع امتداد الشخصية، هناك من الممثلين من يميز حواراته بلون معين، إنه مند الآن يرسم حدوده، يضع لحالته الكلامية تسييجا ليتعرف عليه، ليتعرف على حجم كلماته، ليصبح اللون لونه وحده، لون شخصيته التي سيلعبها، والألوان لا تكفي، (في بعض الحالات تكون النسخ متاشبهة) يكتب الممثل اسمه على النص، الكتابة هنا رسم لميلاد

 ثاني، لخلق آخر، فهناك اسم المؤلف، ثم اسمي أنا، أنا المؤلف الثاني للنص ولهذا سأضع أسمي عليه. طوال مدة التداريب سيتعايش الممثل مع النص (الكتاب- النسخة)، وسيتحمل هذا الأخير كل الحالات النفسية التي سيمر منها الممثل، لن تبقى نسخة النص كما كانت، ستتعرض للتلف، للطي، للتخطيط، للحذف، للترقيم، للتمزيق، للتلوين، للتصحيح، كما أنها ستتجاوز ذلك، لتصبح هامشا موازيا لما سيعيشه الممثل في مرحلة التدريب، فنجد في النص أرقام هواتف، عناوين ومواعيد حياتية، خربشات أو جمل، وبقع مرق، أو سوائل أخرى تلطخ بها النص.

   هذا الكتاب – النسخة، سيكون رفيقا سريا للممثل أثناء التداريب، وقليلون هم الممثلين الذي يتذكرون هاته الرفقة، أونادرون هم الممثلين الذين يحتفظون بنسخة نص المسرحية، فبعد العرض الأول أو قبله ، يكون الممثل قد تخلص منه، تركه في بيته، أو نسيه في المسرح، أو ضاع في مكان آخر ما لا يذكره.

   إن مرحلة القراءة الجماعية للنص، هي المرحلة التي يسمع فيها المخرج، الممثلين وهم يقدمون لغة الشخصيات، هي مرحلة قد تكون حاسمة في بعض التجارب (المسارح ) حيث تعتمد عليها بشكل رئيسي على عكس ذلك، فثمة مسارح تجاوزت هاته القراءات التي تعتبرها مملة ومحنطة للنص .

إن هاته المحطة التدريبية تختلف من مخرج إلى آخر، ولكن العلاقة مع النص، سواء كان مكتوبا ومرتجلا لابد لها من مرحلة يلتئم فيها الطاقم لضبط عناصر التلاقي والتقاطع والتناسق بين كافة مكونات العرض المسرحي.

وبالرغم من كل التحولات التي عرفها المسرح والاختلافات بين الأساليب والمدارس، فإنه يبقى لحضور النص كقراءة، وتمرين صوتي ،ضرورة قصوى، في تشكيل العلاقات الأولى بين الممثل والشخصية. فالممثل عندما يقرأ كلام الشخصية بصوت عال، فإنه يخرج من دائرة العلاقة السرية بينه وبين الشخصية إلى العلن، إنها إعلان أولى شهادة ميلاد لهذا الثنائي، من هنا تعلن الشخصية عن حضورها المسموع. إن القراءة يجب أن تكون جسّا للنبض، لا أن تحنط في نبرة وطريقة واحدة، تجعل الممثل يحفظ لغة الشخصية بطريقة آلية وواحدة، يصعب عليه أن يتخلص منها من بعد.

بالنسبة إلي، (ومن خلال تجربتي المتواضعة )، العلاقة مع النص ضرورية. ولكن في أية مرحلة تكون قراءة الطاولة؟ أوضح أولا أنني أفضل أن تكون القراءات بلا طاولة، قراءة عارية، قراءة تتيح لإمكانية الجسد من أن يتخلص من عاداته اليومية الموروثة (سواء في الحياة أو في الفن ). إن الرجوع إلى النص قد يبقى متواصلا، حتى أثناء العروض، وبعدها، فثمة أشياء، ظلال، فواصل، نقط، إشارات خاطفة، إشارات لنظرات شخصيات بطريقة دقيقة. لم ننتبه إليها في القراءة الأولى، قد تضيف معاني جديدة. وهكذا أبقى دائما منتبها للعناصر التالية :

  • جعل الممثل لا يرتبط بكلام النص.
  • لغة الشخصيات ليست هي المدخل الوحيد نحو فهم الشخصية.
  • في القراءة أفضلها أن تكون بعد تدريبات جسدية لها علاقة مع النص وأجوائه وشخصياته.
  • أفضل أن أعطي الممثل نصوصي المخطوطة، وغالبا ما يطالبني الممثلين بنسخ مرقونة لكنني أرفض. الخط المكتوب بالحبر، المقروء بصعوبة في بعض اللحظات جزء من التركيب، هو عنصر كيميائي في البناء، أفضل أن يتهجى الممثل النص، أحب أن أرى الممثل يتلعثم اللغة التي سيقولها، تماما مثل الطفل، تلعثم الممثل، دهشته وهو يكتشف الجمل، ويخطئ فيها، ويبحث عن معناها. هذا ما أبحث عنه، ثمة لحظات في التهجي والتلعثم، تنفلت من الممثل، مثل نظرة خاطفة لايحس بها، تلك الشرارات قد تكون منطلقات رائعة لدخول مناطق الشخصية .

في بدايتي الأولى مع جمعية رواد الخشبة، وأثناء التداريب لإنجاز مسرحية( ألفية علي سيف) وكان نصا لعبد الغفار مكاوي مكتوبا باللغة لعربية، أذكر أنني قضيت وقتا طويلا أنقل النص، أعيد كتابته، أنسخه،  تذكرت المؤلفين القدامى عندما لم تكن هناك مطبعة وكان ينسخون نصوصهم لوحدهم . المهم عملية النسخ، جعلتني أعيش النص كمسار يعنيني، كحكاية، عشت الحكاية ومسار الشخصيات،  كتبت جميع الشخوص، وكنت أحس بأن النص المكتوب في ملكيتي، نصي أنا.

مع التطور التكنولوجي، أصبحت هناك تطبيقات على الهاتف تجعلك تقرأ النص باختيارات متعددة وكأنك في جلسة تدريب مع ممثلين تسمع أصواتهم فقط، وتبرمجها كيفما تريد. هي صيغة تجعل من الممثل في علاقة دائما مع نصه، وخصصا عندما يتعلق الأمر بنصوص طويلة تستدعي الحفظ، حفظ النصوص. مهنة الممثل كذلك أن يكون حفاظا كبيرا، فماذا يفعل الممثلون لكي يحافظوا على طرواة ذاكرتهم؟.

تقاليد الممثل

أشتغل على نصوص تدفعني لمراجعة معرفتي بالمسرح

إن أي ممارسة مسرحية لابد لها من وعي نظري يسندها، أعني بذلك صياغة مشروع فني (فكري). فالإخراج ليس هو الإنجاز التقني لعرض مسرحي، بل يتعدى ذلك ليصبح هندسة للمفاهيم الفنية، فهم للسابق، لسياق الممارسة الإبداعية في شموليتها، إنه بالأساس اشتغال على الأفكار التقنية وكذلك مساءلة للفكر السياسي السائد باعتباره مؤثرا على كل الممارسات المجتمعية، فكل مسرحية أنجزتها أو أفكر الاشتغال عليها هي نتيجة لتفكير في المسرح، من داخل المسرح بالمسرح.

لماذا المسرح؟ لماذا نقدم مسرحية للناس وبأي طريقة نقدمها لهم؟ أي النصوص نختار؟ مدة العرض المسرحي وعلاقته بالمتلقي ؟ علاقة المسرح بالمجتمع وبالسياسي؟

التفكير في هاته الأسئلة ينطلق من ثلاثة عناصر، (نظن ) أنها مركزية في اشتغالنا ومحركة لفعلنا.

  • (1) النص المسرحي: (اللغة – البناء)
  • (2) الممثل.
  • (3) العلاقة مع المتلقي.
  • النص المسرحي:
  • (أ) اللغة : عبر التركيز على اللغة الدارجة ( على الأقل في مرحلة هاته التجربة) ،اختيار يتقاطع فيه الذاتي والموضوعي، فلماذا الدارجة المغربية؟ وكيف تم التعامل معها في المسرح المغربي ؟

الدارجة مكون لغوي أساسي في ثقافتنا المغربية ولكن تم التعامل معها بتهميش ودونية من خلال تصور ساذج:

  • باعتبارها وسيلة للإضحاك فقط
  • تعبير عن الشرائح المجتمعية البسيطة والمتواضعة، فأصبحت بذلك لغة السوق، مقابل لغة عالمية تمثل المعرفة.

مثل هذا التصور ( وهو ينبني على موقف سياسي إيديولوجي) نمط اللغة، بسطها، حد من إمكانياتها، اختزل عمقها وشساعة معانيها ومتخيلها، وباستثناء جهود قليلة لمبدعين اختاروا التعبير بها مثل : المرحوم السعيد الصديقي، شفيق السحيمي، يوسف فاضل ومحمد قاوتي ..فإنها حنطت ضمن دولاب لغة الشارع. من هنا كان الرهان على تفجير إمكانياتها، باعتبارها حاملة لمعرفة جسدية، لغة تعكس ذهنية المغربي وتعبر عن حالاته النفسية، تاريخه، طموحه وأحلامه.

الدارجة حاملة لتاريخ منسي، مغيب يجب الكشف عنه، ولكنها عندما تصبح لغة المسرح ، يجب أن يشتغل عليها، لايجب أن تبقى كما هي عليها في الواقع، ولا في تعبيرات أدبية أخرى مثل الملحون، يجب أن تصبح لغة الدراما، لغة الممثل، تبطن أكثر مما تظهر، لغة الفراغات، البياضات.

إن النصوص القوية هي التي نسجت بحرفية ترك الفراغات، مدججة بالشفرات، ساعتها ستصبح غير مفصولة عن أداء الممثل. فالممثل لا يجب عليه أن يجسد اللغة ولكن أن يلعب ما وراء اللغة. فلايجب عليها أن تكون سندا فارغا وإنما فراغا يجسده بالمعاني المضمرة في باطنها. إن الكلام المسجوع المرتل المنتهي بالقافية هو قبر للممثل ولأدائه.

  • (أ)البناء :

من خلال الاشتغال على نصوص متعددة ومختلفة في بنيتها الدرامية. إن النص الذي يستفزني للإشتغال عليه هو ذلك النص المربك، الذي لايقدم حلولا إخراجية جاهزة، الذي يدفعك لأن تراجع معرفتك بالمسرح على ضوء شمس الحياة، الذي يولد فيك الفطرة الأولى للقراءة المكتشفة، المتلذذة، والمتخلصة من قيود المعرفة.

فعبر اختبار آليتي الترجمة والإقتباس تصبح اللغة مانحة نفسها، لغة مستقبلة، لغة حاضرة في اللحظة، وممتدة في الزمان متحاورة مع بنيات، شخوص ودهنيات، لغة حية . وهذا ماتم مع نصوص مختلفة في مرجعياتها فعند (برنارد ماري كولطيس) نجد لغة مسكوكة، منحوتة، كتبت بنفس شعري، بتكثيف لغوي حاد. أما عند (غزافييه دورانجييه) فهناك احتفاء بلغة اليومي، مغرقة في المحلية، لغة مفككة، تبدأ الجملة ولا تنتهي، ملام الناس العاديين، محاورتهم المشتتة، لغة صادمة، ولغة تعبر عن شاعرية اليومي. اللغة الوقحة للشارع. في المسرح يجب أن تعرف متى تضع الكلمة المناسبة في الجملة المناسبة وفي الزمن المناسب.

  • الممثل :

إن الأساسي في الممثل هو حضوره الجسدي فوق الخشبة، وهذا الحضور يمكن تحديده في نمطين:

– (أ)النمط الأول: يمثله الجسد الغير متعلم (الجسد الفطري).

– (ب)النمط الثاني : الجسد المروض (الجسد المتعلم – جسد التثاقف) وهو النمط الذي نسعى إليه .

(أ)النمط الأول : عندما يكون الجسد فوق الخشبة امتدادا للواقع، يوظف التقنيات التي امتلكها عبر المعيش والتربية وبالتالي تلقائية الواقع التي يوظفها فوق الخشبة. وقد يمتد هذا إلى لكنة الممثل، حيث نجد بعض الممثلين قد يجدون صعوبة في التخلص من لكنة بيئتهم أو مدينتهم.

(ب)النمط الثاني : عندما يتخلص الممثل من تربية وعادات مجتمعه، التخلص منها لايعني نفيها (أو محوها)، وإنما اكتساب ترويض جديد للجسد، فيصبح جسدا يعيش بين الواقع وخارج الواقع (عالم الخشبة ). فجسد هذه الثنائية مبرمج من الخارج، أعيدت له صياغة كلية ، فبرمج بطريقة جديدة ويؤكد (يوجينيو باربا) على أنه جسد متخيل، ليس فقط لأنه أصبح مهيئا للمتخيل المسرحي ولكن حركاته أصبحت تستجيب لقوانين المتخيل، غير تلك التي تحكم عالم الواقع اليومي ومن هنا يسميه (باربا) بالجسد الممدد، هذا الجسد غير قابل للتصديق لغرابته عن الواقع، هاته الغرابة ستكون مؤقتة لأنه سيمتلك طبيعة ثانية، من ثمة يقول (باربا) ..( يصبح جسدا غير مألوف، مفاجئ، ولكنه ذو مصداقية. فالجمهور لا يرى توظيف تقنية ما، لا يشاهد جسد-أداة ولكن الجسد في الحياة ) وما يمثل هذا النمط (الجسد ) هو الرقص الكلاسيكي، حيث تبرز فيه هذه الثنائية بشكل كبير، لأن هذا الجسد تعلم الرقص منذ سنوات الطفولة وبالتالي تغيرت طريقة مشيه، تكلمه، تعامله مع الفضاء ، يضيف (باربا) (توحي لنا حركاتهم الرائعة ومشيتهم الرشيقة التي تساهم فيها كل العضلات، لا عضلات الساقين فحسب، وكذا حركية العنق كحيوانات غريبة استطاعت أن تطوع الفضاء إلى درجة أن الشخص الذي لايرقص يداهمه إحساس غريب، كله غير ة يقويه العجز الأكيد). جسد مثل هذا يخلق لدينا مزيجا من الإنفعالات المتناقضة، والمولدة لدهشة وإبهار سحريين. جسد يمتاز بكونه يتجاوز معطياته الشرطية للواقع اليومي ،لتحقيق وظيفة تخييلية .

(3) العلاقة مع المتلقي :

انبنت العلاقة مع المتلقي المغربي طوال عقود من الممارسة المسرحية على نموذجين:

-البحث عن الضحك.

-التحريض والتعبئة السياسية (خصوصا مع مسرح الهواة ).

إن المسرح عملية جماعية، يتم عبر ممارسة مجتمعية تتداخل فيها عدة مؤسسات ولكن عملية التلقي يجب أن تركز على فردانية المتلقي. على تثوير حواسه، إمتاعه واستفزاز ذكائه، لا يجب أن ندخل في تواطئ مع ما هو كائن ولكن يجب قلب المعادلة باستنطاق البديهيات. مس المناطق المعتمة. المسرح ليس مدرسة تكرس فيها أخلاق السادة، إنه نظام لقلب القيم، كوة نطل منها على حرية أرحب، يعلمنا كيف نفكر باستقلالية. فإذا كان المسرح اليوناني، ضمن تصور للمجتمع، سعى إلى التطهير فإن حاجتنا للمسرح تبدو ملحة، لتطهير مزدوج للقلب والدماغ. إنسان اليوم مستلب، مستلب بكل شيء، بوسائل الإعلام التي تحاصره، بالمعلومات التي تطارده، تدخل مسام روحه. إنه مستلب بكل هذا التطور وهذا الكم الهائل من التكنولوجيا. مستلب بالأصولية الدينية التي تصرف وعيا بسيطا بالحياة، تصرف الفكر الخرافي، اللاعقلاني.

ويبقى المسرح مكانا آمنا، يمكن للفرد أن يسترد فيه (ومن خلاله)، جزءا من حميميته المفتقدة. أن يفكر باستقلالية مع خشبة المسرح. المسرح مكان للاقتسام، لغسل الأدمغة من الخرافة، مكان للمصالحة مع الذات المفردة. مكان أشبه بمكان للعبادة.

   ضمن هذا السياق، أفكر في المسرح، والاشتغال على تقاليد الممثل هو استمرارية لاختبار تطبيقي لهذه الأسئلة.

البحث في تقاليد الممثل، هو عودة بالممثل إلى ينابيع اللعب الحي، مساءلة للجسد، وللنص.

 اشتغلت في الجزء الأول لهذه التجربة على: تقاليد الممثل الإفريقي- الراوي.(من خلال مسرحية – لعظم قدمت سنة 2006)

النص المسرحي: اشتغال على حكاية إفريقية

مكان العرض: كل المساحات الفارغة، العرض غير محتاج لا للقاعة ولا لتقنيات الإضاءة والصوت.

(كان الرهان هو الحصول على خيمة للقيام بجولة في البوادي ولكن هذا لم ننجح في الوصول إليه، ولكن قدم العرض في بعض الفضاءات ومنها الموقع الأثري (هري السواني ) بمكناس، وقد كان الإشتغال مع الممثلين غنيا وخارقا، ولمسنا كيف أن اكتساب لغة أخرى (لهجة إفريقية ) يغير من الممثل ومن طريقة لعبه، ويجدد خياله ويمنحه مفردات جسدية جديدة )

الجزء الثاني: تقاليد الممثل بالشرق الأقصى.

النص : اقتباس ومسرحة رواية (الموسيقى )( قدمت سنة 2007) للكاتب الياباني يوكيو ميشيما، وهي مسرحية تعتمد على التحليل النفسي في حبكتها .

…………………………………………………………………………………………………….

ملاحظة:

لم نذهب بعيدا في هذه التجربة، لعدة عوامل موضوعية وذاتية، ومنها أن السياق المسرحي لا يمنح اختيارات البحث والمغامرة كما أن الراهن المسرحي محكوم بالنتيجة (العرض المسرح ). فمثل هذا المشروع محتاج إلى انزياح زمني ومادي ومكاني ، للدفع بالتجربة المسرحية في ثخوم مناطق مجهولة ، في جزر نائية وبدائية لمتخيل إبداعي حي ومتجدد.

حياة وحلم وشعب في تيه دائم

ذات غشت حارق كنا مقبلين على تقديم مسرحية (الموسيقى). ونحن على مشارف آخر الترتيبات لإشعال الأضواء، وغير بعيد عن مكان العرض ثمة أضواء أخرى كانت ستشتعل، أضواء تفجير إرهابي(أ).

  شاب في مقتبل الحياة، مهندس حمل قنينة غاز وهم بتفجير حافلة سياح بساحة الهديم التاريخية، انفجرت القنينة في وجه الشاب على غير موعدها، فأصيب حاملها بجروح بليغة ما الذي يدعو شاب في أوج الحياة وبوضع اجتماعي مريح أن يقوم بهذا الفعل؟

(الموسيقى) عمل مقتبس عن رواية بنفس الاسم للكاتب الياباني يوكيو ميشيما، مسرحية عبارة عن حصص للعلاج النفسي وغوص في أعماق (عفاف) بطلة الحكاية التي وجدت نفسها باردة جنسيا. بعد العرض كان ثمة أسئلة أخرى بدأت تتشكل، شك، هدم، حيرة، قلق، مساءلة ذاتية، ما الحافز على القتل ؟ ما الذي يدعو شاب في أوج الاكتمال أن يهدم حياته مع حياة الآخرين؟ أي ثقافة هاته التي تدربنا على الجحيم؟ تكاثفت الأسئلة الدامية في حلقي، هل يمكن للكتاب أن يغير حياتنا ؟ هل يمكن للفن، للإبداع أن يؤثر في حياتنا ؟

فتولدت مسرحية (حياة وحلم وشعب في تيه دائم )

     سعيدة العلالي بنت أحمد الجزيري لمرابط، أستاذة وباحثة أنجزت بحث دكتوراه حول الشاعر والكاتب محمد خير الدين، سافر ابنها يونس الملياني لفرنسا لدراسة  الطب، فتنقطع عنها أخباره. بعد سنوات تتلقى هاتفا يخبرها أن ابنها في طنجة وقد وقعت له حادثة سير. سعيدة في المستشفى، يرقد يونس فوق السرير في غيبوبة. فهل هذا هو ابنها؟ نفس الوجه للطفل البريء الذي أنجبته ولكنه الآن بلحية طويلة وكثيفة. نفس البدن وقد كبر ولكنه بلباس غريب عنها، لباس أفغاني، لباس يعلن صاحبه الانتماء إلى ضفة أخرى. تفجعها الحقيقة المرة، تفكر في إنكار هذا المخلوق الذي خرج من بطنها .

هل هي حقيقة من أنجبت هذا الكائن الجحيمي؟ هل هي من أرضعت؟ ماذا رضع من ثدييها  ؟ حتى حقيبة ملابسه والأقراص المضغوطة تدل على أنه، ابنها، ولكنه ينتمي إلى إنسانية أخرى . في حقيبته  تجد شيئا سيغير مسار علاقتها مع يونس، قرصا لشريط فيلم للمخرج الاسباني (بيدرو ألمودوفار) : (تحدث معها ). في الفيلم ثمة نساء، امرأة في غيبوبة والرجل يحكي لها، يتكلم معها، يتحدث إليها ومعها.

تماما وكما في الفيلم تقرر سعيدة أن تبقى مع يونس، أن تحكي له، عن المغرب، عن نفسها، عن قراءاتها، عن النماذج الحقيقة التي أنارت طريقها، مثل الشاعر محمد خير الدين. الحكي لتخليص ابنها من الوحل الذي غرق فيه، مثل شهرزاد تحكي لكي تعيش ولكنها تحكي لكي تنقذ المستقبل. تحكي له عن الأيام الأخيرة للشاعر، كوسيلة لكي يعود، لكي يصبح كما كان يونس ابنها الذي تعرفه.

    مسرحية عن الشاعر محمد خير الدين، الذي لم يكن – فقط – نموذجا للشاعر الباحث عن هيروغليفية جديدة وإنما يمكن أن يكون نموذجا لتمرد شعري حقيقي، شاعر هدم حدود الأجناس الأدبية ووضع دمه في ضاحية الفقدان.  في بداية المسرحية ثمة مشهد أتذكره بألم وفيه اللحظات الأخير لمحمد خير الدين وهو يعاني ورغم المرض يكتب ويكتب وقد جمع مذكراته في يوميات ضاجة بالعذاب، قضاها بين سرير المستشفى وفندق باليما في الرباط (..صرت عاجزا عن تناول أي شيء من الطعام إلا أن يكون خفيفا أو حساء . نقص وزني وهزلت في لمح البصر ، أقضي سواد يومي رهين السرير ، مضطجعا على جنبي الأيسر (المريض )، إذ لم يعد بمقدوري أن أتخذ لي وضعية سواها، انقطعت عن الخروج، واشتد توتري، حتى صرت أغضب وأحنق لأتفه الأسباب . بححت (ولاأزال فاقدا صوتي حتى كتابتي لهذه السطور)).

أعود الى شعر وكتابات خير الدين فأكتشف فيها قارات مديدة من الحيوات،  ثمة حشرات برية، طبقات جيولوجية لأرض على وشك الخسران، صراخ ودماء تسيح، جثت متراكمة في مدافنها القصية. في نصوصه الأخيرة يبدو خير الدين مثل بوشعيب في رواية (كان فيما مضى زوجان مسنان سعيدان )هادئا يعيش بدون بطولات ولا أوهام، بسكينة بأمان متوحد مع الطبيعة، التين الشوكي وأشجار اللوز العجوز والهزيلة، مع الكائنات التي أحبها : زوجته وحماره وقطه .

     في (حياة وحلم وشعي في تيه دائم ) اخترت أن يكون الملصق عبارة عن بورتريه لخير الدين، صيغة للاحتفاء برموز تصنع وتشيد المتخيل المغربي. عامل الاستقبال في فندق (باليما) عندما شاهد الملصق، أراني مجموعة من الأوراق تضم رسومات وقصائد خير الدين تركها عنده، وهو يعلق عليها مبتهجا بما منحه الكاتب المشهور، ثم أضاف : في  غرفته لم يكن يفعل شيئا سوى الرسم والكتابة والألم .

أكيد أن شاعرنا ترك ذخيرة كبيرة من الأعمال، كما ترك مثلها الكثيرون من مبدعينا.

فمن يحفظ هذه الذاكرة ؟

(أ) (يتعلق الأمر بمحاولة إرهابية فاشلة لشاب مهندس دولة حاول تفجير نفسه بقنينة غاز قرب حافلة سياحية بساحة الهديم بمكناس بتاريخ 13 غشت 2007 )

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش