أفكار مسرحية – ما المسرح !؟ د . راجي عبدالله 

  – أفكار مسرحية –  

ما المسرح !؟

د . راجي عبدالله 

بعض المسرحيين وصفوا المسرح بانه الحياة المصغرة بكل دقائقها وتفصيلاتها . لكني أقول أن المسرح حالة تعبيرية لها علاقة في الإبداع  بطرق شتى حتى وإن كان مغايراً لما يجري في الحياة .

 صحيح أن الفنان المسرحي  يعيش  في الحياة شأنه شأن الآخرين , لكنه مع ذلك يعيش في عالم آخر خارج الأطر التقليدية الموجودة في الواقع والمتوارثة  عنه , وكذلك خارج تلك الأطر والقواعد التي يرتكز عليها المسرح وقواعده منذ نشأته , إبتداء من المسرح الكلاسيكي و وحداته التي ورثتها الحركة المسرحية أيضاً من زمن أرسطو , ولا حتى تلك الوحدات التفصيلية التي حددتها نظرية ستاسلافسكي الواقعية والتي سادت في القرن العشرين ومازالت مستمرة .

ومع أن التجارب القديمة ومدارسها التقليدية أخذت بالإنحسار في تأثير فعلها المسرحي على أوربا وعلى بلدان أخرى المتطورة مسرحياً , فإن المسرح العربي  مازال يدور في فلك تلك الأعمال خاصة الواقعية منها لحد الآن  , على الرغم من أن هنالك بعض المحاولات المسرحية التي تحاول التجديد , لكنها مع ذلك لم تستطع أن تكون ظاهرة عامة بسبب سيطرة المذاهب والتجارب القديمة على الذائقة الإجتماعية العامة , التي لم تصل ولم تنتج ذائقتها إلا التبسيط والإضحاك والبكائية , والتأثر السطحي بما يطرح من أفكار ليست ذات أهمية قصوى على خشبة المسرح  في عالمنا اليوم .

لكننا مع ذلك لا يمكننا الذهاب ببساطة إلى تعميم فكرة المسرح النقي الخالص من الشوائب والعثرات والمحاولات المختلفة التي ترافق أية مرحلة مسرحية دون الأخرى , وأن ننادي بالحالة ( التكاملية ) في أن تكون شعاراً دائماً لكل محاولاتنا المسرحية , لأن المسرح فعل متغير ومتحرك ومسيرته الشاملة لا يمكن أن تفرض بهذه الطريقة أو تلك على العاملين في المسرح دون أن تكون قاعدة التغيير فيه قاعدة سائدة  .

وإذا سلطنا الضوء على التجارب المسرحية السابقة , فإننا نجد أنها  لم تتخلص تلك المدارس والتيارات المسرحية المختلفة من موروثاتها السابقة المعروفة عنها بالكامل , حتى وإن كانت توجهاتها تختلف عن سابقاتها , علماً بأنها كانت لا تلامس  جوهر وعمق التحولات الإجتماعية الموجودة في التركيبات البشرية والأفراد ظاهرياً وداخلياً في معظمها , و لأنها لم تجب عن ما يجول في داخل الإنسان من أسئلة هامة  , و كذلك فيما يتعلق بالأسئلة الفلسفية والفكرية وحتى الحسية في الحياة , التي ظلت دون إجابة أو مساءلة  عميقة أو حتى سطحية , لما يدور في صراع الإنسان في منلحي الحياة المختلفة ,  إبتداء من ظهور المسرح الكلاسيكي ومروراً بكل المدارس الفنية التي جاءت من بعده  إلى يومنا هذا .

 فعلى سبيل المثال لا الحصر, وكما يذهب بعض الباحثين من أن مسرح بريشت التعليمي و الملحمي على الرغم من إختلافه عن بقية المدارس لم يستطع أن يوصل أفكاره الجديدة إلى المتلقين في كل مكان , وبالتالي لم يتمكن بعد من فرض نظريته المثلى التي وضع أسسها برتولد بريشت , من أنه يجب على المسرح أن لا يكتفي  بوصف العالم بل عليه أن يسعى إلى تغييره .

 و لم يتمكن أيضاً يوجين يونسكو من جعل مسرحه ( اللامعقول ) مؤثراً وسائداً في تلك المساحة الإبداعية الكافية في جميع تجاربه وعروضه  , لكي يعكس حالة التمرد ضد المجتمع الإستغلالية وإسقاطاتها التي سحقت وتسحق البشر خاصة إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعدها , ولم يستطع كذلك أن يعمق فكرة الرفض الواعي لكل الأعمال المسرحية التقليدية التي لا تمس جوهر مشكلة الإنسان مع الوجود . 

ولا يمكن أيضاً أن يستثنى مسرح العبث من كونه نتاجاً فكرياً لدمار وإنسحاق النفس البشرية ومعاناتها التي لا توصف في أعمال البير كامو , ولا في مسرح جان بول سارتر من أجل إدراك معنى الوجود وحتى العدم , في فلسفته التي ظلت سائبة فكرياً دون وجود دلالات جوهرية , عن معنى الإصرار في السعي الإنساني لتأكيد القيم الإنسانية الشاملة في الوجود , الذي يتطور من حالة إلى أخرى بإستمرار حتى إذا كان أصله ومصدره واحداً .

كما أن المسرح المعاصر بكل تجاربه المتنوعة لم يتوقف عن التجريب أو التحول في الشكل والمضمون والرؤية المسرحية المختلفة , التي يكون من الصعب بأية حال من الأحوال وضعها في حدود معينة أو تقسيمها إلى أجزاء متباعدة أو متقاربة نمطياً , حتى وإن بدت للمتلقين بأن ما يرونه على خشبة المسرح صورة مغايرة للسابق وما مر فيه من تجارب عديدة , إبتداء منذ نشأته التي نجهل جميعاً متى بدأت وأين , والتي أشرت إليها في كتاباتي من أنها نشأت مع ظهور التكوينات البشرية الإجتماعية الأولى للخلق . 

هكذا بقي المسرح في كل مراحل تطوره يعتمد على البحث والتجريب , وهكذا كان  بعض العاملين فيه أو المؤلفين له يحاولون أن يكون عملهم المسرحي وكتاباتهم المسرحية أن تكون أفعالاً إبداعية متفوقة ودائمة التأثير مهما تغيرت وتبدلت المدارس المسرحية الفنية المختلفة السابقة , ومنها ما يجري الآن من تجارب مسرحية تعتمد على مسرح الصورة وعلى الحركة الجسدية للمثل , وتلغي تماماً اللغة الحوارية التي كانت عنصراً هاماً من عناصر التواصل مع الجمهور طيلة فترات طويلة من الزمن . على الرغم من أنها تندرج في إطار المحاولات الفنية والتجارب الجديدة التي قد تتغيير أيضاً في يوم من الأيام .

 لذلك سيكون من الصعب جداً علي وعلى غيري من الفنانين المسرحيين والمنظرين للمسرح في وصف ماهو المسرح بأية طريقة كانت , لأنه لا توجد حدود معينة لمسيرته الطويلة في وصف فعله الإبداعي الشامل ببضع كلمات وأفكار , ولأن كل ما قدم من أعمال مسرحية ومن تجارب لم تخرج عن كونها تجارب مرحلية فقط , مهما تنوعت أو تغيرت ألوانها وأفكارها على مر العصور  , حيث بقي المسرح وسيبقى ذلك الفعل الإبداعي الدائم الذي لا يمكن وصفه بأية أوصاف أو أن يؤطره أحد بأية أطر محددة الأبعاد والملامح والأهداف .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش