تينيسي ويليامز يرتد بالذاكرة في رحلة وعي مريض

بعد تشيخوف وجان جينيه، اختار مسرح الهضبة بباريس التعامل مع عملاق آخر هو الأميركي تينيسي ويليامز، عبر مسرحية “حظيرة الوحوش الزجاجية”، وهو نصّ معقّد عن شريحة من المجتمع الأميركي تواجه أوضاعا معيشية وعاطفية صعبة بعد الحرب، قال عنه صاحبه إنه يدور في الذاكرة، والذاكرة بالنسبة إليه تقع في القلب، لأن الذاكرة تولّد حنينا عادة ما يُجمّل الماضي، فيزيد الحاضر سوداوية.

مسرحية “حظيرةُ الوحوشِ الزجاجيّةُ” التي تعرض حاليا على خشبة مسرح الهضبة الباريسي، هي أول عمل مسرحي كتبه تينيسي ويليامز (1911 /1983)، وقد استوحاه مما عاشه في وسطه العائلي، والمعروف أنه بدأ كتابة الشعر منذ سنّ الرابعة عشرة “للهروب من عالم الواقع”، كما قال في مذكراته، والحياة الرتيبة التي كان يحياها في بلدة بأميركا العميقة داخل إطار عائلي خانق: أب مستبدّ ولا سيّما تجاه هذا الابن الحالم، وأمّ لم تبرح عالم طفولتها الذي غادرته، وأخت مريضة ذهنيا.

وظلت الكتابة لديه بلسما لجراحه الجسدية والمعنوية حتى وفاته، إذ لم ينقطع عن التأليف سواء في الشعر مثل “في شتاء المدن”، أو في القصة مثل “الملاكم الأبتر” و”الدجاجة القاتلة” والرواية مثل ”الربيع الرّوماني لمسز ستون” و”امرأة تدعى موسى”، ولكن شهرته حازها عن طريق مؤلفات مسرحية كانت تعرض في برودواي وفي شتى عواصم الدنيا، وغالبا ما حوّلها كبار المخرجين كإيليا كازان وجون هوستون وجوزيف مانكيفيتش إلى أفلام سينمائية ناجحة، نذكر منها “ترامواي اسمه رغبة” و”قطة على صفيح ساخن” و”الوردة الموشومة” و”صيف ودخان”… وتتميز كتابته بكثافة أنيقة تأتلف فيها الواقعية بالغنائية.

مرارة وخيبة

تدور أحداث مسرحية “حظيرةُ الوحوشِ الزجاجيّةُ” في شقة ضيّقة بسانت لويس، وتضع على الخشبة ثلاثة أفراد من عائلة واحدة، آل وينغفيلد: الأم أماندا، التي هجرها زوجها، وابنها توم، الذي يعمل بمصنع للأحذية ويكتب الشعر في أوقات فراغه، ويحلم بالمغامرة والسينما، وابنتها لورا، المعوقة المولعة بتأليف تشكيلة لحيوانات صغرى من الزجاج، يُضاف إلى هذا الثالوث الشابّ جيم، زميل توم، المدعو لقضاء السهرة.

ومن خلال هذا الوضع الذي يستمده من حياته الخاصة، ومن حكاية بسيطة مُغرقة في المحلية، يبني ويليامز عملا إنسانيا كونيا، مشوبا بالمرارة والخيبة، يحوم حول الفقدان والحداد، والحضور الدائم لِـما وَلّى.

فأماندا، المهووسة بشبابها الضائع، لا تنفك تنكّد حياة ولديها لأجل ما تعتبره مصلحتهما، وهي عاجزة عن التمييز بوضوح بين أوهامها وواقعهما، تنظم سهرة سوف يأتي خلالها رجل “كيّس”، لتعرّفه على ابنتها المصابة بإعاقة غامضة تجعلها غير قادرة على الحياة بصفة طبيعية، وتنسج خطط زواج معقدة من شأنها أن تحلّ مشكلات العائلة المادية والعاطفية، ولكنها تتسبب في كارثة ترديهم جميعا إلى الانكفاء والبؤس.

المسرحية تعرض الحياة كتجربة خالية من المعنى، ممهورة بلحظات جميلة جمالا لا ننهض بعده، ففي شرنقة هذه السهرة الضيقة حيث ترتجّ الحدود، ينتأ شيء غامض يوشك أن يحدث ويزعزع كيان أولئك الأفراد.

شهرة تينيسي ويليامز حازها عن طريق مؤلفاته المسرحية التي كانت تعرض في برودواي وفي شتى عواصم الدنيا

لورا تقترب كثيرا مما يبدو بالنسبة إليها معجزة، أثناء مدة بالغة القصر، وتعيش ما لم تكن تتصوره، ثم تعود مثلما كانت، لتعيش على وهم ما كان، وبحِمْل ثقيل يرهق الذاكرة، حِمل فرحة لم تتمّ.

هذا المشهد الأليم، الذي يداني السخرية، يستبدّ بالسارد، توم، الذي يروي تلك الحادثة بعد سنوات من وقوعها، ويسترجع السجن العاطفي الذي تمثله حياته جنب أمه وأخته، لذلك اختفى، فرّ كما فرّ أبوه من قبله، وترك المرأتين دون أخبار ولا معين.

بين كرب وضحك

لا شيء في هذه المسرحية مادّيا، فالوجوه أطياف تعبر ذاكرة السارد، ثمرة هوسه وعواطفه، هي رحلة في وعي مريض، بين الكرب والضحك، وتينيسي ويليامز نفسه يشجع المخرج على التنصّل من إرغامات الواقعية، ويقترح أشكال تمثيل، وترتيب علاقات تعكس البنى النفسانية العميقة، فهو يميل إلى دراماتورجيا تقوم على الثغرات والغياب والانزياح عن الواقع، وتلك سمة مسرحه، حيث التبادل غير مضمون، والعواطف تنفذ من الكائنات لتنهمر كالمطر بفعل لامنطقية متأصلة.

شخوص “حظيرة الوحوش الزجاجية” ضائعة، وطريقة احتلالهم الفضاء الأساس هي التيه، أماندا تائهة في بيتها، في المدينة، وبين ولدها وابنها، وإرادتها تسعى إلى إزالة كل عائق يمكن أن يحول بينها وبين تيهها: أن يستسلم لها ابنها، يتغيب من تلقاء نفسه، يقوم بالمعيش اليومي، ويخلصها من كل ثقل مادّيّ، وأن تخرس ابنتُها، وتكبت أنوثتها، وتغيب عن وضعها كمتفرجة دائمة لهوس أمّها، وأن يرضى جيم بأن يقدّم في شكلِ منحوتةٍ الجسدَ الراغبَ لرجلٍ مفقودٍ، ولا يزال مرغوبا فيه، وأن يبقى على الداوم خدعة، لا يتدخل، ولا يكون له وجود، فهي في نهاية الأمر وحيدة، تتيه حبيسة منظومة مغلقة.

التمثيل ومؤثرات الصوت والضوء وكذلك السينوغرافيا (ركح مربع محاط بستائر بيضاء شفافة، وفانوس في شكل إكليل زهري يخفق مثل ميدوسا) توحي بأن المسرحية غير واقعية، والأحداث تجري عكس ما يتوقع المتفرج، وهو ما أراده تينيسي ويليامز، إذ يؤكد أنها تدور في الذاكرة، لكونها تجيز عدة إباحات شاعرية، فتهمل تفاصيل، وتضخّم أخرى، وفق القيمة الانفعالية للذكريات، لأن مقرّ الذاكرة، كما يقول، هو القلب.

——————————————————————-

المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  أبو بكر العيادي – العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *