إشكالية الاتصال والانفصال في (مسرح اللحظة) لعز الدين جلاوجي – صباح الأنباري #العراق

إشكالية الاتصال والانفصال في (مسرح اللحظة) لعز الدين جلاوجي – صباح الأنباري

الكلمةُ أو المقدمةُ التي افتتحَ بها عز الدين جلاوجي كتابه الموسوم (مسرح اللحظة.. مسرديات قصيرة جداً) أكّدت على مهمةِ إيصال مفهوم (مسرح اللحظة) بوصفه عملية تجريبية حاولت الانفلات من أسر المسرح/الخشبة، وتأسيس مساحة فنية خاصة بها على الورق شكلاً، ومضموناً، واصطلاحاً. ومن المهم بداية الوقوف عند المصطلحين الجديدين وإلقاء نظرة عامة على سابقين لهما وهما: (قصرحية) الكاتب العراقي الراحل محي الدين زنكنة (أوراقي!!!) و(سي مسرحية) الكاتب السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي (الطريق الى السدرة) والاثنان لم ينفصلْ عنوانُهما عن اسم قرينِهِما الأساس (المسرحية) في الأولى جاء المصطلح من مفردتي القصة والمسرحية بعد وصل بعضهما ببعض ليكوّنا (قصرحية) أنجبت لنا نوعاً فنياً قد يكون غير مسبوق لم يقتصر على الشكل حسب، بل وعلى روحية كلا الفنين معاً.

أما الثانية وهي (الطريق الى السدرة) فتولدت من قطع الحروف المكملة لمفردة سينما والاحتفاظ بحرفين منها فقط هما السين والياء أضيفا الى الكلمة القرينة مسرحية لتكونا معاً (سي/ مسرحية) وأهم ما في هذا النوع هو استخدام تقنية السينما كعنصر رئيس ومتوازن مع تقنيات النص المسرحي عندما تتعذر عليه بعض الحلول البصرية. إن هذا الاتصال والمزاوجة في كلا العمليتين: (القصرحية، وسي/مسرحية) أكدتا للقارئ على أن الانفلات من استقلالية كل منهما كفنين منفصلين حتمته ضرورة اتصال بعضهما مع بعضه الآخر ضمن موازين محددة في إطار حداثي مطلوب تجريبياً.

وثمة تجربة أخرى سبقت هاتين التجربتين قام بها الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم وأطلق عليها مصطلح (مسرواية) وفيها زاوج الحكيم بين المسرحية والرواية مولداً عنهما نوعاً جديداً تجسدت آلياته في نصه (بنك القلق) ومع أن تجربة الحكيم تقدمت على باقي التجارب الأخرى ريادياً إلا أنها لم تحقق غرضها الفني كاملاً فظل السرد متنحياً بعض الشيء عن نصفه الآخر (المسرح) وباعثاً على الملل في اغلب مواضعه داخل النص، ووجدت أن من الممكن الاستغناء عن قراءة السرد، والاكتفاء بقراءة الحوار المسرحي فقط. وعندما اخرج هذا العمل كدراما فان المخرج اعتمد على الجانب الحواري، واستفاد من السرد كإرشادات خارجية. ولو قيّض لي إخراج النص يوما ما فإنني سأقوم بإزاحة السرد أولا والاشتغال على جانب الحوار ثانياً. وإذا كان لا بد من توصيفِ ما قام به الحكيم في هذا المجال الابتكاري فإننا نقول إن السرد والحوار جاءا بشكل تعاقبي في (بنك القلق) ولم يكونا متداخلين، ولم يتم التزاوج بينهما لخلق مولود جديد بل جاءا على وفق رغبة الحكيم في توليد نوع أدبي جديد، ودافعه نحو تحقيق شكل غير مسبوق مع انه كان مسبوقاً أوربياً، ومتبوعاً عربياً.

أما استحداث مصطلح (مسرح اللحظة) من قبل الكاتب المسرحي عز الدين جلاوجي فانه فصل ما بين كلمتي مسرحية وسرديات، ثم تعامل مع مفردتي (قصيرة جدا) ليربط المصطلح الجديد بالقصة القصيرة جدا كفن سردي محدث من شأنه إضفاء الشرعية على نصه )المسردي( الجديد مع أنه لم يستقل أو يستبعد المسرحية عن مصطلحه الجديد تماماً، عندما جعل عنوان الكتاب مبنياً على ثنائيةٍ طرفها الرئيس هو (مسرح اللحظة) وطرفها الفرعي هو (مسرديات) وتتشابه هذه المفردة، لفظا وإيقاعاً، مع مفردة مسرحيات ولكنها تظلّ منفصلة عنها بمسافة ملائمة، والمشترك بينهما هما حرفا الميم والسين، والسين هو صلة الوصل الوحيدة بين المسرحية والسرديات في آن واحد والتي تتجسد غايتها في التركيز على أن هذه (المسرديات) مرتبطة برباط وثيق مع المسرح وتحديداً مسرح اللحظة. فما هي حقيقة ذلك الاتصال والانفصال اللذان اشتغل الكاتب عليها ونجح أو أخفق فيهما. يقول في مقدمة كتابه إنّ:
“مسرح اللحظة أو مسرديات قصيرة جدا المصطلح الأول للفعل والثاني للقراءة، حتى نزيل إشكالية مصطلح مسرحية، والذي يربكنا ويوقعنا في اللبس فلا نعرف أن ننصرف الى النص المكتوب أم الى العرض على الركح”

وهنا تقع أولى إشكاليات المقدمة التي يبدو أنها أرادت الفصل بين الفعل المسرحي وفعل القراءة ولكن بحدودٍ خجولةٍ بعض الشيء. إنه يقدم لنا نوعاً فنياً بعيداً عن الركحِ ومستقلاً عنه، وفي ذات الوقت يريده متصلاً به فمنحه صفةً مسرحيةً تبدو خالصةً هي (مسرح اللحظة) وهنا يطرح السؤال نفسه أذا كان الكاتب لا يريد اللبس بين الانصراف الى النص المكتوب أو الى العرض على الركح، ويبغي إزالة “إشكالية مصطلح مسرحية” فما مبرر اتصاله مع المسرح وقد استعاض عنه بتوسعه في تقنيتي الوصف والسرد، وهما عنصران سرديان بامتياز، وحسب زعمه “دون أن تجرح كبرياء المسرح”؟ ثم يستنتج بعد هذا قائلاً:” فكانت المسرحية مصطلحاً قائما بذاته يجمع بين السرد والمسرح ويهيئ النص للقراءة من المستوى البصري الى استحضار تقنيات السرد مع مراعاة خصوصية المسرح”
وإذا كان الأول، كما ذكر، مقتصرا على الفعل فقط فهل يختلف عنه في حالة القراءة؟ أقول إن الفعل في الحالتين هو الفعل نفسه لا غير. المسرحية التي لا تحتوي على الأفعال ليست مسرحية سواء أكانت مقروءة أم ممثلة على خشبة المسرح. وسيان بين النص المقروء والعرض المنظور لأن الثاني يعتمد على الأول فمن دون نص مسرحي مقروء لا يمكن إيجاد نص عياني معروض، هذا إذا استثنينا الأعمال ذات الطابع الابتكاري المباشر على ندرته.
ويقول في موضع آخر: ” وبهذا يكسب المسرح أيضا قرّاءه وقد خسرهم لقرون من الزمن في ظل دكتاتورية مارستها الخشبة على النص، ومارسها المخرجون على الأدباء”

ظنا من الكاتب أنه هو أول من كسر هذا القيد الثقيل في الوقت الذي يعرف الكلّ أن برنادشو هو أول من فكر وعمل على كسر هذا القيد بعد أن رأى تكدس النصوص عنده وعند كتّاب المسرح بشكل عام وانتظار نصوصهم دورها في طابور طويل لارتقاء الخشبة، وقد لا يصلها الدور على الإطلاق. لقد جعل برنادشو النص المسرحي غير مخصص للمشاهدة من على الخشبة حسب، بل جعله يتشارك مع الخشبة بقراءة ذهنية/ بصرية/ تخيلية. مع برنادشو يختلف الدافع إذن عن عز الدين جلاوجي الذي توّلد عنده من رغبة ملحةٍ ليس إلا وهو القائل:

“ومن هنا يمكن أن نشير الى أن مسرح اللحظة/ مسرديات قصيرة جدا دافعان الأول ذاتي وهو رغبتي الملحة والدائمة في خوض تجارب إبداعية جديدة”
والثاني “إيماناً مني أن الإبداع الحق هو ما كان تجريبا أي تجاوزا للمألوف، إنه إضاءة مستمرة للمظلم في مجاهيل التخييل لدى الإنسان”

وعن (اللحظة) وخصائص مسرحه الجديد يعتقد أن تلك الخصائص تقوم على التكثيف مكانا وزمانا ولغة ومشهدا وعرضا وشخصيات لا تتعدى الثلاثة في أقصى تقدير وربما غاب عنه وجود المسرحية القصيرة جدا وجهد كاتبها صموئيل بيكت على وجه الدقة والتحديد، وهي غاية في التكثيف ومن شخصيات ثلاث فقط وتعتمد اللحظة في إنشاء مادتها ولنا في مسرحيته (يأتي ويذهب) مثالاً على ما نقول، وهي من المسرحيات التي لا تزال تقرأ وتعرض أيضاً. ومن أجل الوقوف عملياَ على مسرح اللحظة سنحاول البحث داخل النصوص التي كتبت على وفق منظور جلاوجي الخاص بمسرح اللحظة ومنها (الطريق) والتي يشي عنوانها بنفسه عن نفسه، ويشير الى أن النص يتعلق به، وان تفاصيله تتمحور حوله، والسير عليه وصولا الى هدف ما تختاره الشخصية نفسها، وتقرر صلاحيته للسير كوسيلة للوصول الى غاية محددة في ذات الشخصية أو لأقل الشخصيتين لان النص متأسس على شخصيتين تقاسمتا السير على الطريق وإن اختلفتا في اتخاذ الاتجاه الملائم لكل منهما في نهاية الأمر.

النص قصير جداً كما قرر الكاتب هذا سلفا، والسؤال هنا هل يمكن اعتباره نصاً مسرحياً؟ نصاً قصصياً؟ نصاً مسردياً؟ أم نعتبره نصا عائماً؟
من حيث الشكل يقترب النص الى حد ما من شكل القصة القصيرة جداً والتي تحتوي على حوارات وان غطت أغلب مساحتها إلا أنها تستبعد أن يكون هذا الحوار مسرحياً لخلوه من التناقض الواضح الذي يدعمه ويشيّد عليه سلما للوصول الى الذروة، وهو حوار أفقي (غير تصاعدي) ولهذا يستبعد من خانة الحوار المسرحي المنطوق ويصب في خانة الحوار القصصي الملفوظ. وهو لهذا وذاك يمكن توصيفه على أنه سرد حواري غير مفروض، ولكنه مفترض على أية حال.

قصرُ النص وفكرتُهُ أكدتا على أن شكله وان اتخذ من القصة بناءً، ومن الحوار أداة للبث دعما عملية اجتراحه نوعاً جديداً بعيداً عن النص المسرحي، وقريباً من السرد القصصي. وان ما فعله الكاتب في هذا النص هو اشتغاله على بث ملاحظاته وهي خارجية في حالة النص المسرحي (ملاحظات وإرشادات الكاتب) وجعلها داخلية في حالة نصه المبتكر فاستبدل ملاحظات الكاتب بملاحظات الشخصية، وعلى سبيل المثال يقول في نص (الطريق) على لسان احدى الشخصيتين: “دفعني بقوة غاضبا” بدل القول: دفعه بقوة غاضباً وأيضاً: “بالغ في صرخته وهو يجذبني نحو طريقه” بدل القول: يبالغ بصرخته ويجذبه نحو طريقه” فالمتكلم هنا ليس الكاتب (أنا ضمير المتكلم) وإنما هو ضمير الشخصية نفسها. هكذا أراد الكاتب منح نصه انفصالاً مطلوباً عن تقليدية راسخة في الكتابة المسرحية، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه الطريقة ليعود الى التقليد في كتابة الملاحظات الخارجية، ويعيد شخصية المتحدث تحت يافطة (أنا ضمير المتكلم)

يقول على سبيل المثال في بداية نص (حضرتي وحضراته):
“وقف من كرسيه يترقب رفيقه القادم بكل شوق، كان الوقت صباحا وقد أخذت المقهى زينتها، موسيقى خافتة تنبعث من الداخل، تصافحا بحرارة، وجلسا”
وهذا توصيف خارجي بصيغة (أنا ضمير المتكلم العارف بكل شيء)
ويقول في نهاية النص: “ثم يتوقف فجأة والباب يصفق خلفه”
وهذا توصيف خارجي جاء بصيغة أنا العارف بكل شيء أيضاً.
ولا نعرف سبباً لهذه العودة الى التوصيف المسرحي التقليدي الذي اشتغل على إزاحته من نصه الأول (الطريق) واتبعه في نصه الثاني (حضرتي وحضراته) ثم عاد الى إلغائه مرة أخرى في جملة: “صافحني مرة أخرى”

ويبدو أن الكاتب وقع في هذا التذبذب سهوا أو أن فكرة التجديد لم تترسخ بعد في نصوصه الأولى بشكل متكامل.
لقد انتهى نص (الطريق) نهاية فاجعة بسقوط الشخصيتين صرعى دون حراك وهذه النهاية هي الموقف الدراماتيكي الوحيد داخل النص. فهل بعد هذا العرض يمكننا اعتبار النص مسردياً متضمناً على السرد والمسرح في آن؟ وهل يمكن إدراجه في (مسرح اللحظة) نأمل التوصل الى حل في نص آخر. وعلى صعيد النهاية فإنها لا تختلف كثيرا عن سابقتها فرجل (حضرتي وحضراته) الثوري يتخلى عن ثوريته ليحابي المسؤول العسكري في لحظة وصوله وما إن يغادر المسؤول يعود لصديقه كاشفا عن سبب محاباته فيقول:
“-ما نفعل، كلاب يحكموننا بالحديد والنار، ولكن سنثور عليهم
ثم يتوقف فجأة والباب يصفق خلفه”
وفي كلا النهايتين ثمة ضرب من الإحباط، والتشاؤم، واليأس الذي يغلق الطريق على شخوص النص ويتكرر هذا في نهاية النص الموسوم بـ(المتاهة) أيضاً إذ يجري الزوج خلف زوجته بعصاه” حتى يختفيا في الغرفة المجاورة” ولا بد لنا من الإشارة الى النصوص السابقة كلّها واللاحقة أيضا قد التزمت بمساحة اشتغالها فكانت قصيرة جداً.

ثمة أمر آخر ألا وهو أن لكل شخوص المسرحيات أسماء أو رموز خاصة تشير إليها، ولكن في هذه النصوص (المسردية) تختفي الأسماء والرموز، وحتى عندما تتحاور مع بعضها فان علامة الشارحة (-) هي التي تفرز هذا الحوار عن ذاك تماما كما يفعل كاتب القصة القصيرة القصيرة فالشارحة هي ما يستعيض بها الكاتب عن مسميات شخوص النص. وهذا ملمح آخر يشير الى أن هذه النصوص قد تخلت عن قرابتها من المسرح ولم تتخل عن قرابتها من القصة القصيرة، ويمكن اعتبارها قصصاً وإن أراد الكاتب أن تكون مسرديات لأنها تتضمن على أغلب عناصر القصة من تكثيف واختزال ومن وصف ولغة موحية ودلالات علاماتية محددة.

أخيراً هل تبنى هذه النصوص على فكرة ما كما هو الحال في المسرح؟ أم تستبعد الفكرة تماماً؟
نصوص (مسرح اللحظة) التي اطلعت عليها لم تعنى بفكرة ما كما هو الحال في المسرح التقليدي والمحدث أيضاً. وهي في عمومها تتأسس على مواقف فقط، وتبنى على هذا الأساس الذي يميزها عن بقية النصوص الدرامية والسردية. فالنص الأول بني على موقف الشخصيتين من الطريق وهما موقفان متشابهان أول الأمر ومختلفان في نهايته، والنص تمحور حل هذين الموقفين. والنص الثاني تمحور حول الموقف من الثورة وتذبذب هذا الموقف بين شخصية الصديق وصديقه. والنص الثالث بني على موقف الزوج من زوجته. والرابع بني على موقف خيانة الزوجة وهكذا نجد أن كل نص من هذه النصوص (المسردية) بني على موقف أو موقفين لا يمكن عدهم أفكاراً مسرحية.

عموماً هذه النصوص تحتاج الى ترميم بسيط لتتحول الى ما دعاه الكاتب (مسرديات قصيرة جداً) وتقع تحت مسمى كبير هو (مسرح اللحظة). ولا يسعنا في نهاية المطاف إلا أن نشيد بجهد الكاتب المسرحي عز الدين جلاوجي، ومحاولة ابتكاره لنوع جديد من الكتابة التي أطلق عليها (مسرديات قصيرة جداً) ونثني على تبلور ابتكاره من خلال إصراره على الاستمرار بكتابة نصوصه الجديدة وفقا لرؤيته لمسرح اللحظة وفي هذا شيء جعله مميزا عن بقية التجارب الابتكارية للكتّاب الذين أشرنا الى نتاجهم الابتكاري والتجريبي نوعياً. والذين لم يقدموا لنا سوى نص لا يزال يتيماً محروما حتى من أخوة تسانده في تثبيت مواليدهم اليتيمة.

صباح الأنباري – العراق

(الناقد العراقي)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش