الدليل على ضرورة توثيق التمثيل.. المسرح في حياتي نصوص على هامش التجربة إقامة – بوسلهام الضعيف #المغرب

المسرح في حياتي.. نصوص على هامش التجربة – نص إقامة الدليل على ضرورة توثيق التمثيل – بوسلهام الضعيف

في سنة 2004 سيتقاعد أحمد مسعية من مسؤوليته الإدارية كمدير للمعهد العالي للفني المسرحي والتنشيط الثقافي ،سيذهب إلى )واد لاو( مدينة صغيرة تطل على البحر المتوسط،لكي يعيد ترتيب أوراقه من جديد،ظن طلبته القدامي أنه سيذهب لأخد قسط من الراحة،كسائر المتقاعدين.لكنه فاجأهم حين عاد إلى الساحة المسرحية بنفس قوي،وهكذا أصبح ناقدا متابعا لجميع العروض المقدمة ، يمتطي سيارته ، فتجده حيثما كان هناك عرض مسرحي،فشكلت كتاباته حول العروض المسرحية ساعتها قوة للمشهد المسرحي،وخصوصا بعدما اندثر النقاد الذين يتابعون العروض المسرحية ويكتبون عنها بشغف الخشبة وحرقة المشاهدة. فالتخلص من عبء الإدارة جعله يتفرغ للكتابة ومتابعة المشهد المسرحي بالنقد والتحليل والمواكبة.

عندما اجتزت مبارة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي لم يكن ثمة مدير، ساعتها كان أحمد بدري قد دخل إلى دواليب وزارة الثقافة،فبقي المنصب شاغرا،شتنبر ذلك السنة كنت في المهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدارالبيضاء، وتشاء الصدف أن ألتقي الصديق والمسرحي المرحوم محمد الكغاط الذي كان مشاركا مع فرقته الجامعية (كانت خليطا من طلبته وبعض أعضاء هواة المسرح الوطني بفاس) بمسرحية (أساطير معاصرة) ،وبما أنني كنت صديقه وصديق مجموعته وخصوصا ممثله المفضل ” السقاط” ،فضلت أن تكون غرفتي بالجناح القريب منهم بالمركز التربوي الجهوي درب غلف (مكان إقامة المهرجانيين).كنت أحمل في جيبي ورقة ثمينة ،دعوة المعهد لإجراء المبارة،حدثت سمحمد عنها فابتسم،وقال لي:يمكن غاذي نتلاقاو.ساعتها كان الكغاط مقترحا ليشغل منصب مديرالمعهد، وأذكر أنه في إحدى صباحات المهرجان ذهب إلى وزارة الشؤون الثقافية بالرباط وعاد في المساء،ليلتها كنت ساهرا معه ومع مجموعته في أجواء مهرجانية طلابية ،عندما قال لي مبتسما وضاحكا هذه المرة : ماغاديش نتلاقاو.فهمت من بعد أن شروط العمل في الرباط لم تكن مناسبة له، وخصوصا مسألة السكن.وقبل أن ينتهي المهرجان حملت حقيبة سفري وذهبت إلى المعهد لإجراء مبارة الدخول.

السنة الأولى كان يشرف على تدبيرالمعهد مدير الدراسات ساعتها محمد بوبو،أما عبد الحق أفندي الكاتب العام فكان حديث الإلتحاق بالمؤسسة.وفي نهاية السنة الأولى،سمعنا أن المدير الجديد قد التحق،من يكون؟ ومن أين أتى؟ وكيف يكون؟ فبعد طول غياب كان الجميع متلهفا لمعرفة هوية هذا القادم الجديد .والذي لن يكون إلا أحمد مسعاية، القادم من كلية الآداب بالمحمدية، والذي ستكون أمامه مهام بيداغوجية ولوجيستكية صعبة، لتأهيل المعهد وإعطائه مايستحق من إمكانات ومن إمكانيات. طبعا ساعتها لم نكن ندرك حجم المسؤولية،ولا مستوى الرهانات،ولا دسائس الإدارة،ولا صراعات الأساتذة ومكر بعضهم، كنا نرى فيه المدير،والمديرطبعا هو القادر على حل مشاكلنا، وكانت مشاكلنا بحجم طموحنا.
لا أستطيع من زاويتي كطالب ساعتها أن أرى الأشياء من رؤية موضوعية أو شاملة تسع كل زوايا النظر. ولكن ما أستطيع إثباته بالملموس هو حبه للطلبة ودفاعه المستميت عنهم.

كان طلبة السنة الثالثة من شعبة التشيط الثقافي يعدون فقرات تكوينية في إطار البرنامج البيداغوجي ، تتطلب منهم استقبال ضيوف من عالم الفن والثقافة ومحاورتهم،كانت اللقاءات تتم بقاعة الكنفاوي بالمعهد. الطالبة مهى الكرومبي (بنت عبد الرحمن الكرومبي الذي كان ساعتها مسؤولا بالمسرح الوطني محمد الخامس) استضافت الفنان المسرحي عبد الله شقرون، ونظم اللقاء بقاعة باحنيني(على غير العادة )، كنت أعرف عبد الله شقرون المسرحي المغربي الرائد،ومؤسس المسرح الإذاعي بالمغرب،والمسؤول في اتحاد الإذاعات العربية ، وزوج الفنانة أمينة رشيد،كنت أعرفه وأحترم عطاءاته المسرحية، ولكن ساعتها لم أكن أعرف أين يشتغل،المهم،أن دودة النقاش التي تسكنني لم تصمت،وهكذا عندما فتحت مهى الحوارمع الجمهور، كنت أول المتكلمين،كانت مداخلتي حول اللغة،فقد كنت رافضا بشدة ماقاله الأستاذ،بكون الحوارفي المسرحية يجب تصنيفه إلى قسمين : اللغة العربية للشخصيات المتعلمة أو ذات مستوى اجتماعي راقي واللغة الدارجة للفئات الشعبية،اعتبرت هذا التصنيف عنصريا، وأنه يبخس اللغة الدارجة والتي هي بدورها لها حمولة معرفية غنية. وتساءلت هل الشخص المثقف لايتكلم باللغة الدارجة ؟ .
المهم انتهى اللقاء،ولم أكن أتوقع حجم عاقبة دودة النقاش.

كان اللقاء يوم الجمعة،وفي يوم الاثنين وجدت المدير يبحث عني ويسألني منفعلا ماذا قلت لضيف المعهد،هل جننت،ولما شرحت له ،هدأ ثم قال لي ولا عليك لاتهتم للأمر.
سأعرف من بعد أن عبدالله شقرون كان يشغل ساعتها مدير ديوان وزير الشؤون الثقافية علال سيناصروأنه غضب من أسئلتي المستفزة له وخصوصا أن ذلك تم أمام بعض موظفي الوزارة الذين حضروا لمجاملته،وأن الكاتب العام للوزارة ساعتها العلوي الإسماعيلي،اتصل بالمدير منفعلا مطالبا باتخاد الإجراءات الإدارية اللازمة مع الطالب الذي لم يحترم مدير ديوان السيد الوزير.
طبعا سيكون مسعية قد وظف شيئا من الديبلوماسية ليطفئ غضب المسؤول الثاني في وزارة الشؤون الثقافية ، وليقول له أنت تعرف الطلبة،..متمردين ومجانين،وووو…وسأعرف ماسأفعله معه بدون حشر الوزارة في مسألة قد تورطها في توتر مع الطلبة.
……………………………………………………..
كيف يمكن أن نؤرخ لتاريخ المسرح المغربي؟
هل استطعنا أن نضع ذاكرة بصرية لتاريخنا المسرحي؟
هل استطعنا تأسيس الذخيرة (الريبرتوار)المسرحية ؟
أين هي ذاكرة بدايات المسرح المغربي؟
أين هي وثائق مرحلة المعمورة؟
أين هي ذاكرة بوشعيب البيضاوي ؟

ماهو دور المؤسسات الثقافية (وزارة الثقافة – المسرح الوطني محمد الخامس ) في القيام بتوثيق ذاكرة المسرح المغربي؟

إن المرحلة التي قضاها أحمد مسعية وهو يكتب عن العروض المسرحية جعلت ينتبه لشيء مهم، هو غياب توثيق عن التجارب المسرحية المغربية،غياب مراجع توثيقية تسهل على الباحث والدارس عملية الحديث عن المسرح المغربي وتحولاته. وهكذا في لحظة من اللحظات أصبح مسعية،مهووسا بفكرة آمن بها حد الجنون، هي التأريخ لهذا المسرح، فأصبحت تراه حيثما كان هناك تجمعا حول المسرح،تحول إلى مخبر بوليسي، يسأل عن الأسماء والفرق، والعروض، والتواريخ،ويطلب الصور،والملصقات ، ويسأل عن الأحياء والأموات،والأماكن.

وبعد سنوات من المعاناة،والترحال،الجمع والتنقيب والبحث والتمحيص،والسفر، والمراجعة،والسؤال،والمتابعة وخصوصا الإصرار.سيصدر مسعية كتاب(دليل المسرح المغربي ) في نسختين بالعربية والفرنسية. عمل جبار ومفصلي في تاريخ التوثيق المسرحي بالمغرب .في دول أخرى مثل هذه الأعمال توكل إلى مؤسسات أو مجموعات بحث . إن غيرة مسعية على مسرح يفقد ذاكرته هي التي جعلته يحمل مشروعه على عاتقه ويمضي به إلى حيث له أن يكون.

أول مشكلة واجهت مسعية هي غياب الوثيقة حيث يصرح في مقدمة الدليل : (الغياب المروع للوثائق التي من شأنها أن تدلنا على صحة المعطيات المتعلقة بتاريخ المسرح بالمغرب. ذلك أننا لا نتوفر على مركز للتوثيق المسرحي،لا في وزارة الشبية والرياضة ، أو في وزارة الثقافة،أو في المسرح الوطني محمد الخامس،أو في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي،كما أننا لا نتوفر على منشورات متخصصة في الموضوع،ولا على فرق منظمة تنظيما جيدا،ذلك أن الممارسين والباحثين يقتصرون في الغالب على المعلومات التقريبية ويعتمدون على المصادر الشفوية التي لايمكنها في أي حال من الأحوال أن تقدم فكرة مدققة عن الممارسة المسرحية ببلادنا) إن البحث الميداني الذي عاشه مسعاية في تجربته هاته جعلته يقف على مجموعة من الحقائق الصادمة في مشهدنا المسرحي : (اكتشفنا بأن التنظيم الإداري لمعظم الفرق المسرحية يبعث على القلق.وسواء بافتقارهم إلى التكوين الأولي في مجال التوثيق، أو لأن معظم الفرق تستبدل باستمرار مسؤوليها مما يفقدها وثائقها،أو لأن غالبيتها لاتتوفرعلى بنية تحمي تراثها من الضياع،وهو مايميز مسرحنا إلى اليوم. يضاف إلى ذلك أن الفرق الأكثر أهمية في البلاد تتميز بطابع عائلي يحجب كل إمكانية لانتقال المعلومات ويقصي بالتالي كل فكرة تقاسم المعطيات ).ورغم بعض المشاكل المنهجية التي صادفت الباحث ومنها التمييز بين المسرح الإحترافي والهاوي فإن دليل المسرج المغربي حاول ومنذ منتصف الخمسينيات استيعاب كل الفرق المسرحية المغربية بإعداد بطاقة تقنية لكل فرد تشتمل على تقديم موجز لمسارها وعلى جرد بإنتاجاتها تبرز فيه مختلف العروض التي قدمتها مع الإشارة إلى مشاركتها في المهرجانات والتظاهرات ذات أهمية.وقد ضمن الكتاب ببعض الصور عن كل فرقة،(لإعطاء فكرة عن الجانب الجمالي والفني لكل فرقة ).

شكل (دليل المسرح المغربي) عتبة للوعي التوثيقي للمسرح بالمغرب.وإشارة ذكية لضرورة الوعي بإنشاء مركز لحفظ ذاكرة المسرح المغربي، وحفظ وثائقه المسموعة والمكتوبة والمصورة،فعمل الذاكرة لا يرتبط فقط بالماضي،إنه تأسيس لوعي مستقبلي،يجعل الممارسة التاريخية لها وعي بتحولاتها البنيوية والجمالية والفكرية.فلا مستقبل بدون معرفة للتاريخ .وفي هذا الصديد يمكن التنويه والإشادة بعمل الدكتور الباحث فهد الكغاط في عمله (معجم المسرحيات المغربية،)الذي صدر في السنة الماضية ويستحق وقفة متأنية لقيمته التوثيقية والأكاديمية.

فسحة (واد لاو) كشفت عن الوجوه المتعددة التي يظهر بها أحمد مسعية،فأصبح يظهر ويختفي،لكي يفاجئنا بجديده ،فمن البحث في الثقافة وقضاياها ،إلى التعبيرعن إنشغلاته بالقضايا الإنسانية الكونية وخصوصا في كتابه (إنسانية نتقاسمها،الهجرة ،العولمة والسؤال الفلسطيني).وفي كل هذه الدراسات والكتابات يتقاطع فيها الجوانب المعرفية الأكاديمية،بالقضايا المجتمعية السياسية،ثم الجانب الإنساني وخوصصا عندما يتعلق الأمر بالحدث عن المبدعين،وهكذا خصص مسعية كتابا مؤثرا،يحكي فيه عن الطيب الصديقي،من زاوية نظره الشخصية،مستعيرا عنوانا لسيرجيو ليوني ،فيه لعب بالكلمات يصعب ترجمتها بوفاء خالص، الطيب والسيء والمسرح .

أحمد مسعية رجل محب للحياة، يعيشها بامتلاء وحب طافح لكل الأشياء الجميلة،يكفي أن تجلس معه لكي يحكي لك زمن السبعينيات،زمن الأحلام الجميلة،حيث كان يحمل فقط جواز سفره،ويضع حقيبة صغيرة على ظهره ، ليجد نفسه متجولا في عواصم ومدن أوربا،يبيت في عراء السماء مع الهيبيين، مغنيا مع الغجر نشيد الحرية ،ليترك الطرق تقوده، إلى حيث الجمال والفن والموسيقي.
مرت غيوم عابرة في علاقتي مع أحمد بسبب أصحاب الحسنات الذين كانوا يتدخلون بخيوط من سم لزرع تافه ضغينتهم،لكن تلك الغيوم مرت سريعا كأنها لم تكن. لأنني كنت أرى فيه القلب الكبير الطافح بالحب،فرغم أنه سريع الغضب والإنفعال،لكنه في نفس الآن شديد الحب والعطاء مثل طفل كبير.
…………………………………..
بورتريه الكاتب والمدينة :
في مدينة (واد لاو) المدينة التي كبرت الآن،سكنها مسعية عندما كانت شاطئا متوحشا
في (واد لاو) يجلس الكاتب يتأمل البلاد والعباد
ينظرإلى المدينة وقد كبرت،حتى أصبح لايعرفها
كبرت مثل طفلة كانت تلعب أمامه وهي صغير،الطفلة لم تعد طفلة ولم يعد يتعرف إليها
تماما مثل (واد لاو) التي لم تعد كما عرفها وكما أحبها.
جدران تحجب الشمس ،هو يحب أن يرى المدينة تغسل جسدها بماء المتوسط
جسد المدينة احتله التجاروالمهربون والمهاجرون وأنواع من البشر بلا هوية ،بلا انتماء ،بلا معنى.
يجلس الكاتب يتأمل البلاد والعباد
يتحسرويتألم لحال الفن في البلاد
يكتب لمريم تتصل به ليلى،يهاتف ليلى تسأل عنه مريم…
ظلام في المدينة
ظلام في الغرفة
يقوم الكاتب إلى مكتبه،تنتظره قصيدة أو رواية،
تنتظره الكتابة.
دقات خفيفة على الباب
تستمر الدقات
الكاتب غارق في صمته
صمت مفتوح على النسيان
وفي غفلة من العالم
يفتح الباب فتدخل سيدة الجلباب الأحمر.

بوسلهام الضعيف – المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش