الصبخة .. انتاج الذاكرة الصورية مشهدياً – د. جبار جودي العُبُودي #مهرجان_المسرح_العربي_12

     يفتح الستار بمسقط ضوء عمودي وقضبان وحارس لهذه القضبان متـــشح بالسواد وهو يؤدي رقصة السجّان على نغمات اغنية يا ونة ونيتها لصالح الحريبي .. ثم تكشف لنا بقع الضوء المستطيلة أن هنالك قضبان اخرى على اليسار وعلى اليمين وهذه القضبان يقف خلفها الممثلون وهم يتناوبون أداء مقاطع الشعر المعاتبة للنفس البشرية .. السواد يلف المكان بمجمله مع المؤثرات الصوتية الايقاعية الحزينة وصوت الناي ..
كل هذا الأستهلال ينقلنا لبدء العرض عن طريق سلالم بدكات عالية يقف عليها مريم في اليمين وفهد في اليسار ، هذين الحبيبين اللذين يتبادلان كلمات الغزل فيما بينهما وبحركة ذكية تنظم هذه السلالم لبعضها البعض لتكون عبارة عن شرفة تذكرنا بشرفة جولييت الشهيرة التي كان يتسلقها روميو في رائعة شكسبير .. ينتقل بنا العرض الى مشهد آخر .. إذ أن في العرض أزمان متداخلة بين مرحلة شباب فهد ومريم وعلاقة الحب التي تربط في مابينهما وبين مرحلة عمرية اخرى تمثلت في العلاقة الزوجية والاسرية التي ربطت هذين الأثنين .. ومنذ بدء المشهد يتضح لنا مقدار التغير الحاصل في شخصية فهد ونظرته الدونية للبنت التي أنجبتها زوجته وتفريقها بالنظر عن المولود الثاني الذي انجبته ايضا (اذ لدينا توأم ولد وبنت، منصور ونورة ) .. يتكشف لنا منذ البداية تأزم فهد تجاه مولودته الأنثى وفرحه بولده البكر منصور وهذا ما سنلمسه في قادم احداث العرض … هنالك تناقض واضح بين شخصية فهد العاشق المحب الولهان قبل الزواج وشخصية فهد أبو منصور بعد الزواج الذي بدأ ينحرف بسلوكه الذي يكرس الذكورية والنظرة الدونية للمرأة حتى لو كانت هذه المرأه إبنته أو زوجته .

يقودنا هذا السلوك الذي تفاجئت به مريم المحبة والزوجة المطيعة الى محاججة فهد أبا منصور .. لم تسكت أمام تصرفات زوجها بل حاولت تذكيره بمادار بينهما من حب وعشق وهو أمر طبيعي تجاه ما طرأ على تفكير زوجها من ظلامية قادتهم الى ما آل اليه حالهم من تشنجات وغضب وسواد احاط حياتهم بشكل كثيف .. نعم انه الصراع بين النور والظلام ، نور المنطق الطبيعي للحياة وظلام الافكار الرجعية المتخلفة التي تصور المرأة عورة في كلّها .. مما يؤثر ذالك بشكل جلي وواضح على السلوك البشري السوي للولد منصور وللبنت المسكينة نورة .. إذ أن التشدد لا ينتج الاّ سلباً وهذا ماستكشفه مجريات العرض .. الولد منصور نراه مأخوذاً بوحدته المؤطرة من خلال بقعة ضوء مربعة يخترقها بين الحين والأخر طيفٌ راقصٌ لفتاة مجهولة .. وهكذا يظل الأب فهد مستمراً في غيه وطغيانه الأعمى ويطالب ولده الهائم بالانتباه لنساء البيت والتضييق عليهن .. وما تميز به العرض هو الأنتقالات المكانية والاستعارات الزمانية وتداخل المراحل التي قادت هذه الحيوات الإنسانية للإصطفاف مع بعضها البعض فيصراع مأزوم بين الشر والخير ، بين الجمال والقبح ، بين التخلف والانفتاح ، بين جيل وآخر ، وتداخل هذه الحيوات في مسيرة مسرحية متدفقة إتصفت بالسهل الممتنع البسيط والعميق في الوقت نفسه .. وربما تشابه هذه الصور المتتالية حلم يقظة سريع لتمرير شريط الذاكرة البشرية المسينمة – أذ جاز لي التعبير – ، لقد حرص المخرج أن يكون أمامنا كمتفرجين مونتاجاً سينمائياً لحدوتة إجتماعية عابرة ربما .. لكنه منحها أطاراً فنياً محكماً ( مفعماً بالظلام والظلال !!) وبالقدرة على التجسيد ألفني التعبيري التكاملي بين عناصر العرض ألتي حركتها أرواح الممثلين وفهمهم الكامل لما يقومون به بوعي عالٍ وأداءٍ محبوك يتنقل بنا كيفما يشاء المخرج صاحب الرؤية المسرحية المتكاملة والتي أتصفت بالتنوع وبضبط عالٍ للأيقاع البصري والسمعي والحركي ..

ويصل العرض الى ذروته بالمواجهة الحادة بين مريم الحبيبة والزوجة وبين فهد الرجل الذي طرأ على عقله مفاهيم ميتافيزيقية أكثر مما هي عقلانية في التطرف الحاد الذي يحس معه بالفشل في المواصلة . ها هو منصور أشبه بمجنون يلفه الظلام في هيام خيالاته ووحدته ومفاهيم أبيه ألمتطرفة .. تحاول الأم تنبيه الأب لحالة ولدها لكن دون جدوى لأن أباه غرس في دماغه أنه المقدم على نساء بيته بمفاهيم ديماغوجية عوجاء وعرجاء جعلت حياته ترشح بالتهيؤات والخيالات التي لا يراها غيره من خلال الطيف النسائي الذي يرافق ظهوراته دوماً ..

ما تميزت به مسرحية الصبخة هي المعالجة الاخراجية الغير متكلفة لعرض ونقل الأفكار والذكريات من الذاكرة المخية البشرية الى خشبة المسرح بكل يسر وسهولة وتداخل مشهدي متدفق برع به الممثلون في الانتقال من حالة أدائية الى أخرى ، كذلك ادامة الزخم السينوغرافي للضوء وقطع الديكور المشهدية المعبرة من أنتقالة الى أخرى على مستويات الزمان والمكان عن طريق تعويم الفضاء بمجمله بلا أية محددات تذكر ، وقد أسهمت الموسيقى والمؤثرات الصوتية في تعميق واثراء مشاهد العرض والاحداث وتنويعاتها وديمومة زخمها وقوة تأثيرها ..

وبمشهد تعبيري جميل بين البنت نورة وأخيها منصور بغياب الاب والام عن الدار .. تتحول البراءة الكامنة في نفسيهما الى مالايحمد عقباه من غياب لهذه البراءة والتحول الى النقطة التي لا عودة عنها الا بالندم ، ويرتبط كل ذلك بالمفاهيم الخاطئة للتربية وظلام الفكر والتعصب الجاهل والأحمق .. ويقودنا ذلك الى ماضٍ أرتبط بحياة فهد واخته التي ارتكب معها مثلما قام أبنه بأبنته وأضطر الى قتلها ودفنها بعد الاتفاق مع الجد .. كل ذلك خرج الى سطح ذاكرة فهد .. وكيف أسهم هذا الأمر بتحوله من إنسان سوي الى إنسان مشبع بالكراهية والحقد والنذالة والتعصب الأعمى .
وترتبط هذه الاحداث الحياتية بسيرورة المجتمعات العربية وطريقة أدلجتها ونشأتها ومحاولات التشويش التي طرأت على هذه المجتمعات بفعل ضغط الإسلام السياسي المؤدلج والذي يبتعد عن الدين الحقيقي بشكل واسع وكبير ..

نجح المخرج وكادره نجاحاً متميزاً في قص حدوته أجتماعية تصلح لكل زمان ومكان ومجتمع عربي يعاني من ربطة الضغط الراديكالي المشوش إذ أثمرت الجهود المشتركة لكادر هذا العرض بأنجاز مسرحي متقن لجميع عناصره المرئية والمسموعة اذ نقلنا من في الصبخة الى بهجة جمالية متكاملة .

تحليل عناصر العرض :

1_ الفضاء المسرحي :
اتسم الفضاء السرحي في عرض مسرحية الصبخة بالشكل التقليدي للعلبة الايطالية وبالإمكان طبعاً استخدام فضاءات أخرى مختلفة لو شاء المخرج ذلك لوجود تنوع مشهدي يتيج له التصرف بوحدة الفضاء المسرحي بحرية كاملة ، وقد أحاط المخرج وفريق ألعمل ومصمم السينوغرافيا فضاء عرضهم باللون الاسود من خلال تكثيف وجود الستائر السوداء من كل الجهات ليأتي ذلك منساقاً مع الطبيعة المنشودة لمجريات هذا العرض وما تنتجه من جماليات بصرية إعتمدت تلاشي حدود هذا الفضاء وعدم وجود نهايات مرئية لها .

2- المنظر المسرحي :
إرتبط المنظر المسرحي بمجمل الفضاء المعماري المسرحي لمكان هذا العرض إذ أصبح الفضاء والمنظر المسرحي متداخلاً بشكل متكامل حيث أن المصمم والمخرج عمد الى عدم بناء ديكور ثابت أو منظر متكامل واستخدم بفطنة وذكاء القطع الديكورية المتحركة في الفضاء المفتوح ليثري بها منظر العرض الذي ارتبط تصميمه بين الفضاء والقطع المتحركة وحركة الإضاءه ومحدداتها لتنتج جماليات بصرية عززت انتاج المعنى وسهلت الانتقالات المقصودة بين الزمان والمكان وتداخل ذلك مشهدياً خلال مجريات العرض .
كما عمد المصمم والمخرج الى استخدام الخطوط المستقيمة والاشكال الحادة لاثراء حالة الصراع الفكري والتعبير عن أنساق العرض الجمالية كذلك تباين المستويات الأفقيه والعمودية في شكل المشاهد إذ عمد المخرج الى أستخدام السلالم والمستويات المرتفعه في مشاهد الحب والغرام والغزل وكأنه يرتفع عن الواقع الفعلي الأرضي الى سماوات أخرى تولد جمالاً غير منتهي .

3- الإضاءه :
أمتاز عرض مسرحية الصبخة بتنويعات الضوء التي ساعدت في أستثمار كامل مساحه المسرح وبأشكال متعددة ومحددات ضرورية لإنتاج المعنى فقد تنوعت أشكال الإضاءة وتركيزاتها التي شابهت الخطوط المستقيمة للمنظر ببقع ضوئية محددة كمستطيلات أو مربعات ولم نشاهد أية بؤرة ضوء دائرية طيلة العرض ويأتي هذا التكامل بين المنظر وشكل الضوء ليعبّر عن فهم ووعي كاملين لدى فريق العمل في التكامل الجمالي الذي تم إنشاؤه بين هذه العناصر الفاعلة إضافة الى ابتكار الاضاءة المحمولة في كف اليد لإبراز الحالة الذهنية الخاصة بالولد منصور وليشذ المنظر الضوئي عن الواقع المتعارف عليه في هذه الجزئية .
لقد كان للإضاءة دوراً هاماً وفاعلاً في العرض لأن مجمل التفسيرات والتعليمات الاخراجية لفريق العمل اعتمدت على تنوع مصادر وبقع الضوء في خلق النقلات الزمانية والمكانية بيسر وسلاسة طيلة مدة العرض .

4- الازياء والماكياج والملحقات المسرحية :
تكاد تكون الأزياء موحدة في هذا العرض بلونها الاسود الذي عزز من القيم الجمالية المتوخاة لفهم المعنى المنشود لإضفاء دور كبير في التصعيد العاطفي لهذه الفاجعة الاجتماعية ولتأكيد عنوان العرض (الصبخة) والذي كان معناه حاضراً جداً من خلال شكل الأزياء ولونها ، أما الماكياج فلم يكن واضح المعالم أو أن لديه دوراً كبيراً في هذا العرض كذلك الملحقات المسرحية كانت شبه معدومة ، لكن إذا عملنا مقارنة بسيطة في مكان مشترك مابين الديكور والملحقات المسرحية لأن هنالك دوراً كبيراً ومشتركاً في شكل الملحقات (الاكسسوارات) المرتبطة بالديكور وهذا ما شاهدناه في هذا العرض إو أن هنالك اشتراكاً كاملاً بين الملحقات والقطع المتحركة لعناصر الديكور .

5- الموسيقى والمؤثرات الصوتية :
ترتبط الموسيقى إرتباطاً حسياً وتعبيرياً مباشراً بالأفعال الحيوية لأداء الممثل فوق خشبة المسرح ، فهي غالباً ماتعبّر بصدق عن المشاعر والأحاسيس المختلفة وبذلك يسير المرئي والمسموع جنباً الى جنب لإبراز المعاني والثيمات والأفكار، فالموسيقى لها تأثيرها الروحي النابع من قوة الخيال الذي تتحرك فيه مفرداتها وهذا ماوصلنا من عرض الصبخة اذ تداخلت الموسيقى ومؤثراتها بشكل حيوي وفاعل طيلة مدة العرض وانتقلت بنا من مشهد ألى آخر ومن زمن الى زمن مختلف إذ كانت الموسيقى حاضرة بقوة في ديمومة وثبات مشاهد العرض المتنوعة وادامة الزخم العاطفي لها .

6- الممثل :
بدءاً لايمكن مقارنة الجسد الانساني على المسرح ، كعنصر مرئي ، مع باقي العناصر التي تشكل صورة العرض المسرحي ، وذلك لأن الممثل هو الذي يمنحها الحركة ولولاه فأن كل العناصر الفنية الإخرى على خشبة المسرح ، المرئيه منها و المسموعة ، تبقى جامدة لاحراك فيها وهو الذي يعيد صياغة تشكيلها بوجوده ، كونه العنصر الحي الوحيد بين الاشكال الساكنة وهذا ما وجدناه في عرض الصبخة إذ كان الأداء التمثيلي مقنعاً بشكل كبير وأن هنالك تماهياً مميزاً بين الممثلين في فرز حالاتهم الأدائية وتكوين تدفق مستمر لحيوية الحضور في أداء أداورهم المرسومة بدقة وفي تنقلاتهم الزمانية والمكانية في الحالات الدرامية التي زخر بها العرض ..

أخيراً يمكن القول أن المخرج وفريق عمله نجحوا في تطبيق كامل لنظرية أدولف آبيا في المسرح في الربط بين الممثل المتحرك والارضية الافقية والمنظر العمودي وتنويعات الضوء لإنتاج عرض مسرحي متكامل ومتناغم في جميع عناصره الفنية .

د. جبار جودي العبودي – العراق

(ورقة نقدية / تعقيب عن العرض ضمن فعاليات الدورة 12 لمهرجان المسرح العربي بالاردن 2020)

* مسرحية (الصبخة)
تأليف وأخراج : د. عبدالله العابر
تقديم : فرقة مسرح الخليج العربي (الكويت)

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر