“آخر مرة”.. مسرحية تونسية تجسّد الصراع الأزلي بين المرأة والرجل

تعود المسرحية التونسية “آخر مرة” في سلسلة عروض جديدة في تونس العاصمة، وهي العمل الذي نال إعجاب طيف واسع من الجمهور كما نال ثقة لجنة تحكيم أيام قرطاج المسرحية التي توجته بجائزتها الكبرى، إذ اعتبره المتابعون غوصا عميقا في عالمي المرأة والرجل يحوّل أكثر الأحداث والتفاصيل اعتيادية إلى ضوء كاشف لما يعتمل في الأنفس والأذهان.

تونس – تحتضن قاعة سينما – مسرح الريو بالعاصمة عرضا لمسرحية “آخر مرة” للمخرجة وفاء الطبوبي، وذلك يوميْ الثامن والتاسع من يناير الحالي. ومسرحية “آخر مرة” من أداء الثنائي مريم بن حميدة وأسامة كشكار وإنتاج شركة الأسطورة للإنتاج وفنون التوزيع بدعم من فضاء الريو ووزارة الشؤون الثقافية.

صراع أزلي

امرأة ورجل يعيشان صراعا أبديا رغم التواصل بينهما، وهو صراع ناجم عن حالات العزلة والخوف والشك

وتدور أحداث هذا العمل حول “امرأة ورجل يعيشان صراعا أبديا رغم التواصل بينهما، وهو صراع ناجم عن حالات العزلة والخوف والشك”.

وترتكز المسرحية على مشاهد قد تبدو للوهلة الأولى مألوفة إن لم نقل يومية من واقعنا المعيش لا تثير الانتباه في اعتياديتها. وانطلاقا من أربعة مشاهد تؤسس المخرجة عملها الذي يبدأ من مواجهة بين مدير شركة وموظفة، ومن ثم بين أمّ وابنها، ومواجهة زوج شاب مع زوجته، ومواجهة رابعة بين رجل وشقيقته، أربع مواجهات ترسم المخرجة من خلالها لوحات اجتماعية متعارفا عليها غير أنها تكسوها بلبوس الرمزية وتبعث فيها بفضل أداء الممثلين مريم بن حميدة وأسامة كشكار روحا ناطقة بهموم الإنسان البسيطة، ومنتصرة إلى المرأة المقاومة لكافة الصعوبات التي تعترض حقها في العيش بسلام.

وأول ما ينتاب المتفرّج في هذا العمل هو العنوان “آخر مرّة” الذي يبعث في المتلقي التساؤل ويحرّك فيه ملكة التفكير قبل مشاهدة العرض، فـ”آخر مرة” عبارة يستخدمها الفرد للتعبير عن عدم تكرار فعل يعود على صاحبه بما هو سلبي، فيندم على فعلته ويخاف تكرار التجربة.

وفي العمل جعلت المخرجة من “آخر مرّة” أداة للصراع الثنائي بين الرجل والمرأة وهو صراع لا متناه يتكرّر باستمرار رغم اقتراف الخطأ نفسه وهو العنف المسلّط على المرأة بشتى أصنافه.

من الناحية الفنية، تألفت مسرحية “آخر مرة” من ثلاثة فصول، يروي الفصل الأول منها علاقة الرجل بالمرأة في العمل، ويروي الفصل الثاني علاقة الرجل بالأم، ويروي الفصل الثالث علاقة الزوج بالزوجة، وهذه الفصول الثلاثة تتقاطع جميعا في العنف والصراع بين الرجل والمرأة.

كان الكرسي رمز السلطة والطاولة نقطة الالتقاء بين الرجل والمرأة لكنها أيضا بداية للصراع الجسدي والعنف

ولإبراز هذا الصراع، اعتمدت الطبوبي على تقنية “الركح الفارغ”، واكتفت بطاولة وكرسييْن، استخدمتهما في التعبير عن علاقتيْ الاتصال والانفصال في نقطة التقاطع أو الالتقاء في مركز الخشبة، فالكرسي هو رمز للسلطة وأما الطاولة فهي رمز للالتقاء ولكنها أيضا رمز للانفصال، وفقا للمفهوم الآرنتي، أي نسبة إلى الفيلسوفة الألمانية حنا آرنت التي تشبه “الاختلاف في علاقة بالاتصال والانفصال في آن واحد بالطاولة التي تجمعنا وتفصلنا عن بعضنا في آن واحد”.

واعتنت المخرجة بالإنارة كإحدى أهم ركائز السينوغرافيا في المسرحية، أثبتت من خلالها المخرجة براعتها في هندسة فضاء العمل، فتقنية الإنارة تمّ توظيفها أيضا في التعبير عن الاتصال والانفصال وحالات الصراع والتمزّق الداخلي والتشظي النفسي والجسدي لكلا الجنسيْن، فالإضاءة على الركح كانت ممرات متوازية على شكل مستطيل وله قطران يتقاطعان في المنتصف، وأما الكراسيان فكانا في وضعية “التناظر المحوري” أي أنهما متوازيان لا يلتقيان.

التقاء وعنف

Thumbnail

كانت نقطة الالتقاء الطاولة في المسرحية بداية للصراع الجسدي والعنف، بسبب حالات العزلة والخوف والضجر والوحدة والملل. وبدا الضوء المسلّط على الطاولة حيث مركز الركح كأنه غرفة استجواب بالمفهوم الأمني والقضائي يستنطق فيها أحدهما الآخر ويجعله في موضع اتهام بارتكاب “الخطيئة الكبرى” وهي التقصير في حق الآخر.

وهذا التوازن الذي خلقته المخرجة على الركح تجسّد أيضا في لعب الممثليْن على الركح، فالتوازن كان في حركات الصراع بينهما فتارة الغلبة للرجل وطورا تكون الغلبة للمرأة، فلا أحد منهما حسم الأمر فعليا لفائدته، ليستمرّ هذا الصراع الأزلي إلى ما لا نهاية.

وانطلاقا من الخصائص الفنية التي تميّزت بها مسرحية “آخر مرّة”، تطرّقت وفاء الطبوبي إلى مجموعة من القضايا أبرزها العنف المسلّط على المرأة في البيت وفي العمل وفي الأماكن العمومية، رغم دورها الفاعل في المجتمع ورغم ريادتها، إلا أنها لم تحظ بالمساواة الفعلية مع الرجل الذي ما زالت تطغى عليه نزعته الذكورية.

وتقول الناقدة شيراز بن مراد حول هذا العمل “تداخلت عجينة المسرح ببعضها البعض لتنقل وقائع ورمزيات من عوالم أنهكت الكثير من النساء وحرمتهن من توازنهن النفسي والعاطفي والمهني”.

وهو ما نجح فيه العمل الذي تمكن رغم بساطته الظاهرية من اقتحام عوالم مسكوت عنها في أعماق كل امرأة وكل رجل، فكلاهما ضحايا الواقع نفسه، بينما تتحمل المرأة الجزء الأكبر من حمل وثقل الواقع، وهي المستجوبة دائما والملاحقة دائما والمطالبة بالتبرير والتفسير والعمل بجهد أكبر والتفاني والإخلاص ولعب أدوار الأم والأخت والابنة والزوجة دون مراعاة.

ويذكر أن مسرحية “آخر مرة” توجت في ديسمبر الماضي بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام قرطاج المسرحية إذ نالت التانيت الذهبي لأفضل عمل متكامل.

https://alarab.co.uk/

Thumbnail

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.