أرخبيل (Archipel): كويرغرافيا راقصة على مفارق اللغة والموسيقا

أرخبيل (Archipel): كويرغرافيا راقصة على مفارق اللغة والموسيقا

منتجب صقر/ليون

لكويرغراف البلجيكي نيكولا موزان (Nicolas Musin)، كان لابد أن أقف عند تجانس البساطة والجمال. إذ إن بساطة اللعبة على الخشبة تكاد تكون أهم مقومات نجاح العرض. هناك تجانس واضح بين الرقص والركض والكلام المتندر الذي يلقيه بعض الممثلون حين توقف البعض الآخر عن اللعب بالسكايت بور (skateboard) وهذه الجمل مأخوذة من رواية “المدن اللامرئية” للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو. على الخشبة تظهر مجموعة من الشبان والشابات وللوهلة الأولى يتخيل للمتفرج أنه يتواجد في حديقة عامة حيث يرى الإنشاءات الخاصة برياضة السكايت بور، إلا أن عرض الكويرغراف البلجيكي يتركز على الدمج بين الرقص، رياضة التزلج وطريقة عيش الشباب وأيضاً هناك إقحام لفلسفة الكون عبر إدخال جمل متناثرة عن وضع الإنسان في العالم، كأنها لحظات استراحة بين التزلج والهدوء والتفكير على طريقة حياة وسكن الإنسان فنسمع كثيراً جملاً مثل “ما هي المدينة.. مدن الفراغ.. مدن الحزن.. إلخ”.

يردد الراقصون أسماء عواصم بعينها كأنهم يشاطرون الحياة بين الخشبة وسكان تلك المدن فالإنسان في نهاية الأمر لا يتجزأ ويمكن أن نرى أناساً بظروف مشابهة مع اختلاف الأمكنة والمدن. إذاً هناك حوار جديد بين رياضة السكايت بور والمدينة عبر التواصل بين المراهقين إذ نذكر أن جميع الممثلين الهواة تتراوح أعمارهم بين ال 16 ل 20 عاماً، وهذا الخيار مقصود فهو العمر المناسب لهذه الرياضة فنراهم يلبسون ملابس حياتهم اليومية وكأننا نراهم تماماً أمامنا في إحدى ضواحي المدن الغربية كباريس، بروكسل أو غيرها.

وإذا فكرنا على طريقة لعب أو تزلج الشباب بين أخذ وشد وحركات متكررة نراهم يصعدون بالسكايت الخاصة بهم ويعودون ليكرروا تلك الحركات وهي حرة وواضحة تنتشر وفقًا لديناميكيات الدفع والجذب ومحاربة الجاذبية. على طريقتهم الخاصة، يرقصون، يصعدون منصات التزلج ويعودون في حركات منتظمة وغير منتظمة أحياناً، تماماً كما هو الشعر يأتي في لحظات عفوية وكأن الكويغراف يستحضر شعرية الجسد واللعب العفوي. هناك حركة مستمرة على خشبة المسرح، يقوم الشبان بالتزلج ضمن هذه المساحة التي تتيح إمكانيات بصرية ولونية مختصرة لما نراه في الحدائق المخصصة للسكايت بور، وهنا عندما تأتي مقتطفات من رواية “المدن اللامرئية” لإيتالو كالفينو. في هذه الرواية ليس لتلك المدن أي وجود على الأطلس ولا نعرف إلى أي ماضي أو حاضر أو ​​مستقبل تنتمي هذه المدن التي تحمل جميعها اسم امرأة.

يعبر اختيار عنوان هذه العرض الكويرغرافي “أرخبيل” كتجسيد لمكان الأرخبيل بمعناه الطبيعي وليمتد إلى معنى مجازي بين مفترق اللغة الشعرية، الرقص والموسيقا كأن كويرغراف العرض نيكولا موسين يريد إعادة تشكيل أطلس اللغة عبر حركة أجساد المتزلجين ويضع قائمة للمدن التي ليس لها مكان في أي أطلس. يدعونا نيكولا موسين إلى اكتشاف عالم جديد عبر تسليط الضوء على هؤلاء الذين يحبون أن يروا ويعيشوا في عالم جديد خاص بهم. إنه يقول إن هناك شباب مختلفون يعيشون بيننا في مستويات موازية للمستويات الاجتماعية التي نعيش فيها. وهو عندما يستخدم المؤثرات الصوتية في لحظات قفز الشبان فهو يعبر أيضاً عن لحظات غضبهم من المدينة وتجاهلها لهم. وهنا نتساءل هل يفكر أحد ما بسبل عيش الشبان وطريقة ترفيههم في أوقات الفراغ في أماكن صنعت للتسلية فقط أم تتعدى كونها للتزلج؟ يريد الكويغراف أن يقول إن هناك حياة ما ضمن المدينة وهذه الحياة كأنها غير مرئية يتبادلها الشبان بين بعضهم البعض دون أن يكترث لهم الآخرون.

في كل بلد أوروبي، يساهم الرقص في بناء خيال معين لثقافة الجمهور، سواء كان فردياً أو جماعياً. هناك حساسية ما أو نظرة مجتمعية لمسألة الجسد الراقص وهذه التي تعبر عن طريقة وجوده في العالم وحتى عن طريقة قضاء وقت الفراغ. في ظل تراجع رقص الفلكلور نرى أن الرقص المعاصر يتجه نحو التكنولوجيا، الموسيقى الصاخبة كجزء من تراث هذا الجيل المعاصر منذ بداية القرن الحالي. أي أن الرقص يمر بحالة تناغم مع مزاج الشباب وهو لحظي آني ينتهي بانتهاء اجتماعهم، وهذه الناحية اللحظية تظهر في عرض نيكولا موزان كأنه يقول إن للرقص ذاكرة سريعة التلاشي.

ومقابل هذا البعد الزائل لفن الرقص أو التزلج بالسكايت بور، هل يمكن اعتباره انعكاساً لتفاعل الشبان مع مجتمع يتجاهلهم؟ أم هو مجرد نوع من التسلية والعرض أمام جمهور غير ثابت؟ هل سيصبح هذا النوع من التزلج تراثاً شعبياً وقد يطوره البعض ليأخذ أشكال أخرى تتناسب مع التفاعل بين التزلج، الرقص والرياضة؟ ربما أن فنون الشارع كانت ولا تزال مرآةً لحضارة الشعوب إذ يجتمع في ذلك الفضاء المشترك كبار وصغار ويعبرون عن حياتهم وربما أن الشباب، بتزلجهم يعبرون عن حركة الجسد وحضوره وها هو الكويرغراف نيكولا موزان ينقل لنا عرضاً إلى خشبة المسرح المغلقة ويمزجه بمقاطع شعرية ليضفي عليه روحاً أخرى أكثر أنسنةً.

منتجب صقر- مدينة ليون

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش