أوديب العجوز .. – سامية حبيب

أوديب العجوز ..

 سامية حبيب

  شغلت شخصية “الملك أوديب ” تاريخ الإنسانية منذ قرون ماقبل التاريخ وإلى اليوم ، وخرج من حيز اهتمام أهل المسرح إلى علماء الدراسات النفسية فحملت إحدى المشكلات النفسية اسمه عند العالم سيجموند فرويد ، فدرس مشكلته من منظور علم النفس وحملها مصطلح ” عقدة أوديب ” وباختصار فرط محبة الأم وكراهية الأب .

 ولأن الأزمة الدرامية في النص المسرحي الأول الذي  كتبه اليوناني سوفوكليس أو “سوفوكل في بعض الترجمات ” قامت على جريمة قتل وعنف ناتج عن طيش ثم عذابات وألم لاينتهي ، فكان النموذج الدرامي لما أطلق عليه الفيلسوف اليوناني أرسطو ” التراجيديا ” باللغة اليونانية القديمة أي المأساة في اللغة العربية اي دراما حزينة ، في الكتاب الأشهر في تاريخ نقد وتحليل المسرح  ” فن الشعر” أو ” الشعر” فقط كما ترجم مؤرخوا الدراما ، والذي درس ومازال في كل المحافل العلمية الفنية .

  وقد اغرت الاسطورة والنص المسرحي ثلاثين كاتبا وربما أكثر ، حول العالم منهم فولتير واندية جيد وجان انوي وجان كوكتو وغيرهم .وفي المسرح العربي كتب رائده توفيق الحكيم نص مسرحية ” الملك أوديب ” وكتب علي سالم مسرحية ” أنت اللي قتلت الوحش ” .

  هذا غير مئات العروض المسرحية  جول العالم بدأ من اليونان وإيطاليا ونهاية بتونس أي العرض الذي نحن بصدده “انا الملك ” إخراج معز حمزة .ومازال كثيرون من نقاد المسرح والمؤرخون يطرحون أسبابا لبقاء هذا النص وهذه الاسطورة في ذاكرة البشرية . هل لكونه الخطأ البشري الفريد في زواج ابن من أمه ،بما يمثل لعنة الألهة في الثقافة الإغريقية القديمة ، أو نشاط الغريزة ودورها في سلوك الإنسان أو الطموح الجامح الذي يعمي صاحبه عن طريق الصواب ، أم شكل من أشكال مؤامرات الخبثاء -المختصين بخداع الشعوب -على رجال الحكم والملوك ، بهدف التضليل ومن ثم الهيمنة .   

يرى الرائد توفيق الحكيم في معرض رده على الناقد الفرنسي “دي مارينياك ” حين كتب ” إن موضوع أوديب نفسه هو موضوع القدر القاسي المحتوم ،يجثم بكل وطأة ثقله على إمرئ من قبل ميلاده ، وهنا تكمن سر القوة في مأساة سوفوكل ” ويرد الحكيم بأن هذا هو مأزق الكاتب المعاصر “فهم لايستطيعون قبول الخرافة كما هي ولايستطيعون في عين الوقت تناول قصة أوديب بغير الخرافة ” .

  يقول الحكيم أيضا “على أن كارثة أوديب لها عندي موجب اّخر ، هو عمل ترسياس وتدخله في الأمور السائرة في مجراها ” .

يؤكد هذا الرأي البعد الزماني عن الأسطورة الإغريقية وزمانها منذ ماقبل الميلاد ، وايضا تطور الفكر البشري في كل المناحي .

 جاءت رؤية الحكيم في نص ” الملك أوديب ” الذي اعتمد عليه الدراماتورج والمخرج في عرضهما الفاتن  ” أنا الملك ” كما ذكرا في بطاقة العرض ،فماذا قصد الحكيم وماذا فعل الدراماتورج  رضا ناجي والمخرج معز مسعود ؟.

عند قراءة النص ومشاهدة العرض سنجد الإجابة ربما كانت مختلفة في رؤية العرض عن النص وهذا جائز، فالنص نفى الأسطورة القديمة كما جاءت في نص سوفوكل ، بوجود لغز سفنكس الشهير الذي ادعى أوديب حله ودخل المدينة كبطل ظافر خلص طيبة من لعنة الألهة التي تمثلت في سفنكس ” أبا الهول ” ومن ثم استحق عرش طيبة وملكتها الأرملة الجميلة جيوكاستا. بنفي الخرافة في الاسطورة وجد الحكيم صيغة درامية أخرى وهي ثيمة ” المؤامرة ” بقيادة العجوز العاجز “ترسياس ” باتفاق بينه وبين “أوديب ” ، فلم يكن هناك وحش ولا لغز ولاخطر غيبي يحيط بالمدينة بل أسد مفترس يفتك بكل من يخرج أو يدخل بالمدينة لكن ترسياس “رجل الدين ” اتخذه وسيلة لإرهاب أهل المدينة وإحكام السيطرة على عقولهم ، واستخدم أوديب الشاب القوي في قتل الأسد المفترس بسهولة وأكمل به الخرافة فجعله مخلص طيبة وحاميها وبذا احتفظ بمكانته بين أهل طيبة والسيطرة على مقاليد الحكم في شخص أوديب . والخلاصة خطيرة وهي “تأمر رجال الدين والحكام أو الملك على الشعوب الطيبة ” تلك هي الثيمة الدرامية عند الحكيم ، فهل تغيرت في العرض الذي شاهدناه الليلة فوق خشبة المسرح ؟  

 منذ لحظة ظهور ممثل شخصية أوديب ملك عجوز أبيض الشعر ، متوتر وعصبي الأداء وممثلة شخصية جيوكاستا بنفس الشعر الأسود والمشاعر التوتر والقلق ، ونحن أمام دراماتورج واعي انطلق لأزمة الشخصياتين مباشرة متجاوزا عن الفصل الأول في نص الحكيم ، فلاوجود لأبناء أوديب يتغزلون ويتفاخرون ببطولته في قتل سفنكس ويطلبون منه إعادة رواية تلك الواقعة . ينطلق الحدث المسرحي بمشهد أداء حركي بليغ الدلالة حيث تجلس جيوكاستا على كرسي ربما كان كرسي العرش أو الولادة ، حيث يربط حبل طويل بينها وبين وعاء من قماش أسود يتمخض عن أوديب وقد عقد الحبل على عنقه في وضع مماثل لحبل المشنقة يرفعه عن عنقه وهو يخرج من الوعاء الأسود بعنف .  ثم يقابل بمطالب الشعب بانقاذهم وهو من أنقذهم من قبل كبطل الشجاع غريب عنهم ، بينما هو في لحظة الحدث الملك المسئول عنهم ويجب أن يخلصهم من الطاعون . يؤدي الجوقة / الشعب ثلاثة ممثلين يكررون نفس الكلام مطالبين بطلهم بإنقاذهم  مجددا كما حدث من قبل .

وهنا يكون أداء أوديب المتوتر هاما فهو عاجز عن الحل لأن مايحدث من انتشار الطاعون أكبر من قدراته التي يتصورها الشعب ، لكنه وحده وترسياس من يعلمون تلك الحقيقة ولايجرؤن على الجهر بها .

اختار المخرج معز حمزة صيغة المسرح مابعد الحداثي ، بدأ من تشكيل الفراغ فوق خشبة المسرح (الركح ) ،مساحة واسعة سوداء بعض البقع الضوئية البيضاء على الممثل في كل مشهد ، فساد اللونين الأسود والأبيض فقط ،في ساحة التمثيل ولون الإضاءة وملابس الممثلين وامتدت إلى المكياج فقسمت وجوه الممثلين بذات اللونين . وتلك علامة قديمة مستمرة حيث يحيل الأبيض إلى الخير والطيبة  وغيرها من إحالات نفسية ووجدانية ، بينما الأسود يحيل لدلالات عكسية تماما الشر الليل ، الحزن . بقراءة سينوجرافيا العرض بكل دلالات اللونين الأبيض والأسود نجد الرؤية الدرامية حولت الصراع إلى صراع بين الخير والشر في النفس البشرية وأكدت عليها في مشاهد تبادل ثمرة (التفاح ) وخاصة في نهاية العرض بين أوديب وجيوكاستا حين يتبادل الاثنان أكل ثمرة التفاح ، فهل قصدت الرؤية الدرامية العودة بالخطأ التراجيدي في العرض لخطيئة أدم وحواء منذ بدء الخليقة , بهذا القصد لو صح فإن الرؤية الدرامية خرجت تماما من الأسطورة الإغريقية – وهذا حق فكري- بل وخرجت عن رؤية الحكيم إلى أفق أخر يمكن التسليم عند مشاهدة العرض فوق خشبة المسرح بإذن الله .

وتبقى اسئلة محل تفكيرمثل لماذا قامت ممثله بأداء دور “الكاهن “

لماذا قام كريون بفقع عيني أوديب ولم يفعل هذا بنفسه ؟

لماذا قامت جيوكاتسا في مشهد بما قامت به ششخصية اسطورية اخرى “بنيلوبي” وهو غزل النسيج ؟

لماذا تم المزج بين اللغة العربية واللهجة التونسية ؟

                     

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

This will close in 5 seconds