«الساعة الرابعة»..مفهوم الحياة في مختبر المسرح

الشارقة: محمدو لحبيب

متى يصبح الخلاص كلمة أسطورية تشبه حكايات الأطفال التي نرويها لهم قبل النوم، كي يحلقوا بعيداً في عالم من الدهشة الخيالية؟.

ذلك سؤال تطرحه بكل بساطة وعفوية ودهشة متقنة غير متكلفة مسرحية «الساعة الرابعة» من تأليف طلال محمود وإخراج إبراهيم سالم وإنتاج فرقة المسرح الحديث في الشارقة، والتي عرضت في معهد الفنون المسرحية مساء أمس الأول ضمن فعاليات الدورة التاسعة والعشرين لأيام الشارقة المسرحية، وسط حضور جماهيري كثيف جداً امتلأت به قاعة العروض في المعهد عن آخرها.

لم يكن العرض المشارك في مسابقة المهرجان، كلاسيكياً رغم كل مقدماته التي قد توحي بذلك، ورغم السينوغرافيا، والديكور وبداية القصة النمطية.

ففي غرفة انتظار لطبيب نفسي هو الدكتور نادر تلتقي خمس شخصيات تعاني كل منها مشكلة ما، وينتظر كل منهم دوره مع ذلك الطبيب، ووسط ديكور تقليدي تميز بأريكتين صفراوين تمثل كل منهما عادة منصة البوح في كل عيادات الأطباء النفسيين، وبعض المقاعد بسيطة الشكل المتناثرة هنا وهناك في تنسيق لصالة عادية، وساعة معلقة في عمق فضاء الخشبة العلوي وفي منتصفه، تشير إلى الرابعة إلا الثلث تقريباً. بتلك اللوحة الافتتاحية التقليدية بدأ كل شيء، وبدأت رحلة المخرج التي اصطحب فيها مشاهديه إلى قمة المتعة، وقمة الكوميديا وقمة الأسئلة الموجعة التي يمكن أن تراود أي واحد منا وهو يواجه نفسه وعقده وطريقته في الحياة.

جعل المخرج جمهوره يكتشف تدريجياً أن كلاً من الشخصيات الخمس المتحركة باستمرار وبانتظام لا يختل معه التوازن على الخشبة، تملك عالمها المتفرد شديد الخصوصية.

كان المتفرج أمام خمس قصص في واحدة، وأمام تداخل وتفاعل وصراع قُدم بشكل متقن وذكي وبسيط إلى درجة السهل الممتنع بين تلك الشخصيات الغريبة، والتي كان المتفرج يشعر في البداية أنها لن تقدم شيئاً مختلفاً بسبب الصورة النمطية التي ظهرت فيها، لكن بمرور الأحداث يكتشف أن المخرج والكاتب أرادا أن يلعبا معه لعبة التدرج في الفرجة حتى الوصول بسلاسة ودون أن يشعر إلى قمتها.

شخصية أولى مصابة بوسواس قهري وهي شخصية يبدو من ملامحها وجملها الحوارية أنها لكهل خمسيني تقريباً، مصاب بالوسواس القهري، فهو لا ينفك في كل مشهد منذ بداية العرض، يشك بأنه ترك موقد الغاز مثلاً في شقته مشتعلاً وأن شقته قد تكون احترقت، ويتردد بين ذلك وانتظاره للدكتور نادر.

الشخصية الأخرى هي محام مبتلى بعادة الشتم فلا يستطيع أن يتحدث دون شتائم وهو يُحمل عمله مسؤولية ذلك فيقول في حوار مع الكهل الموسوس إن عمله علَمه أن يشتم، ونراه طيلة العرض وهو يحاول أن يضبط تلك الشتائم دون جدوى وهو ما يخلق حالة مفارقة مضحكة جداً، الشخصية الثالثة هي سيدة مصابة بفوبيا خاصة، فهي لا تستطيع أن تلمس أي شخص أو أي شيء إلا وهرعت إلى الحمام لكي تفرك يديها بسائل التنظيف وبالمناديل المعقمة التي تحملها في حقيبة صغيرة تلازمها طيلة العرض ولا تحوي سوى ذلك، والشخصية الرابعة هي فتاة صغيرة السن مصابة بدورها بمرض ينعكس في تكرارها للجمل وللأسئلة وللأجوبة بشكل دائم وفي كل حديث معها وهي تحاول التغلب على ذلك بأن تغني كل ما تريد قوله دون تكرار، والشخصية الخامسة هي فتى لا يستطيع أن يسير على الأرض المستوية العادية فيضطر للتقافز فوق المقاعد، ويبدو من تفصيلات شخصيته التي يكشفها العرض أنه مدمن على أجهزة الكومبيوتر ومواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام.

هذا الغنى الدرامي الذي ظهر بالتدريج وبشكل متكامل في الشخصيات، تضافرت معه اللغة العربية الفصحى التي أبدع الممثلون في إلقائها بطريقة جعلت المتفرجين لا يحسون بمسافة تفصلهم عن الشخصيات، وكان أداؤهم متقناً بها ومن دون أخطاء لغوية، وفي التناقض والمفارقة بين تلك الشخصيات برز جزء آخر من شخصية العرض النقدية الممتعة والعميقة، مما جعل المشاهد يستمتع بالعرض وتعالت الضحكات في القاعة بطريقة عفوية وكأن كل واحد من الجمهور يضحك على واقع يحزنه لكنه أيضاً يراه يقدم بشكل ساخر.

العرض حمل أسئلة عميقة طرحها المحامي حين اقترح على بقية الشخصيات أن يفكروا معاً في مشاكلهم في انتظار أن يحين الموعد، والذي نكتشف من خلال الممرضة المسؤولة عن المواعيد أنه كان الساعة الرابعة بالنسبة لكل الشخصيات في آن واحد، بسبب خطأ في النظام أدى إلى ذلك.

ظهر ذلك العمق الفكري في جمل حوارية من قبيل: ما هو مفهوم الحياة عندكم؟ ماهو الشيء الذي يمكن أن يخرجنا مما نحن فيه؟ ماذا يحدث لو اعتبر كل واحد منا أن مرضه هو قوة خارقة، وشيء يميزه عن بقية الناس؟

بعد نقاش تلك الأسئلة واقتناع كل شخصية من خلال الحوارات التي دارت حولها، بأن بإمكانها أن تتغلب على أزمتها ومرضها النفسي من غير الحاجة للدكتور يطرح المحامي آخر أسئلته وهي: لماذا ننتظر الدكتور نادر إذاً؟، وتنسحب الشخصيات الأربع ليبقى المحامي الذي يكتشف المتفرجون في نهاية العرض أنه كان هو الدكتور نادر متخفياً في شخصية المحامي، وأراد بأسلوبه المتفرد أن يعالج مرضاه دون أن يشعرهم بأنه هو الطبيب.

العرض حظي بإشادة كاملة في الندوة التطبيقية التي تلته والتي حضرها الكاتب والمخرج وأدارها عبد الله يوسف من البحرين، والذي قال إن العرض قدم سيمفونية مسرحية مدهشة، لافتة، مثيرة، وسلطت الضوء على أمراضنا في هذا العصر، واعتبر يوسف أن المخرج والممثلين والكاتب وكل فريق العمل جسدوا ذلك بمنتهى الإجادة، وشدد يوسف على أن العرض كان قوياً ومتماسكاً ويحفر في عمق قضايانا ويقدمها في قالب كوميديا الموقف التي لا تستجدي الضحك من الجمهور بل تنتزعه.

الحضور من النقاد والمخرجين والأكاديميين أثنوا على العرض واعتبروه علامة فارقة في تاريخ المسرح الإماراتي ونقطة تحول فيه، وذهب بعضهم إلى أنه عرض بمعايير عالمية، ووجه بعضهم الدعوة للمخرج ليشارك بعرضه في مهرجانات عربية خارج الإمارات.

المخرج والمؤلف بدورهما شكرا الحضور وأبدى كل منهما سعادته بالثناء على العرض ونصه وأداء الممثلين فيه.

«صينية الشقور»

العرض الآخر الذي جرى مساء أمس الأول أيضاً احتضنه مقر جمعية المسرحيين الإماراتيين، وكان بعنوان «صينية الشقور» وهو عرض خارج مسابقة المهرجان، ومن إنتاج فرقة مسرح بني ياس، وتأليف حميد فارس وإخراج علاء النعيمي، ويحكي العرض عن قصة مشعوذ دجال يمارس النصب والخداع على مجموعة من المشاهير في المجتمع هم رجل أعمال وصحفية في التلفزيون ومغرد على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقنع كل واحد منهم أنه يستطيع أن ينقذه من مشكلة كبيرة واقع فيها، بواسطة استدعاء العفاريت ومردة الشياطين وتسخيرهم من أجل حل تلك المشكلة. واستطاع المخرج أن يشرك الجمهور معه في العرض حين ظهرت بعض شخصيات العمل من داخل الجمهور، وحاول توزيع زوايا الرؤية في عرضه الذي اختار له قاعة ضيقة، وأراد بذلك أن يجعل الجمهور جزءاً من المشهد لا متفرجاً عليه، لكن ضيق القاعة وازدحامها بالبخور الملازم لأجواء الشعوذة، جعل الموضوع صعباً جداً، وظلت الرؤية منحصرة من اليمين إلى اليسار تماماً كما يحدث في مسرح العلبة الإيطالية العادية.

– : http://www.alkhaleej.ae

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …