العرض المسرحي “بحر ورمال” بين العبث والتعبيرية – د. علاء قوقة #مهرجان_المسرح_العربي12

     مسرحية “بحر ورمال” تأليف، ياسر قبيلات وإخراج، عبد السلام قبيلات لفرقة مسرح الشمس ضمن العروض المشاركة في المسار الثانى، مسار المسابقة لمهرجان الهيئة العربية للمسرح الدورة ١٢ الأردن ٢٠١٩.

في جو غائم يكتنفه الغموض يبدأ العرض حيث نرى بقعتي إضاءة يقبع في إحداها قبطان سفينة يرتدي ملابس رثة عفا عليها الزمن، يمسك بسنارة صيد، متقدم في السن بالقدر الذي يجعل حركته بطيئة وكلماته تخرج من فمه بمعاناة وتعب، يجلس على كرسي ضخم نسبيًا فيوحي ذلك بأنه قائد السفينة.

في البؤرة الأخرى يجلس مساعد القبطان الذي يرتدي ملابس تشبه تلك التي يرتديها القراصنة. فترة صمت ورتابة مقصودة وثبات لوضعها لمدة تبعث على الملل المقصود، ثم إظلام.

ترتفع الإضاءة فنشاهد منظرًا يدل على سفينة قديمة متهالكة ينتصب في وسطها صاري، وعلى سطحها أرجوحة وكرسي  القبطان وعلى الجانبين سور سطح السفينة وتضاريس معينة داخل المنظر المكون من ثلاثة مستويات.

تدخل امرأة عجوز تحمل بقجة كبيرة أو تجرجرها كلما دعت الضرورة، وتتركها في ركن ما من السفينة.

يدخل القبطان والمساعد ويدور حوار بينهما  (يتكرر كثيرًا) عن الدلو الذي يمتلئ بالرمل بدلًا من الماء عندما يلقى به في البحر، هذا الحوار يبدو أن المرأة تحفظه عن ظهر قلب؛ فهي تنطقه قبلهم.

تحتضن المرأة العجوز الأرجوحة ثم تجلس عليها وكأنما تتذكر أيامًا خوالي في المكان نفسه، وفي اللحظة يظهر شاب في مقتبل العمر (الحبيب القديم) ومعه فتاة (هي المرأة العجوز وهي صغيرة) تتذكر عندما كانا يلعبان على الأرجوحة، وعندما أغمى عليه فاستعانت بالدلو وأهالت الماء على رأسه فأفاق من غيبوبته.

يحاول المساعد مغازلة الفتاة ولكنه يفشل، كما يحاول إشعال الغليون ولكنه يفشل أيضًا، وكذلك يحاول أخذ السنارة من القبطان في صراع هو الأول بعد ٢٢ دقيقة، ولكنه يفشل كذلك في انتزاعها من القبطان (والسنارة هنا رمز للسلطة كما الصولجان)، ولكن المساعد يفشل أيضًا في الانتصار على القبطان وفي أخذ السنارة.

الصورة المرئية من الصراع يكون الحوار الدائر بينهما هو نفسه الحوار الذي في بداية المسرحية حول دلو لا يمتلئ بالماء ولكن بالرمل. ثم يبدآن في صراع جديد بالأيدي وبالحوار السابق ذكره.

لوحة متكررة للشاب يرى  شخصًا يمشي على الماء، يذهب المساعد ليرى فلا يجد شيئًا فيعود أدراجه (تصور عبثي للحظة)

تصدر المرأة العجوز العديد من العبارات ذات المعنى المباشر وكأنها صرخة الروح عند التعبيريين؛ تصرخ بكلمات مثل (ربما المخرج هنا أو هناك  – وربما لا مخرج – أين الطريق) وهي كلمات ذات دلالات رمزية مباشرة. تكرار لأفعال تم تكرارها من قبل مثل رؤية الشخص الذي يمشي على الماء ومثل محاولة إشعال الغليون.

يعطي كل من الشاب والفتاة درسا في ماهية الزمن (الزمن يقاس حين تفعل شيئا وعكس ذلك يصبح حملًا مقيتًا)

فشل في الحب بين الشاب والفتاة وسط أسئلة من قبيل (متى ترسو السفينة؟)

يقرر الشاب أن يقفز من السفينة مقلدًا الشخص المجهول الذي يمشي على الماء ولكن المساعد يمنعه ويقيده بالصاري ممهدًا لاغتصاب الفتاة؛ يغتصبها بمرأي من الشاب في مشهد ايمائي من أجمل المشاهد؛ مستخدمًا شكل الصاري والأشرعة ووقوع الشاب على الأرض (وهذا أول فعل ينجح فيه المساعد؛ ثم تتوالى النجاحات بالنسبة له؛ حيث يبدأ صراعًا جديدًا مع القبطان وينتصر عليه ويأخذ السنارة منه ويحل محله على الكرسي ويأخذ قبعته (وكل هذه رموز)

يتمكن الشاب من تحرير نفسه ويقفز من السفينة مقلدًا الشخص الذي يمشي على الماء.

تكرار لحوار البداية مع تبديل الأدوار بين المساعد والقبطان في إلماحة إلى عبثية الزمن؛ حيث لا ترسو السفينة رغم تغير الأوضاع والمواقف.

شذرات حوارية بين جميع الشخصيات الموجودة من كلمات وردت من قبل في سياق العرض دون الالتفات لأهمية (من يقول ماذا)

اكتشاف أن السفينة لم تبحر من الأساس وكأن دلوًا يمتلئ بالرمل لم يكن يدلهم على ذلك وكأنهم شخصيات لا تعي الواقع ولا تدرك معطياته

المساعد يرفص القبطان السابق ويلقى عليه بقماشة بيضاء وكأنها كفنه ويشعل غليونه متسيدًا الموقف. ثم اظلام.

تعود بؤرة إضاءة بداخلها المرأة العجوز تجري مهرولة في مكانها وهي تردد عبارات وتساؤلات وجودية (أين المرفأ – أين البوصلة – أي سماء فوقي – وعلى أي فراش أنام – سنين امتلأت بالعقد كيف أفكها) ثم تسقط على الأرض ومن ثم إظلام نهاية العرض.

من الممكن أن يصنف هذا العرض بأنه ينتمي الي ما بعد الحداثة، حيث يجمع بين العبث والتعبيرية في شكل قريب من الواقعية خاصة في المنظر المسرحي بتفاصيله المختلفة، والعبث فيتمثل في الحوارات المتكررة بلا هدف، كما تتمثل في عدم جدوى الزمن وفي عدم وجود مرفأ ولا مرسى ولا بوصلة ،وفي الصراع الدائري حيث لا شئ يحدث وتفقد الكلمات معناها.

اما الملامح التعبيرية فتتمثل في صرخات الشخصيات الباحث عن الخلاص، وفي الكلمات المعبرة عن ذلك (أين المرفأ- أين المخرج – أين البوصلة..) كما يتمثل في استخدام الإضاءة الملونة والبؤر الضوئية التى يعزل بها الشخصيات للتعبير عن مأساتهم.

لم يلتزم المخرج بما كتبه المؤلف بل أضاف العديد من الأفكار والمعاني وبعض العبارات الفلسفية، كما لم يلتزم بالتتابع المطروح في النص وفي الحوار الخاص بكل شخصية بل أعاد تفكيك النص وقام بتركيبه مرة أخرى بشكل مختلف.

تعددت الرموز بشكل لافت بين ثنايا العرض؛ فالمرفأ و السنارة والسفينة والقبعة والدلو والمرسى.. كل هذه رموز يفسرها المتفرج بنفسه وعلى هواه. ويمثل الزمن قيمة جوهرية لها تجليات متعددة.

فهناك تداخل في الأزمنة بين زمن فات من سنين طويلة وزمن متخيل وذكرى قديمة وطموحات مستقبلية.. وهكذا

كما للزمن فلسفة طرحها في عبارة جلية (الزمن يقاس حين تفعل شيئا – فإن لم تفعل شيئًا فيصبح مملًا مقيتًا)

الملل من القيم الجمالية التي لعب عليها المخرج وعمد إلى نقلها للجمهور بشكل حقيقي حتى يشعر بقيمة الزمن المتسرب بلا جدوى، ولكن هناك فرق بين نقل الملل بشكل فني وبين تسربه الحقيقي للمتفرج فيعرض عن العرض برمته، وفي بعض الأوقات شعرت بالملل بشكل حقيقي من بطء الأداء، سواء على مستوى الحركة أو على مستوى التكرارات المتعددة للعبارات مرة بعد مرة رغم محاولات المخرج عمل تنويعات حركية ووجدانية لكل لحظة بشكل مختلف

وما يشعرنا بالاختلاف بين الملل والاستمتاع ما توضح في المشاهد عالية المستوى جماليًا ؛مثل مشهدي اغتصاب الفتاة، الذى تم تقديمه بشكل فني رائع حين استخدم الإيحاء وألوان الإضاءة والشراع والصارى وأجساد الممثلين في لوحة فنية بديعة، وكذلك مشهد الدلو المملوء بالماء وتحول للرمل في النهاية مع وجود إضاءة من داخله.

ولعبت الموسيقى دورًا مهمًا وكبيرًا في التعبير عن الحالات والمواقف، وخاصة في اللحظات التي يغيب فيها الحوار، ولكن كانت تعلو على صوت الممثلين في بعض الأحيان.

ظهرت التباسات في بعض المشاهد؛ منها على سبيل المثال أن دخول القبطان والمساعد في المشهد الثانى من المكان نفسه الذي رمي الشاب منه نفسه في الماء، بينما كان الأفضل أن يكون المكان الذي يرمي نفسه منه متفردًا.  حتى أول دخول للشاب نفسه والفتاة من المكان نفسه مما أضعف لحظة إلقائه بنفسه في الماء دراميا

نجح المخرج في عمل خطة إضاءة معبرة وواعية، بل ومبهرة في بعض الأحيان؛ قدم فيها لوحات فنية متنوعة لجهة الألوان والبؤر وزوايا الإسقاط وخاصة ا الجانبي والرأسي، وصنع الدهشة في لوحة الدلو السابق ذكرها. كما نجح في اختيار وقيادة الممثلين الرائعين وكان من الممكن أن يكون زمن العرض أقل لو تم اختزال بعض اللحظات والاكتفاء بوصول الرسالة دون التزيد في إحداث الملل عند المتفرجين.

العرض في مجمله جيد ومنضبط فيه العديد من أسباب المتعة البصرية والحسية والفكرية.

د. علاء قوقة #مهرجان_المسرح_العربي12

*ورقة نقدية / تعقيب عن العرض ضمن فعاليات الدورة 12 لمهرجان المسرح العربي بالاردن 2020

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر