الفلسفة الجمالية في خوف صميم حسب الله السائل قراءة في عرض مسرحية  (خوف سائل) للمؤلف حيدر جمعة والمخرج صميم حسب الله يحيى/ انتاج دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل بقلم: د.عماد هادي الخفاجي

الفلسفة الجمالية في خوف صميم حسب الله السائل

قراءة في عرض مسرحية  (خوف سائل) للمؤلف حيدر جمعة والمخرج صميم حسب الله يحيى/ انتاج دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل

بقلم: د.عماد هادي الخفاجي

يسرد المتن الحكائي  لمسرحية خوف سائل، وقائع الخوف المعاد تدويره والمتسلل في عقول عائلة هي جزء من وطن تنتظر منه تحقيق وعود في إلغاء الخوف من حياتها ولكنه لا يستطيع ذلك، جراء دوران آلة الفزع الوطني التي جعلت الخوف يتخلل ويسكن فيها وفي تكرار دوراني ممل وقاتل، والنتيجة ان تحيا بلا امن وبلا سعادة وان يبقى كل فرد منها في هستيريا الصراعات الوهمية، وهوس القتل، في عالم تم محو هويته، وإزاحته عن الذاكرة، باستزراع بنى خلافية، وأوهام أيديولوجية منحطة  لمتخيَّل تاريخي مريض، اتاحت للمخرج بوساطتها توريط المشاهد من خلال دلالاتها السيميائية وما تبثه من مرموزات تناقض البنى المعرفية المتشكلة والموروثة والتي عملت على خلخلة الثوابت المسرحية التقليدية، وبهذا فان (صميم حسب الله) عمد على توريط المشاهد المسرحي بموقف كابوسي يحطم شبكة قراءاته ويلاشي افق توقعاته وذلك بتوريطه باسوء كوابيس الواقع المعيش وهو الاختطاف، الانتهاك، الاغتصاب، التعذيب ،…….. الخ ومن ثم اجباره على مشاهدة كوابيسه وعيش فرض تلك الكوابيس بديلا عن واقعه الموهوم والمخدر باللامبالاة والانانية، لذلك جعل فضاء منتدى المسرح بعرض مسرحية (خوف سائل) بؤرة او محور للتوتر يدور حولها الحدث من خلال السيمترية العالية بتشكيل الفضاء الحركي والبصري المُحكم من خلال الحساب الدقيق للامتداد الزمني والمكاني للحركة والاضاءة ومن خلال الاستخدام الدقيق والمقنن للمؤثرات الصوتية وبالذات تلك الفيزيقية والمحدودية الدقيقة في استخدام اللون بقصد الحفاظ على فضاء التشكيل السينوغرافي، فكان السينوغراف (علي محمود السوداني) بهذا العرض موفق وانيق جدا لأنه ابتعد عن عوامل البذخ والزخرفة التي دائما ما كانت تُثقل العين لينتج فضاءا سلبيا جاذبا للتداعي ومحاورا للعرض، ولكأن هدف المخرج كان واضحاً ودقيقاً ومحدداً بالضرب المباشر والكثيف الدقيق على وترٍ بعينهِ أفرزته الثيمات الُمرحلة من مدونة النص إلى خشبة العرض وهو الموقف الأخلاقي من هذه الأزمة  مضافا الى ذلك تحديد الاثار النفسية والعقلية والجسدية التي تعقب عملية التلقي للمشاهد، اذن فهو بهذا يركز على ان المسرح ليس مكانا للتسلية وتمضية الوقت فقط بل هو عملية تطهير مبنية على فلسفة اتخذها مشروعاً له، بتلك الفلسفة عزز (صميم حسب الله) ذلك الفرض من خلال  ممثليه واستجاباتهم للتعذيب وكأنهم ناقلون لآلام وعذابات من لم يظهروا بالمشهد عدا صوت الآهات وصرخات الخوف والالم التي تظهر حينا وتكتم حينا اخر بينما فعل الجريمة يمتد أكثر واكثر، وهو بهذا كسر ثقافة المشاهدة البرجوازية القائمة على المراقبة والتلصص لما يحدث على الخشبة ، فما يحدث على الخشبة عنده هو ليس غير استعادة وتداعي حسي لكوابيس حضور المتلقين. وهو ما تم التوصل اليه بضرب النظام العقلي المؤسس للعرض المسرحي التقليدي الذي يمتع ويسلي الجمهور التقليدي، وهو النص بهندسة الحبك فيه وبناء الشخصيات وتنامي الحدث والنسب الجمالية في بناء وحدات الصراع الدرامي فلا شيء من هذا موجود بما يشغل ذهن المتلقي بالمقارنة مع تجارب المشاهدة السابقة، فالمتلقي هنا خامة للعرض ذاته وموضوع العرض ذاته بل ان جسد المتلقي عنده هو محور الفرجة وتلقيها بنفس الوقت وهذا ما اكده من خلال استخدامه لفضاءات مسرحية تجريبية مثل فضاء المنتدى والذي عمل به (صميم حسب الله) على خلق نوع من الاتحاد والالتحام بين الممثل والمتفرج وهدم كل الحدود فوجود المتلقي في الحدث وتوريطه بشكل قريب يجعله هو الاخر ممثلا بامتياز وهذا ما يسهل عملية الاتصال والاندماج بين المرسل والمتلقي لإشراكه وتوريطه بشكل مباشر، اما الحدث عند صميم حسب الله ليس غير خلفية شبحية تتلاشى مع تقدم العرض وامتلاء فضاءه بسيل التداعي الحسي لكوابيس المتفرجين المتورطين. اذن فبعد هذا يمكن القول ان ما شاهدناه في عرض مسرحية خوف سائل رغم القساوة الا انها تنم عن جهد استقرائي مُفلسف تم بواسطة مخرج صاحب ارادة ابداعية خلاقة عمل على اعطاء الشكل حقه على المسرح فانتقل بالأشياء من داخلها وليس من خارجها الى فضاء التصور الخيالي والذي احال الواقع المعيش الى واقع فني بسعة الواقع واوسع بما يناسب مشروعه وفلسفته بجميع عروضه متجاوزا المفهوم التقليدي للنص والعرض المسرحي.

وبذلك نجد إن معالجات المخرج الفنية في بناء رؤيته الإخراجية والتي مثلت اتفاقاً مع رؤيته الأدبية وفلسفة مشروعه التي اعلن عنها بجميع عروضه والتي تقترب من رؤيا (انتونان ارتو) جاءت بتوريط الذات العراقية (المشاهد) وتقييده بسلاسل وتركه يتعذب بنار العرض وتعريضه لصدمة اخلاقية مضافة ووضعهِ موضع المراجعة والحكم والتقويم النقدي مرة اخرى لمسار العُرف والتشريع القيمي الأخلاقي ولكن هنا  (صميم حسب الله) ربما نسى او تناسى مشكلة كبيرة وهي ان الذات العراقية تم استباحتها لفترة طويلة جدا دامت اكثر من خمسة عقود وهذا ولد عند المتلقي نوعا من الصدمة والذهول والانفعال وتغير بالسلوك وهذا مؤشر يؤشر الإصابة بالاكتئاب والإحباط الدائم له وان أي مواجهة له ان كانت ظاهرة ام باطنة  فهي تعمل على التوسع في ذم الذات المستباحة مرة اخرى، وقد يكون اخر هذه الاستباحة حتى وان كانت ايجابية الهياج النفسي للخلاص منها لأنها تذكره بماضي سحيق ومريض دائما ما اراد ان ينساه او يتخلص منه، للدخول الى الحياة ومواجهة المُتع والمسرات التي تحييه وتعيده الى خط الاتزان الانساني، وهذه ربما تحسب على المخرج (صميم حسب الله) لان شغله الشاغل كان هو التجسيد السيمتري لخطاب الصدمة الاخلاقية الموجهة الى مجتمع مشبع بالآهات، وهذا لا يعني بان عرض مسرحية (خوف سائل) لا توجد بها متعة جمالية بل العكس، لكل منجز مسرحي ابداعي حقيقي متعة،  لان المسرح هو فن المتعة والدهشة والخلق، والمتعة هي جوهر العملية الابداعية، والعرض المسرحي في حقيقته هو تجربة سيكولوجية وجمالية يمر بها المتلقي، وقد تكون هذه التجربة سارة حالمة او العكس فقد تكون  مقلقة ومثيرة للخوف والتوتر بل حتى مرعبة وهذا الامر قريب بدرجة كبيرة من مفهوم التطهير لدى (ارسطو) والذي تمنيت  من خلاله على المخرج (صميم حسب الله) ان يملك القدرة العالية على السيطرة ومن ثم الاختزال وبشكل كبير على الرعب او الخوف وعلى ما يرتبط به من مشاعر غير سارة خاصة ما يتعلق منها بالصدمات التي تنتمي الى ماضينا الخاص حرصاً منه على المتلقي الذي عاش في واقع مرير و صدمات متواصلة في حياته. 

اما على مستوى الوحدة الأدائية للممثلين في عرض خوف سائل، نجد التناغم الديناميكي العالي ما بين معطى الحي وهو الممثل والمركومات الميتة وهي وحدات التركيب والانشاء السينوغرافي، بما يخلق وحدة جدل وقلق وخوف متصاعد من بداية العرض الى نهايته، كل هذا يُكسب الأداء فائقية ومطواعية عالية مع الاسترخاء العلمي الدقيق للجسد، يقوده ممثل متمكن من ادواته هو (يحيى ابراهيم) والذي يمكن تسميته بهذا العرض الماكنة المؤتمتة لصناعة الخوف بهذا الملجأ الذي احاط به عائلته، وممثلون يتصاعدون معا في الأداء إلى حدود التجلي وما وراء تقليدية البوح والتداعي التعبيري(هشام،رضاب،بهاء،احمد)، فكانت أجسادهم وأصواتهم ماكنة تعبيرية غذت المتلقي واقع الخوف ليكون اكثر خوفا واكثر بشاعة، هكذا اقتنص صميم حسب الله هذه الذوات ليورطها في مشهدية صادمة لأسوء الكوابيس التي من الممكن ان تعيش وتتكاثر تحت ظل غياب السلام والامن وانتشار قانون الغاب.

وختاما لكل مخرج مجتهد مشروع وهذا هو مشروع (صميم حسب الله يحيى) ويجب علينا جميعا احترامه واحترام جميع من له مشروع حقيقي عضد له نظريا وتطبيقيا على خشبة المسرح ..

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش