السحر والسينما ودهشة الحواس / عمار المأمون

 

 

 

 

مسرحية فرنسية تستعيد حكايات رواد ألعاب الخفة وصناع السينما لاستعادة الدهشة التي أصابت الجمهور في أول مرة شاهد فيها “صورة متحركة”.

اشتهر الفرنسي أليكسي ميشاليك عام 2001 كممثل في دور روميو، ضمن إخراج معاصر لمسرحيّة شيكسبير الشهيرة “روميو وجولييت” بتوقيع إيرينا بروك، ابنة المخرج البريطاني بيتر بروك، وتتالت بعدها أدواره في السينما والمسرح، ليقتحم لاحقا عالم الكتابة والإخراج ليشعّ نجمه إثر مسرحيتين من كتابته وتأليفه وهما “حاملو التاريخ” و”حلقة السحرة” اللاتي رشحتا عام 2014 لجائزة موليير لأفضل عرض وأفضل كاتب فرنسي وأفضل مخرج.

تعود هذا العام مسرحيّة “حلقة السحرة” إلى خشبة مسرح النهضة في العاصمة الفرنسيّة باريس من إخراج ميشاليك نفسه، لنتعرف فيها على حكاية الساحر الشهير جان يوجين روبيرت هودين (1805-1871) والسينمائي وصانع الخدع البصريّة جورج ميليس (1861-1938)، لنرى أنفسنا أمام رحلة في الزمن، أبطالها الرائدان الفرنسيان اللذان جعلا الدهشة والرعب وسيلة لأسِر الجمهور ومخاطبة مخيّلته، إذ حوّلا صالة المسرح إلى فضاء يتداخل فيه الواقعي مع المتخيل، ممارسين “فنون” خداع الحواس لمخاطبة ذاك الماورائي الذي يُمتعنا، وفي ذات الوقت يهدد شكل العالم كما نعرفه.

يبدأ العرض مع صانع ساعات يلعب دور الراوي الذي يتحدث عن الوقت وإدراكنا له، ثم كيفية التلاعب بهذا الإدراك والأغراض من حولنا، ليخفي أمامنا وشاحا أحمر كان بيده، ينتقل بعدها للحديث عن تاريخ السحر وعلاقته مع الآلة، كأول لعبة شطرنج ميكانيكية قدمت في روسيا عام 1776 لنصل إلى ميلاد كلّ من هودين ابن صانع الساعات ثم ميلاد ميليس ابن صانع الأحذية، ثم ميلاد “ديسمبر”، اللصّ الذي يسرق المحافظ في المترو الباريسي، والذي قام عام 1984 بسرقة حقيبة صاحبتها فتاة جميلة أسرَته، وأراد التعرف عليها وإعادة حقيبتها لها.

ننتقل بعد مقدمة صانع الساعات إلى مقهى باريسي، يَبثُ على شاشة تلفاز مباراة كرة قدم بين يوغوسلافيا وفرنسا، اللذين يتنافسان على كأس أبطال أوروبا، في المقهى نرى أنفسنا أمام أبريل وديسمبر، وكأّنهما في موعد غرامي، وفيه تخبر أبريل ديسمبر بأنها حامل، كما أنها مؤمنة، لا بالدين، بل بشيء ما، ربما يكون السحر حسب تعبيرها، في حين أن ديسمبر مهووس بالأرقام والحسابات وصناعة الرجال الآليين، كما يخبرها عن هودين الساحر الفرنسيّ صاحب الاختراعات المدهشة التي كان يصنعها بيده، والذي تبنّى اسمه لاحقا الساحر الأميركي الشهير “هوديني”.

الغرائبي بين ألعاب الخفة والمؤثرات البصرية
الغرائبي بين ألعاب الخفة والمؤثرات البصرية

الإعجاب المتبادل بين ديسمبر وأبريل ولّدته مصادفة هوس الاثنين بالساحر “هودين”، لنكتشف لاحقا أن العلاقة بينهما ليست إلا صدى لسلسلة من العلاقات التاريخيّة الأخرى، التي جمعت كلا من هودين وزوجته، وميليس وزوجته، ليظهر الراوي/صانع الساعات كمراقب يعلم أثر “السحر” على العلاقات الشخصيّة، ومُحرّك لأقدار الشخصيات في المستويات الثلاثة السابقة، وهنا نبدأ رحلة الاكتشاف مع ديسمبر وأبريل، اللذين يستعيدان حكايات هودين وميليس التي تؤدى أمامهما على الخشبة، ترافقها صور وتسجيلات فيديو  قديمة تعود لبدايات القرن الماضي.

يتصاعدُ التشويق في المسرحيّة ونحن نتابع كيف تسلل ديسمبر وأبريل إلى المسرح الباريسي الذي كان يمتلكه هودين، فبينما هما هناك، يجدان خزنة سريّة تعود لميليس تحوي فيلم “الصعود للقمر” الذي أنتجه وأخرجه عام 1902، وتزداد متعة المغامرة هو اكتشافنا أن المسرح نفسه كان ملكا لميليس الذي اشتراه بعد وفاة هودين بعشر سنوات، وحوّله إلى صالة عرض سينمائيّة بعد عودته من بريطانيا شغوفا بالصورة المتحركة وتقنيات الخداع البصري بوصفها “لغة جديدة” ستغير العالم، وتدمجُ تقنيات المسرح والسحر سويّة، ما دفعه أيضا لشراء كاميرا وماكينة عرض، وإنتاج أفلام طويلة هدفها مخاطبة الخيال لا تصوير الواقع.

نتعرف في العرض على تاريخ الشغف الأوروبيّ بـ”الغرائبيّ”، الذي بدأ مع أسرى المستعمرات في عروض حدائق الحيوان البشريّة وأخذ شكلا جديدا مع السينما، وهنا يظهر ميليس كمنافس جديد في سعيه لإمتاع الجمهور و”إذهاله”، إذ وظّف الخدع التي قدمها “هودين” وحوّلها من فنّ مبتذل إلى شكل بصريّ “مُذهل”، كما في فيلمه “اختفاء سيدة في مسرح هودين-1896-“، لكن هذه “الرهبة البصريّة” التي تولّدها السينما استخدمت لاحقا ضمن السياسات الاستعمارية، إذ يشير العرض إلى ذهاب ميليس إلى الجزائر ليعرّف الناس على “السحر” الفرنسي، بوصفه أشدّ تأثيرا وقدرة على الإدهاش من السحر المحليّ.

ماكينة تلعب الشطرنج وحدها
ماكينة تلعب الشطرنج وحدها

هذه العلاقة مع الاختفاء والظهور التي تحضر في فيلم ميليس، تنعكس على العرض نفسه، ونراها في شخصيّة الراوي، الذي يلعب مرة دور صانع ساعات ومرة أمين مكتبة ومرة تاجر أنتيكا، فهو يتحرك بين الأزمنة، يظهر ويختفي كأنه “الساحر الأكبر”، الذي يدفع كل فرد نحو شغفه، حتى أنه تدخل في علاقة ديسمبر وأبريل، فهو لا يؤمن بالقدر، بل بالسحر كأسلوب يمكن إتقانه والتلاعب به لتحريك العالم، وهنا يظهر موقف العرض من مفهوم السحر، بوصفه مهارة وتوظيفا للتكنولوجيا، لا مصادفات أو قوى غيبية، بل “لعب” جديّ مع الحواس، وخصوصا أن بعض الممثلين، كما في السينما وعروض السحر، تتبدل أدوارهم، يظهرون ويختفون ويؤدون شخصيات مختلفة، وهنا تبرز القدرة “السحريّة” على أسر المشاهد كما في بدايات السينما، حيث السعي لجعل الجمهور يُصدق في كل مرة أن من يراه هو شخصٌ مختلف، لا نفس الممثل يلعب أدوارا متعددة.

يُراهن العرض على العلاقة بين السينما والمسرح وألعاب الخفة لا فقط عبر التلاعب بالزمن واستمراره، بل أيضا عبر إعادة تأدية بعض الخدع أمامنا، بذات الإتقان السابق الذي أُديت فيه أول مرة، لاستعادة الدهشة التي أصابت الجمهور في أول مرة شاهد فيها “صورة متحركة” أو لاعب خفّة، كما يسعى العرض إلى جعل المشاهد على ارتباط وثيق بالمكان الخارجيّ، كونه يوظف تاريخ السينما ليأخذنا في جولة في مدينة باريس على مدى ثلاث فترات تاريخيّة، كما حصل حين بحث كل من أبريل وديسمبر في أرجاء المدينة عن جهاز العرض السينمائيّ “الكينتوغراف” الذي كان يستخدمه ميليس من أجل مشاهدة الفيلم الذي وجدوه في الخزنة.

تقع المفاجأة الأكبر في نهاية العرض، حين نكتشف أن أبريل حامل بابن ديسمبر، دون أن نعلم لا نحن ولا ديسمبر كيف تم ذلك، ولا كيف عرفت أبريل جنس الجنين، هناك فقط يقين ما، أشبه بسحر ربط هذين الغريبين، هذا السحر يتجلى لاحقا بشخص صانع الساعات الذي نراه في منزلهما وهو يحدث ابنهما الذي لم يتجاوز العشر سنوات أثناء لعبه بألعاب الفيديو، وكأنها الشكل الجديد من “الدهشة” الذي سيغزو العالم.

___________

المصدر : العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش