المؤتمر الفكري التجارب المسرحية المغربية، الامتداد والتجديد مساءلات علمية وعملية، لتجارب مسرحية مغربية (الندوات الفكرية.. تفاعل حيوي، تطبيق وتدريب) المادة الفكرية والفنية لتجربة المسرحي مسعود بوحسين

 

المؤتمر الفكري

التجارب المسرحية المغربية، الامتداد والتجديد

مساءلات علمية وعملية، لتجارب مسرحية مغربية

(الندوات الفكرية.. تفاعل حيوي، تطبيق وتدريب)

 

 

المادة الفكرية والفنية لتجربة المسرحي

مسعود بوحسين

 

يوم الخميس 12 يناير 2023

12:05 – 14:00 : الجلسة الثالثة

مسير الجلسة: عبدالنبي دشين

المتداخلون أصحاب التجارب :

  • مسعود بوحسين
  • حسن هموش

المسائل: مصطفى الرمضاني

المحوصل: عبد المجيد أوهرى

سيرورة الإبداع الركحي

(رؤية مهنية ذاتية)

د. مسعود بوحسين.

 

صعب جدا أن يتحدث مبدع عن تجربته بنفسه، ولاسيما إن كان يعتبر التجربة لازالت مفتوحة على إمكانيات متعددة وعوالم لازالت مستعصية.

ولكن من منطق تقاسم التجارب والرؤى الشخصية، قد يبدو الأمر ممكنا، بل ومفيدا. وفي هذا الإطار أحيي هذه المبادرة، التي تروم تجاوز الخطاب النظري إلى عوالم المخرجين الخاصة وحميميتهم الإبداعية.

في سياقات مسرحية أخرى، سيرورة إبداع الفنانين، مثلما يمكن للفنانين أنفسهم أن يتحدثوا عنها، في مذكراتهم وسيرهم الذاتية، هي أيضا موضوع بحت علمي. بحت لا يقتصر على تحليل الأعمال وتقييمها فقط، بل وحتى سيرورة إبداعها. وأتمنى أن تكون هذه الدورة مناسبة لفتح هذا الأفق البحثي في المجال المسرحي العربي.

في هذه الورقة، سأقدم بعضا من طريقة عملي على العرض المسرحي وفق ما يسمح به الحيز، أقول بعضا، لأنه يصعب أن تختزل الكلمات كل المحطات، وأن تحل محل تفاصيل كثيرة تحتاج حيزا أطول، ربما سيحين وقت الحديث عنه.

  • محطات ملهمة في فهم سيرورة الإبداع

في كل مسار فني، لابد أن تكون هناك نقطة تحول تصنع قناعات راسخة في وعي أو لا وعي المبدع، وتؤثر بشكل كبير في مساره الإبداعي. محطات تكون نقطة تحول ترسخ قناعات شخصية مهنية محددة.

  • المحطة الأولى: لقاء الجماليات.

منذ بدايات الهواية، والعبد لله يمارس المسرح في دور الشباب وأنديتها وجمعياتها انطلقا من ثمانينيات القرن المرض، وفي نفس الوقت كان هناك شغف بالقراءة والإطلاع، في ما يتعلق بالمسرح والفلسفة أيضا. وحدث ذات يوم أن وقعت يدي اكتشاف ثمين ساعتها، لم يكن شيئا آخر غير “كتاب علم الجمال” لهيغل. حاولت أن أفكك طلاسيم الكتاب ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ثم وضعته بعدها وفي خاطري أسئلة لم أعد أعيرها بالا لمدة طويلة.

واصلت شغف المسرح كاتبا حينا وممثلا كثيرا ومخرجا أحيانا في إطار الهواية، أبحت عن مرجع وعن ملاذ وعن شمعة تنير الطريق…اجتزت مباراة المعهد سنة 1992 وتلقيت الكثير من المعلومات وعشت الكثير من التجارب واستفدت من أساتذة كثر.

لما انقضت  سنوات الدراسة الأربع، حان وقت تقديم بحت التخرج، الذي يعادل الإجازة الجامعية في المغرب. وبما أن الإخراج لا يدرس قلت في المعهد كتخصص، ولكن يمكن، في المقابل،  أن يكون موضوع بحت تخرج، مسبوق بكلمة “محاولة”.  اخترت أن أنتهز الفرصة. متبعا تفكيرا براغماتيا هو كالتالي: درست التمثيل بما يكفي في الزمن المتاح…لم إذن لا أحاول أن أخرج عملا مسرحيا؟

  • المحطة الثانية: “قصة حديقة الحيوان” أو التجربة مرتين:

“قصة حديقة الحيوان” للكاتب الأمريكي إدوارد أولي كانت تجربتي الأولى. تعريبا وإخراجا سنة 1996، في إطار بحث التخرج.  حاولت فيها أن أختبر نفسي كمخرج بصحبة ممثلين زميلين: عبد المجيد التونسي في دور جيري وعبد المولى محريم في دور “بيتر” أو “بطرس” ، ورغم أن النتيجة كانت جيدة بالنسبة لطالب حديث التخرج، أحسست بشيء من عدم الرضا. ربما أن الطموح كان أكبر من الإمكانيات. وظل في ذهني سؤال:  لم هناك فرق شاسع بين ما تخيلت وما أنجزته صحبة الممثلين؟  ما الذي يقع ما بين اللحظة التي أنهض فيها من كرسي المخرج وأوقف الممثلين لكي أوجه أو أبدي ملاحظة؟

بالنسبة للسؤال الأول، كان لدي حدس بأن المشكلة تكمن في أنني عقلاني أكثر من اللازم، ولا أترك مساحة للسليقة والعفوية أن تسود دون أن تبطل دور العقل؛

أما السؤال الثاني، فجوابه أني كنت أشعر أحيانا أن هناك حاجة لأن ألعب دور المخرج أكثر من أكون مخرج.

ها أندا جالس على الكرسي، وألتمس من الممثلين أن يلعبوا أدوارهم. ولكن في لحظة ما علي أن أقول شيئا… ولم أنا هنا؟ أنا المخرج، ينبغي أن أمارس مهمتي. أحسست أنه لمرات عديدة وأنا الممثل أني أكذب على الممثلين.  ومثلما تعلمت ممثلا أن أكون صادقا، قد أخون ذلك الصدق مخرجا…هل يعني هذا، أنه مثلما نقول ” أن تمثل، هي الا تمثل”، يمكننا القول أيضا ” أن تخرج هو ألا تخرج”؟

هذه الأسئلة بقيت في خاطري وذهني، فهمتها فيما بعد  كفنان وأستاذ، كمشكل إبداعية جوهرية.  وكان علي كفنان زاوج النظرية بالتطبيق، فنان يمارس المسرح يوميا، يقرأ يوميا..كان علي أن أفهم مع مرور الوقت حقيقة جوهرية: وهي أن الإبداع أولا وقبل شيء عملية ذاتية قد تفسدها العقلانية الزائدة عن اللزوم.     

    لنترك هذا الإكتشاف الذي كان ثمينا بالنسبة لي، لأننا سنعود له. وهو الذي مكنني في بعد من إعادة إخراج نفس المسرحية ثلاث سنوات بعد ذلك. 

  • المحطة الثالثة: أيون طوبوشارو: لقاء الإبداع والإستتيقا.

لما سافرت إلى رومانيا للدراسة في “الجامعة الوطنية للمسرح والسينما”، كان الإطار النظري للدراسات المسرحية إما تاريخيا أو جماليا، تذكرت كتاب هيغل الذي قرأته لسنوات، واستهواني هذا المجال المعرفي وتطبيقاته في مجال المسرح وفن الممثل تحديدا.  واهتممت بفن الإخراج من منطلق إدارة الممثل وما يتبعها من أمور أخرى.

علمتني الجماليات أن هناك مفارقة ما بين التفكير في الإبداع من الخارج، والتفكير فيه من الداخل.  تفكير الداخل يبدأ برؤى ويحتاج مناخا وسيرورة وإلهاما يتم التحايل عليه، بشتى الطرق حتى يحضر وعملية تأثير وتأثر على المخرج أن يصنعها في التدريب، ليصبح الإبداع جماعيا، كما لوكان فرديا. وكيف يمكن لعمل فيه جماعة أن يكون له نفس الجو تقريبا الذي يعيشه الشاعر وحيدا أمام أوراقه والرسام في مرسمه؟…هذا ما فهمته وما ظللت أبحت عنه. وأظن أنني وجدت طريقة شخصية وعملية لفعل ذلك. وأظن أن لكل مبدع طريقة ما جمعها وكرسها من خلال مساره المهني.  

  • المحطة الرابعة: إنهم باردون، يلعبون دون حرارة”.

أول تدريب حضرته في مسرح بولندرا ببوخاريست. كان صدمة بالنسبة لي. جلست في القاعة أتابع عمل المخرجة الرومانية “كاتالينا بوزويانو” وهي تدير الممثلين على الخشبة. ممثلين كبارا  ومشهورين يتدربون بكل هدوء وبأصوات منخفضة وكأني بهم لا يبدلون مجهودا. انتابني شيء من الإستغراب من هدوئهم، ربما لأني تعودت أن أرى الممثلين يتصببون عرقا وهم يتدربون، يلقون الحوارات من الوهلة الأولى بأصوات مرتفعة وكأن الجمهور حاضرا. هؤلاء الذي أمامي عكس ذلك يتدربون بكل هدوء، يتوقفون لكي يضبطوا تموقعاتهم يتناقشون مع المخرجة ثم يواصلون..

داومت الحضور يوم عن يوم. ومع كل إعادة هناك شي جديد يضاف لشيء قديم.

ورغم إني مسلح بمفاهيم عملية وتقنية، فهمت حينها أن وضعها على أرض الواقع ينبني على أشياء دقيقة: أفعال، ردود أفعال، تموقعات، نبرات علاقات مع الديكور والأكسوسوارات، هذه الأشياء لا يمكن أن تكون دفعة واحدة، ليس هناك في البداية أية إمكانية لكي نبدع العرض كما نتصور دفعة واحدة. ومادا نتصور غير أوهام في الخيال لا تجد طريقها إلى الركح بسهولة…الواقع أن هناك مراحل، وهناك سيروة، وهناك زمن ومدة.

الممثل في البداية لن يستطيع أن يقوم بكل العمليات دفعة واحدة، لن  يتمكن من الأفعال التي يقوم بها ولكي يضبط التموقعات وتأثيرها على رفيقه في الأداء…لن يستطيع فعل ذلك، ما لم يبن العمل بالتدريج كما في كل الصنائع.  

  • المحطة الخامسة: ليفيو تشولي أو سحر الواقعية في الفانتازيا.

المخرج الروماني “ليفيو تشولي”، كان أيضا من الذين استفدت منهم الكثير، حين إخراجه لمسرحية هاملت.  مخرج مسرحي وسينمائي وممثل وسينوغرافي ومهندس معماري.  صادف وجودي ببوخاست عودته لرومانيا بعد هجرة طويلة لأمريكا سنة 1998.  رافقته أثناء إخراج هذه المسرحية، وكنت شغوفا أن أتابع مخرجا مسرحيا عالميا كبيرا.

وطيلة هذه المدة التي بلغت زهاء الأربعة أشهر.  اعتقدت أنني وجدت ضالتي في هذا الرجل وترسخ لدي الإعتقاد أنني وجدت المنطلق. 

رجل هادي لا تكاد تشعر بوجوده، ينظر للأشياء بعمق ويهتم بالتفاصيل. كنت قبل ذلك أخشى أن أمثل بذل الممثلين عندما أخرج. وكنت أعتبر ذلك عيبا، فإذا أجد هذا الرجل كلما أراد أن يبدي ملاحظة يمثل الموقف باقتضاب، كما لو  كان يرسم خطاطة لوحة،  فقط من أجل أن يفهم الممثل ما يعنيه، يتوقف أحيانا ويحكي واقعة أو يسرد حدثا أو يسأل سؤالا، وقد يحدت أن يجاريه الممثلون في ذلك، لغاية استحضار مواقف مماثلة.

يصنع جوا من الهدوء والتركيز، وروح العمل الجماعي، وهكذا تتناسل الأفكار وينفتح الخيال.

منذ الأيام الأولى كنت أنتظر بشغف كيف سيدير “ليفيو” مشهد الشبح. جاء وقت العمل على المشهد. وكان هكذا:

 هاملت لا يصدق ما جاءه من أخبار العسس بأنهم رأوا أباه ذات ليلة، يسخر منهم ومن حماقتهم، وكان ليفيو يركز في أداء هاملت على أن يكون غير مصدق لما سمع، فجأة يظهر الشبح الذي يراه هاملت من الكواليس، يتهاوى على ركبتيه ليس لأنه شاهد أباه، بل وكما لو رأى جنيا. لم يكن يخطر لي على بال أن تكون مشكلة هاملت في هذه اللحظة وهو يلاحظ الشبح أنه مرعوب من وقوع شيء لا يحتمله العقل.. ، يرفع السيف مقلوبا  كعلامة الصليب.، هوراثيو ومارسيلوس يثنيانه عن اقتفاء أثر الشبح..ينفرد هاملت ويبدأ الأب في سرد حقيقة اغتياله من قبل أخيه.

وأنا أشاهد الممثلين يتدربون، أحسست أن أداؤهم مقنع. ” ليفيو” على العكس لم يعجبه المشهد رغم ذلك، رآه ميلودراميا لا يليق بجلال التراجيديا. التراجيديا لا بكاء فيها ولا نحيب. “تراجيديا بابتسامة ساخرة على الشفاه”. فهمت بعدها أن هناك شيء ما بالنسبة لي يربط ما بين مقولات الجمال: التراجيدي ليست الشجن، هي كل ما هو سام وبطولي حين ينكسر ويتهاوى أمام مأزق محدودية قوة البشر، والبطل التراجيدي هو من يحرق أخر أوراقه رافضا وضعا تكون فيه الشفقة والخوف ملاذه الأخير, لذا كان المشهد بالنسبة للفيو ليست في في أسلوب التراجيديا. 

أبدى ليفيو الملاحظة، وكانت الحاجة إلى وضعية شبيهة  Situation parallèle لكي يخرج الممثلون من المأزق، أي وضعية موازية لها نفس الميكانزمات التي بني عليها المشهد الأصلي. وكانت كمايلي:

الأب كما لو كان قويا وطاغية، وحدث أن بترت أطرافه العلوية في حادث سير، وذات يوم اعتدى عليه أحد غرمائه، مستغلا ومنتهزا ضعفه. بعد ذلك جاء الأب إلى ابنه هاملت، لا ليشتكي ولا ليطلب اللإنتقام. بل ليفرض الإنتقام. لعب الممثلون هذا المشهد وفق هذه الوضعية الشبيهة التي حركت خيالهم، وتحقق السحر. حوارات الأب أصبحت كطلقات الرصاص، فيها الكثير من اللوم حد الشتم. كما لو كان يقول الأب لهاملت: “كن رجلا أيها الإمعة، وانتقم لأبيك من ذلك الوغد الجبان، الذي حال الموت دون أن أقوم بذلك بنفسي. لو لم أكن ميتا لمزقته إربا إربا”.  نبرة الممثل الذي يودي دور الأب فيها الكثير من الحنق والإحساس بغصة الغدر.

مع انتهاء المشهد. صاح “ليفيو”. جميل لم يعد المشهد بكائيا.  إلى الاستراحة.

أثناء الاستراحة، وقفت وليفيو في البهو: سألني: كيف وجدت المشهد؟

أجبت: لم أكن أتخيله بهذه البساطة.

ليفو:  وكيف كنت تتخيله؟

أجبت:  اعتدت أن أفكر في المشاهد “الفنتاستيكية” بمؤثرات كثيرة، وها أندا أشاهد ما هو “فنتاستيكي” بواقعية.

لماذا؟

  • لأن في الأمر شبح.

أجاب ليفيو مبتسما:  لم أشاهد في حياتي شبحا، لكي أكذب على الناس. المشهد أصلا “فنتاستيكي”. وهاملت نفسه لم يصدقه في البداية. وأجزم أن شكسبير زرع الشك في حوارات هاملت لكي يشكك معه الجمهور، وعندما يتحول الخيال إلى واقع سيصدقه الجمهور أيضا على أنه واقع.

هذه الحادثة التي أرويها كما وقعت، جعلتني أحسم في قناعتي الشخصية أن ما نسميه بالواقعية في الأداء صالحة لكل شيء. 

حتى في الأساليب الأكثر جرأة أو خروجا عن المألوف، ينبغي أن تكون واقعية، رغم أن النتيجة قد تكون غير واقعية. مشهد موضوعه شخص يشرب قهوة فوق القمر، ولونها أحمر غير لونها البني المعروف واقعا، مثلا، يجب أن يشربها الممثل كأنها قهوة، وكأنه جالس فوق  كرسي في مقهى لكي يصدق الجمهور الخيال وفق أعراف المسرح.

شي ثاني تعلمته من هذا الرجل مقولة يكررها باستمرار ” أداء الممثل يوجد بين الورقة والمداد”.  اللغة المنطوقة ليست سوى منطلقا، يجب البحث عن فعل يعطيها معنى.

  • التداريب وسيرورة البناء الركحي للعرض.
  • أهمية القراءة على الطاولة.

التداريب بالنسبة لي مرحلة تأخذ فيها قراءة المسرحية على الطاولة وقتا طويلا، إن كان العمل لا يعتمد على الارتجال، وإن كان يعتمد عليه،  فهو في  هذه  الحالة، بديل عن القراءة.

وبالرغم من أننا نسمي هذه المرحلة بالقراءة، فهي ليست للقراءة فقط. هي مرحلة بالنسبة لي، يفتح فيها المخرج للممثل الكثير من المنافذ والتي تضيق تدريجيا لتتوحد في مسار محدد يضمن وحدة أسلوب العرض، وهو ما يوصل في بعض الأحيان إلى المرور غير المتوقع ولا المبرمج من الطاولة إلى الخشبة.

وكم يحدث من مرة أن ينهض الممثل دون شعور أو أن يقف من على كرسيه ويؤدي مقطعا، وعندما تتكرر هذه الحالة، أكون متيقنا أنه حان الأوان للتدرب على التموقعات، ويتم الإنتقال من مرحلة إلى أخرى في جو فيه الكثير من التلقائية والإبداع. 

في مرحلة القراءة تكون الأسئلة، والبحت عما تحت كلمات وجمل النص من نوايا. وما يضمره القول من فعل وتقييم ورد فعل، في سلسلة مترابطة. وهكذا يتضح لكل ممثل دوره مع تقدم القراءة بشكل واضح وكجزء من كل. 

أركز كثيرا على الفعل وتقيمه كنواة أساسية للأداء. ماذا أفعل كممثل ، وكيف يقيم  غيري ما أفعل قبل أن يقوم بفعل مضاد. أركز على الأداء دون حوار. حتى لا تكون المسرحية سلسلة من تبادل حوارات فقط.

رد الفعل لا يكون عضويا ولا مناسبا دون تقييم يسبقه ويجعل الحوار ينبعث تلقائيا من فعل موجود سلفا.

أبحث عن صراع خفي تارة و واضح تارة أخرى.

  • و”حشية” الفعل وأخلاقيته.

في هذا الصدد، وبموازاة تدريسي للتمثيل، وعملي لفترة طويلة على الأفعال الجسدية وفق منهج “ستانيسلافكي” ومناهج أخرى، تكونت لدي فكرة، أن في الفعل شي من وحشية الطبيعة تشكل جوهره. لا وجود لمسرح دون صراع. ليست هناك شخصية مسرحية لا تريد شيئا تناله أو أن تستحوذ عليه، ولو كان أتفه ما يمكن يتصوره العقل. ولذا سؤال: ماذا تريد وما هي رغبتك من فعل هذا؟ سؤال محوري يحدد الهدف… “هات من الآخر” كما يقول الإخوان المصريون.. هذا بالنسبة لي مفتاح لوضوح المقاصد في ذهن الممثل، ويمكن الممثل أن يبحت عن مقاصده حتى في السلوكات الصغيرة التي تحملها حوارات عادية أو بمجرد حوار دون أفعال. 

لكن مع “وحشية” الفعل هناك أخلاق تفرضها الثقافة. نوايا الإنسان ونوازعه لا تظهر بنفس الطريقة التي يفكر بها دائما. الطبيعة تدفعنا وتجعلنا نرغب في أشيا كثيرة، والثقافة تحجم تلك الرغبة وتؤنسنها في إطار الأخلاق والقواعد والقانون.  هناك تمثيل أيضا في واقعنا الاجتماعي لا نشعر به. هو جزء من تركيبة الإنسان ككائن اجتماعي. لكن على الممثل أن يبحت عن الفعل الخام، قبل أن يجعله فعلا ثقافيا.

بين الفعل الطبيعي التلقائي وشكل ظهوره مسافة. هي الفرق بين هدف ونية ورغبة من جهة وطريقة التعبير عنها بشكل آخر في إطار الثقافة والأخلاق. بعض المعرفة الفلسفية بالفن، جعلتني أقرأ أرسطو وستانيسلافسكي وغيرهم من هذا المنظور العملي. 

بالنسبة لي، هذا ما يجعل طبع الشخصية المسرحية تظهر كنتيجة تلقائية لفعل بالنسبة للجمهور الذي يتابعها. ليس من خلال ما تقوله، بل من خلال ما تفعل، وتتفاعل من خلاله كوجود أنطلوجي.  وهو أمر لا يحتاج فيه الممثل في نظري أن يبدل أي جهد آخر، غير البحت عن الفعل المناسب والتقييم المناسب ورد الفعل المناسب وهذه البساطة التي هي كل الصعوبة في نفس الوقت. 

  • الممثل كواقع والشخصية كوهم .

عامل الزمن أيضا مهم، والشخصية ليست سوى نتيجة تراكم وتتابع أفعال في زمان ومكان في ذهن الجمهور، أنطلاقا من أفعال واقعية تنتج حكما أخلاقيا. الطبائع لا توجد إلا من خلال الفعل. الشخصية المسرحية إذن لا وجود لها، ألا كطيف “ميتافيزيقي” أخلاقي.  الحقيقة الأنطولوجية الوحيدة في الزمان والمكان المدرك بالعين والأذن هو الممثل الفاعل وما يوجد حوله على الخشبة.

في البدايات، كان لدي اعتقاد أن الشخصية يجب أن  تركب أو تبنى. نعم صحيح لكنها تبنى بالأفعال المتتابعة والمتراكمة أولا. كلما قام الممثل بما نستنتج منه أنه داهية أو أفاق أو متآمر أو خسيس أو صدوق أو طامع كلما ظهر ذلك كنتيجة، هذا في حد ذاته حكم أخلاقي كنتيجة لما يفعل. فلان داهية،فلان آفاق وخسيس…على حسب ما يقوم به من أفعال.

هذه الفكرة، لا نجدها في المسرح وفن التمثيل فقط. في كل الفنون أيضا. هناك مادة وهناك موضوع كامن في المادة ويعلو عليها في نفس الوقت (إمانويل كانط).  وبلغة الجماليات الظاهراتية: العمل الفني ليس هو الموضوع الجمالي. الشجرة في اللوحة كصباغة وخطوط وقماش ليست شجرة. الفرق أن الشجرة في اللوحة تقدم على  القماش دفعة واحدة، وفي المسرح تقدم الشخصية كأفعال بالتزامن وبالتتابع (ليسنغ) ، أي في مدة والشخصية لا تكتمل في ذهن المتلقي إلا مع نهاية المسرحية، أي في مدة زمنية.

كنت ولا زلت أحرص على أن أقارب المسرح كتجربة جمالية، قوامها الإدراك الحسي، أي الذي ينبغي أن يقتنصه المتفرج بعينه وأذنه.

  • العمل على العناصر الأخرى للعرض:
  • من حيث السينوغرافيا: أفضل عادة أن تكون مرحلة القراءة مرحلة لتطوير التصاميم الأولوية مع السينوغراف. على ضوء العمل على الطاولة أو أثناء الارتجال انطلاقا من فكرة أو نص غير مسرحي. ومثلما تتحدد سياقات الإبداع لي وللممثلين، تتحدد للسينوغراف أيضا لكي يطور تصوره بشكل متناسق مع نحن بصدد فعله. لكن أحيانا لا تكون الأمور دائما هكذا. العادات المهنية والشروط الاقتصادية للإنتاج السائدة قد تفرض منطقا آخر.
  • فترة التموقعات: هذه الفترة بالنسبة لي إن لم يسبقها إعداد يصعب أن يكون فيها الإبداع ممكنا. هي مرحلة يتحول فيها الفعل إلى تنقل وتركيب لصور دالة. التنقلات على الخشبة هي أولا وقبل كل شيء ينبغي أن تكون لها دلالة سيميولوجية: يسبقها السؤال: لماذا أتنقل إلى هناك وليس هنا ولماذا بالضرورة بهذه الطريقة وليس تلك؟ ..هل لأنني قد أبتعد خوفا،  أو أقترب تهديا، أو تزلفا؟…الخ. التنقل على الخشبة يجب أن يحركه الفعل لا أن يكون مجرد تحرك تشكيلي.

الجانب التشكيلي والبصري طبعا مهم، لكنه ينبغي، في اعتقادي، أن يستند لدلالة، ليس لها منطق عقلاني مجرد. بل منطق محسوس من خلال طبيعة علاقات الشخصيات في المشهد.

من ناحية العمل مع السينوغراف، أفضل في هذه المرحلة، العمل بسينوغرافيا بديلة مرتجلة مما تيسر من قطع موجودة، بشكل يشبه ما أعده السينوغراف من تصاميم؛ لكي يتدرب الممثلون في وضع شبيه بسنوغرافيا متكاملة.

الهدف أن نربح جميعا والسينوغراف أيضا، فرصة لتصور العناصر السينوغرافية النهائية. أخطر ما يمكن أن يقع هو أن يتدرب الممثل بشكل وأن يجد سينوغرافيا في شكل آخر في نهاية التداريب. وقذ يقع أحيانا، ووقع لي أحيانا، أن تكون السينوغرافيا عندما تنجز، مخالفة لما هو متوقع. وهذا أسوأ ما قد يقع.

  • التداريب التقنية.

 مرحلة التداريب التقنية غاية في الأهمية، رغم صعوبة القيام بها كما يجب،بالنسبة لفرق أغلبها غير موطنة في مسارح مجهزة. ولذا جوانب الموسيقى والمؤترات السمعية يكون أيضا مقرونا بالنسبة لي بدلالات المسرحية.

الموسيقى غالبا ما ينبغي أن تكون بالنسبة لي مضادة  أو متماشية مع أحد العنصرين :أداء الممثل والسينوغرافيا- أداء كئيب، جو سينوغرافي كئيب ، موسيقى توحي بالكآبة لا جمالية فيها ولا دلالة. يجب أن يكون هناك عنصر من العناصر الثلاثة مضاد للأخريين. لأن دلالة الموسيقى كفن تجريدي مسموع تتغير لما تقترن مع ما يرى. مشهد مرح وموسيقى فرحة في جو سينوغرافي قاتم مثلا من الممكن أن  تحمل خطابا قد يكون كالآتي: رغم قتامة الوضع هناك تمسك بالحياة. خطاب لا يقال، بل يستشعر.

هذا شيء من طريقة عملي مهنيا. بالطبع كل هذا لا يعني أن تحضر أشياء أخرى وتفاصيل أخرى يفرضها كل عمل على حدة.

  • عل سبيل الختم

في مساري المهني كمخرج، ليست لدي قناعة بالأسلوب الواحد. كما لا أحبذ العمل وفق تيار محدد، كما لا حكم لدي على من يعتقد العكس. هناك دائما شيء ذاتي وشخصي في الإبداع قد يتغير. ومثلما هناك توابت تقنية ومعرفية، هناك متغيرات إبداعية، تتطلب قدرا من المغامرة ومسايرة ما يراه المبدع قابلا للتقاسم. وإذا كان هناك من شخص يستحق بالدرجة الأولى هذا التقاسم، فهو الجمهور.  ليس بمنطق الرضوخ لرغبته ولأفق انتظاره الذي قد يكون محدودا، ولكن أيضا من منطلق رغبة المبدع في أن يتقاسم معه متعة فكرية وجمالية ذاتية. ومن هنا يكون الرهان على الجمهور بالنسبة لي أمر حيوي ومحوري، بغض النظر عن أسلوب العرض، حتى ولو كان الجمهور محدودا، وحتى لو فشل لا ألوم الناس على أنهم لم يفهموا “عبقريتي”. 

ولذا في حياتي المهنية كمخرج ومكون زاوجت مابين:

  • العمل على المسرح العالمي بلهجة عامية مغربية في مسرحيات مثل قصة حديقة الحيوان لإدوارد ألبي، حلم ليلة صيف لوليم شكسبير، المستقبل في البيض ليوجين يونيسكو، رحلة النهار الطويلة خلال الليل ليوجين أونيل وغيرها وتغلبت فيها أن اللغة المنطوقة لا تشكل عائقا في تقريب الأعمال العالمي في الجمهور المغربي دو تغيير كبير في النص؛
  • المسرحيات الكوميدية الموجهة للجمهور الواسع، كالنشبة والهواوي قايد النسا لأحمد الطيب العلج، وضيف الغفلة لحسن هموش، عن طارتيف لموليير وغيرها.
  • مسرح موسيقي من خلال أعمال كالوريت تأليف أحمد الطيب العلج، موسيقى عبد العاطي أمنا وكورغرافيا عبد الله بنان. وهذا مجال مغر بالنسبة لي في إبداعات قادمة،
  • أعمال ألفتها أو اقتبستها كهنا طاح اللويز وكونطراد وغيرها…
  • تجارب مسرحية في مواقع تاريخية أو تجارب مع مؤسسات مسرحية أجنية مع منها مع، مسرح البيكولو بميلانو والمدرسة الملكية للمسرح بإسبانيا وغيرها من التجارب التي، وإن كان البعض منها ليس لغاية جماهيرية، فإن بعدها التجريبي والبيداغوجي مفيد.

المزاوجة، ما بين ما هو مهني وبدياغوجي، بحكم تدريسي للمسرح، منحني أيضا فرصة، أن يكون العمل الإبداعي في مجال المسرح جزء من واقعي اليومي، وتجربة أواصلها باستمرار في تفاعل خلاق مع تجارب مسرحية أخرى لزملاء، اشعر بالسرور أن أجد من بينهم طلبة قدماء. 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش