مسرحية مجاريح.. تطوير للصورة المشهدية للنص وتأكيد لأهدافها وترسيخ لمعانيها – د.خليفة الهاجري #مهرجان_المسرح_العربي12

مقدمة :

تعتبر نصوص الكاتب الاماراتي إسماعيل عبدالله  من النصوص الجاذبة والملهمة لعدد كبير من الفرق المسرحية الخليجية التي ترغب بسبر اغوار الموروث  في اطار مسرحي نوعي جاد متين وهنا نحن امام نص من هذا النوع، اذ يعتبر النص المسرحي “مجاريح” للكاتب الاماراتي إسماعيل عبدالله الذي كتب عام 2007من النصوص التي تناولها عدد من المخرجين الخليجيين حيث قدمت المسرحية في عدة مهرجانات عربية وخليجية، وحازت على جوائز في الكتابة ، ويأتي تميز هذه النص كسائر نصوص إسماعيل التراثية  للأسباب التالية:

 أولا: أن نص مجاريح كتب باللهجة الإماراتية الخليجية العامية، والذي يحدد لهذا السبب الثقافي المحوري صلاحيته المطلقة لمنطقة الخليج العربي في وحدة او تقارب اللهجة، و رغم ترجمته الى الإنجليزية الا ان كثافة المعاني والمفردات الخليجية يبقى “مجاريح” نصا خليجيا وبجدارة وهذا لا يعني انه نص لا يقبل التطويع الى الفصحى بل هو نص متأقلم و مرن الا ان نقله الى الفصحى يحتاج الى دراية كاملة بأهمية المفردة الخليجية و دلالتها وابعادها الاجتماعية والسياسية واحيانا النفسية.

 ثانيا : ان النص يزخر بالدلالات والصور الفلكلورية والشعبية الممتدة في التراث الخليجي، موسيقى ” القرب” والرقصات الشعبية الخليجية و الطقسية الاحتفالية الحاضرة ضمن خطوط درامية مدروسة تبحر في المعنى والشكل معا دون نشوز او تردد مما يوسم اعمال إسماعيل بصفة الاعمال الفرجوية الخلاقة.

 ثالثا: حرفية إسماعيل عبد الله ككاتب مسرحي في تناول بالموروث بجرأة وتجرد. اذ يعتبر إسماعيل عبدالله من الحالات الكتابية المسرحية النادرة خليجيا على صعيد الكتابة المسرحية في اتقان ادواته في إعادة صياغة الموروث الخليجي بالصورة الملائمة للمسرح، اذ يتميز بالتراتبية الزمنية للحدث مستلهما ذلك من ذاكرته الثقافية المرتبطة بالتأريخ والزمن و معرفته التامة بعالمه وبيئته، وقدرة إسماعيل الكتابية في استنطاق المادة التراثية وصياغتها على اكثر من خط درامي متين تلتقي في نهايات غير متوقعه ان لم تكن صادمة، معتمدا على استحضار شخصيات نمطية خليجية، كالنوخذه و بنت النوخذه والطواش مثالا، وإعادة قراءتها بصورة لا نمطية ومغايرة، دون المساس بثبات العادات والتقاليد وتعاليم الموروث الراسخة، ودون المساس أيضا في تحرر النص بدلالاته المأمولة كالتحرر من الأفكار الرجعية كالعبودية و الدكتاتورية المطلقة، وتحرر المرأة في حق التعليم والاختيار في الزواج مثالا، وطرحها بصورها الجديدة الآنية لمفهوم الحرية.

مجاريح نصا :-

كلمة ” مجاريح” هي جمع مفردة “مجروح” بالعامية بحسب اللهجة الخليجية كقولنا ” رجل مجروح” و ” الرجال المجاريح” وقد يتم تداولها في بعض اللهجات العربية الأخرى وتطلق على هؤلاء الذين تعرضوا لجروح داخلية اغلبها عاطفية اذا تم استخدامها في السياقات الشعرية.

 يعالج نص مجاريح رغم شاعريته أزمتين مترابطتين هما العبودية وحرية المرأة، حيث يخاطب المتلقي بإسهاب الى ادراك ماهية مفهوم الحرية لدى الفرد والجماعة، حرية المصير وحرية الاختيار، مرتبطا بحوادث تأريخية – نادرة – تتصل بمنطقة الخليج العربي في فترة ما قبل اكتشاف النفط حتى أواخر السبعينيات في تجارة الرق وجلب العبيد الى المنطقة وظهور طبقة من العبيد تسمى ” عبيد البيوت”  وسطوة بعض السكان الأصليين في المنطقة من تجار و زعماء قبائل او عوائل عريقة في التحكم بمصائر العبيد و تحريم مصاهرتهم كما اشارت له الوثائق البريطانية  التي تطرق لها جيوين كامبل في كتابه “قواعد الرق في دول المحيط الهندي وافريقيا واسيا” (2003) حيث ذكر ايضا ان يد الاستعمار الإنجليزي التي استطاعت ان تقضي على تجارة الرقيق لم تتمكن من القضاء على ظاهرة ” عبيد البيوت” اذ اعتبره الانجليز تدخلا حساسا في خصوصيات العامة والخاصة من الشعوب الخليجية و قد ينعكس بنتائج غير حميدة، الا ان الإنجليز ابتكروا فكرة تبلورت في منح وثيقة العتق التي ما ان يحصل عليها العبيد حتى يفرض بها على الاخرين معاملته على انه حر، الا ان الحصول عليها ترافقه مشقة كبيرة.

 كذلك عالج النص سطوة الرجل الخليجي المطلقة في تلك الفترة على حرية ومصير المرأة حتى وقت قريب، حتى بدأت دول الخليج العربي بسن القوانين المدنية والعرفية التي تمنح المرأة حقوقها الكاملة في التعليم والعمل وغيره من شئون الحياة الأخرى لتتساوى مع الرجل.

اذا نحن امام نص يميل الى التراجيديا الاجتماعية المطعمة ببعض من الكوميديا السوداء. حيث انشطرت الشخصيات بين فئتين : فئة الاسياد وفئة العبيد هذه الفئات يتطرف كل منها الى افراد مجموعته وفيها من يتآمر مع الفئة الأخرى على حساب مصلحة  فئته لأسباب تتعلق بقناعته أو مصالحة الشخصية، حيث  تتشابك الحوارات وتتعارض بين الشخوص في مقولة النص حول العبودية والعتق منها وحقوق المرأة في حرية تحديد المصير، مما يولد لدينا هذا الصراع الدرامي المحموم طوال رحلتنا في قراءة النص.

فالأزمة الأولى ” العبودية “: تتلخص في علاقة ” فيروز” (العبد) و ” غانم بن سيف” (السيد)، ومحاولات فيروز لرفض حالة العبودية ونيل حريته المطلقة بتشجيع ودعم من ” ميثا” ابنة ” غانم” وزوجة “فيروز” التي نال شرف الاقتران بها كعبد سابق بعد رحلة مريرة لنيل حريته.

الأزمة الثانية ” المرأة “ :

الشق الأول : هو تحرر ” ميثا” ابنة ” غانم ” ( السيد) من هيمنة والدها وهروبها للزواج في من تحب ” فيروز” ( العبد) الذي ضحى من اجلها وانقذ حياتها وشرفها، كذلك حالة عصيانها لوالدها في الزواج من “فيروز” الذي اختاره قلبها و رفضها للزواج من التاجر “مايد بن ناصر” ( من السادة ).

الشق الثاني: علاقة ” عذية” ابنة ” فيروز” و ” ميثا” و هي حفيدة ” غانم بن سيف” أيضا، بوالدها ووالدتها، في نيل حريتها في اختيار زوجها المتعلم والمستنير ” خليفة بن راشد” دونا عن الزواج من ابن ” خيري” (العبد) قريب والدها بضغط و اكراه من والدها ” فيروز”.

ولعل علاقات الشخصيات اعلاه وحواراتها و بالرغم من عمق وشاعرية جملها الحوارية  واختيار المفردة بعناية كما وردت في النص وو أكدها العرض ايضا، الا انها تبقى علاقات كلاسيكية و نمطية، علاقة الأب المتسلطة على الابنة المغلوبة او الزوج المتحكم والزوجة المنكسرة و السيد الظالم بالعبد الذليل، الى اللحظة التي رسم لنا إسماعيل البعد الأخر لشخصياته والتي تمثلت ” بفيروز” في انسلاخه المطلق من حالته كعبد الى حالة أخرى غير متوقعة هي حالة ” السيد” وكأن شبح ” غانم بن سيف” قد تلبسه بصورة مفرطة، حيث اصبح ” فيروز” اكثر ظلما و تسلطا من ” غانم”  السيد نفسه، وعلى من قد مارس دكتاتوريته ؟ لقد مارسها على ابنته ” عذية” في حرمانها من الزواج في من تحلم بالاقتران به، واجبارها على الزواج بآخر،  و هنا يذهب إسماعيل الى ان فكرة السلطة او التنمر بوصفها كالورم الخبيث الذي يقبع مختبئا في اجسادنا  كبشر بنسب مختلفة أسياد كنا ام عبيد ، تظهر علاماتها وممارساتها عندما تجد البيئة المناسبة لها. كما يكشف عن بعد آخر لشخصية ” ميثا” حيث لاحظنا حنينها – على استحياء- الى حياة الاسياد بعد ما لاقته من جحود ” فيروز” وطريقة تعامله مع ابنته بنفس – بل أشد مرارة- بمعاملة ابيها ” غانم ” لها. او ان النص يذهب الى مقترح مختبئ بين خيوط اللعبة وهو أن الحرية لا تصلح لبعض العبيد الذين قد يسيئون استخدامها وان المرأة  قد تسيئ استخدام الحرية و وبفرضية عدم خروجها عن طوع الإرث المجتمعي السائد الذي يمنحها الاختيارات المناسبة التي تعجز هي نفسها عن تحديدها لنقص في اهليتها مثلا،  هذه التحولات الصادمة والمفاجئة في الخط الدرامي والصراعات والتناقضات والجدلية المرة  هي ما يميز نصوص إسماعيل المسرحية، بل هي جاذب رئيسي لراغبي خوض المغامرة المسرحية بنص خليجي متماسك شكلا ومضمونا مما لا يجعله نصا متوقعا بل هو نص ثائر مفعم بتهشيم جدار المألوف، متأهب للوثوب على خشبة المسرح.

النهاية : الحل في الهروب : كانت نهاية المسرحية مُعَنونةً بسلاح الهروب، بدءً بهروب “ميثا بنت غانم بن سيف” وموت والدها غاضبا و حانقا عليها وهي التي البسته ثوب العار بفعلتها تلك، و انتهت أيضا بهروب “عذية بنت فيروز” ، التي أبقت ابيها وامها “ميثا” منكسرين بحالة من الذهول، وكأن كل ما كان من تضحيات في سبيل نيل حريتهما هو كالرماد في مهب الريح ، وكأن القدر قج عاقبهما على ما اقترفاه و حيث حافظ كاتب النص على النهاية  في خطها التراجيدي حتى آخر أنفاسها الأخيرة.

أخيرا: ان الحضور الملفت لعين المخرج الى جانب قلم الكاتب عند ” إسماعيل عبدالله” والذي نلمسه فيما يزخر به النص من إرشادات اخراجية و التي يشير اليها الكاتب بين الفينة والأخرى، بعضها يتعلق بوصف الشخصية والمكان او الخلفية التاريخية للمقترحات المتعلقة بالرقصات أو الموسيقات الفلكلورية، وبعضها يتصل بالحالة الوصفية لحركة الممثل او المجاميع وفي نقلات المشاهد.

الإخراج :

لم تكن مسرحية ” مجاريح ” هي العقد الأول المبرم بين كاتب النص إسماعيل عبدالله و مخرج  العمل محمد العامري بل هي سلسلة من التجارب المسرحية التي خاضها كل منهما طوال اكثر من عقد زمني في اعمال مسرحية مميزة – إسماعيل كاتبا والعامري مخرجا-  وكانت ثمرة تعاونهما حصد العديد من الجوائز الخليجية والعربية. مما يشكل حالة تفاهم إيجابية، تضفي على العمل خاصية الفريق المتزامن و المتناغم، لقد عمل مخرج العمل محمد العامري بصفته العقل المدبر لكافة عمليات انتاج مسرحية ” مجاريح” لفرقة مسرح الشارقة الوطني ، اذ ان المتتبع لأعمال العامري سيجد أن شخصيته حاضرة في كل عناصر عروضه المسرحية بدقائقها ابتداء من نص الخشبة و التمثيل و السينوغرافيا والكوريوغرفيا و انتهاء بالموسيقى. غير ان هذه الحالة قد ترهق العامري (المخرج) وتكلفه ثمن التركيز على عناصر دقيقة -اخراجيا- في عروضه المسرحية. اذ يعرف عن العامري كونه منافسا شرسا في اغلب المهرجانات الخليجية والعربية، فقد ترشح السواد الأعظم من اعماله عدة مرات للفوز بجوائز المهرجان العربي للمسرح بدوراته المتتابعة.

لقد اجاد العامري التعامل مع نص “مجاريح” كنص يتعلق بالموروث الخليجي يحمل في معانيه فكرة تتعلق بمفهوم الحرية والحالة التأريخية لتجارة الرقيق وحرية المرأة في الموروث الخليجي، ونلحظ هنا حالة من اللعب المسرحي المباح محاذيا لخطوط إسماعيل الدرامية دون المساس بروح العمل وحواراته.

 في هذا العمل المسرحي نشعر بأن العامري قد أنشأ ورشته الذهنية المرتبطة بالعمل، مصحوبة بعصف ذهني هائل ومن ثم يفرج عنها بورشة تقنية مكثفة تنتهي بسباكة العمل على الخشبة كما يفعل أي مخرج متمكن من ادواته. كان دقيقا في اختيار فريق عمله وتحديداً فيمن يقوم تمثيل الأدوار الرئيسية، اشتغل العامري كثيرا على الصورة المشهدية للنص متجاوزا الالتزام بالصورة المشهدية المقترحة في النص، اقترح العامري عدد كبيرا من أساليب الإخراج المسرحي  كعادته، فهو باحث نهم عن طرق ظهور الصورة المشهدية بطابع ابتكاري متجدد، ، الا انه وبالرغم من تعدد رؤاه الاخراجية الا انها تسير معا باتجاه موحد دقيق التفاصيل. حيث يشرك المتلقي بتركيب تروس الأحجية، وحلها معه.

يتقن العامري المشاهد الاستهلالية في اغلب اعماله المسرحية متبينا الأسلوب الاغريقي الافتتاحي في الاخراج (في مشهد استهلالي يعقبه  دخول الجوقة)  حيث يبدأ العرض بأداء حركي لممثل او مجاميع يشرك به الإضاءة والموسيقى كلاعبين محوريين في تشكيل الصورة السينوغرافية التمهيدية لباقي المشاهد، وفي مسرحية مجاريح بدأ العرض بمشهد بأداء حركي فردي راقص عبثي لا ملامح تراثية له أشبه ” بالميم”  تقوم بهذا الدور “عذية” بنت “فيروز” تلبس زيا بخطوط متشابكة تشابه الى حد كبير تطريزا اسكتلندي تتمايل على موسيقى ” القرب” الشعبية تارة وموسيقى “الجاز” تارة اخرى وكأنها تنفخ في رأسها أفكار مرفوضة وأخرى مستساغة تنجذب اليها. تتضح ملامح الرفض والقبول على سلوكها الحركي وإيماءتها على الخشبة، تهبط على اكتافها بقعة ضوء مركزية في آخر المسرح. وفي الخلفية يشرق نور المعرفة- كما سنفهم لاحقا. حبال تدلت من الخلفية ونتوءات من رؤوس الحبال على أرضية المسرح وكأنها في طريقها الى النمو.

وفي هذا المشهد الاستهلالي يطرح العامري حالة من الغموض المتعمد لاستفزاز المتلقي في طرح  الأسئلة والبحث عن الأجوبة في تفاصيل القادم من المشاهد : في ماهية هذه الشخصية؟ ما سبب   هذه الموسيقى المتلاطمة؟ لماذا تلبس هذا الزي الغريب؟  ما هذه الحبال المتدلية ودلالاتها؟ وما هذه النتوءات على سطح الخشبة؟

هنا يقتنص المخرج انتباه وتركيز الجمهور معه من خلال هذه الصورة المشهدية الاستهلالية ويبدأ رافعا إيقاع العمل منذ لحظة الصفر، حتى يدخل على الخشبة من منتصف عمقها مجموعة العبيد (الجوقة) حاملي القرب والطبول يرتدون زي مشابها لزي ” عذية” ليبدأ تساؤل آخر لدى المتلقي حول هويتهم هم أيضا، تليها بعد ذلك انسيابية في الحوارات بين شخوص العمل وينساب الخط الدرامي بصورة مرنة وسلسة. حيث تم تحديد مكانة الشخصيات الاجتماعية من خلال المفردات واللغة الوصفية المتينة للنص و مواقعها على الخشبة وازيائها وملامحها و نبرة اصواتها. ابتدع العامري فضاء للتمثيل مختلفا عن توجه النص التاريخي مراعيا توجهات المسرح الحداثي في تقديم الحلول الإبداعية الخلاقة، حيث اهتم العامري بالتفسيرات الذهنية للنص ولم يهتم بالبديهيات منه. لم يهرع وراء المستويات المختلفة في التمثيل واكتفى بمستوً واحدا طوال العرض، كما اعتمد على حركة الشخصيات الرئيسية في جميع مساحات المسرح بالتناوب مع الجوقة.

ان الحل الدقيق الذي تقدم به  العامري في مسرحية ” مجاريج” الذي كان ضمن حزمة من الحلول الاخراجية الأخرى والذي كان غير متوقعا، تمثل في ربط خط العبودية في الخليج العربي بالمستعمر الإنجليزي من خلال اضافة خط مواز رفيع وهو صراع الاستقلال بين الانجليز والاسكتلنديين.  بافتراض  العامل المشترك بين العبيد في الخليج العربي وحالة الحرب الدامية في انتزاع الاستقلال عند الاسكتلنديين من سطوة الانجليز. وقد تمثل ذلك في الآتي من الحلول البصرية والموسيقية :

 أولا : دمج موسيقى القرب ” لفرق الهبان الشعبية ” التي يمارسها العبيد في  الخليج العربي بموسيقى القرب الاسكتلندية كعامل مشترك دقيق في العرض المسرحي.

ثانيا: استمزاج أزياء العبيد بالنقشة الأسكتلندية الشهيرة بالخطوط المتشابكة. والتي يلبسها الأسكتلنديون كنوع من تأصيل الفكرة المقصودة مستخدما عنصر الأزياء في ذلك.

 وظف العامري الضوء بصورة مكثفة في تحديد المكان واللعب على الانتقال الزمني برشاقة، استطاع المخرج ان يضبط إيقاع الحركة المسرحية بصورة مرنة فحركة الشخصيات الرئيسية لا تختلف أهمية عن الشخصيات الثانوية كذلك هو الحال بالمجاميع. فأن خريطة حركة المجاميع كانت متقنة بصورة دقيقة وهي خصلة من خصال العامري الغالبة على قدراته الاخراجية الأخرى في تحريك المجاميع والكتل البشرية على خشبة المسرح دون نشوز.

الا ان ما تاه من الإخراج هو ارشاد الممثلين الثانويين في العمل الى اهمية تجنب الكوميديا المجانية رغم اتقانهم لها الا انها أتت في غير مواقعها وكأنها استجداء للضحك غير المبرر، كان بالإمكان تجاوزه والاستفادة من قدرات الممثلين الكوميدية في مشاهد أخرى كما حدث في الكوميديا الخفيفة (الفودفيل) في الفاصل التمثيلي الشعبي ” الشويبة” وهو اسكتش ساخر تؤديه فرق العزف على الهبان ” القرب” في الاعراس بناء على طلب اهل العرس.

وعليه، نستطيع أن نستنتج بان الإخراج عمل على تطوير الصورة المشهدية للنص وتأكيد أهدافها وترسيخ معانيها وخلق حالة ابداعيه وجمالية باستجلاب خطوط درامية محاذية للنص الأصلي تعزز تنفيذه على الخشبة وتفرج عن جماله التي عملت بكل اخلاص على انعاش اللحظة المسرحية.

التمثيل:

(أود الإشارة هنا الى ان هذا العرض المسرحي ” مجاريح” الذي بين أيدينا قد ألم به حزن عارم ،قد أصاب مسرح الشارقة الوطني و الجسد المسرحي الخليجي والعربي وذلك بفقد الفنان الإماراتي الراحل حميد سمبيج المفاجئ، الذي قام بدور التاجر ” مايد بن ناصر” سابقا و الذي أداه باقتدار وتمكن في أول عرض لهذا العمل، رغم ثانوية الدور الا ان دخول سمبيج الى خشبة المسرح كان يسهم وبصورة تلقائية الى رفع إيقاع العمل وبث روح جديدة في تفاصيله، وذلك يعود سببا لما يحظى به سمبيج من حضور وكاريزما مختلفة عن اقرانه. كذلك تمكنه من أداء “الشخصيات” غير النمطية كشخصية التاجر المتصابي بدقة ادائية عالية شكلا ومضمونا، كان حميد يحب المسرح فأحبه المسرح وجمهور المسرح، الا ان فراق حميد كان موجعا لجميع من عاصره. رحمه الله واسكنه فسيح جناته.

وعودا الى عنصر التمثيل، فلا يخفى على الجميع تغلب اللغة الشاعرية الدقيقة في نصوص الكاتب إسماعيل عبدالله لا سيما الحوارات الدرامية وفي المعاني التراثية المعمقة. وعدد قليل من الممثلين من يتقن التعامل مع هذه الحوارات بتركيز كبير، لهذه الأسباب يقوم النص على  استدراج الممثل – بعفوية – للحالة الخطابية في التمثيل دون الخوض في التمثيل الادائي الحركي، فيجنح الى الالقاء دون الأداء، ولعل بعض من الممثلين خصوصا في الأدوار الرئيسية في هذا العمل ” مجاريح” وقع في شرك ” الكلمة الشعرية”  الا ان التوجيهات الاخراجية او الخبرة التمثيلية لدى الممثلين استطاعت أن تنتشل عددا من الممثلين الى الأداء الحركي في مواطن مختلفة من العرض المسرحي بصورة فاعلة و مقنعة، وقد تمثلت بدور” ميثا” (بدور)، في منحها مساحتها المثقلة بهمومها الخاصة كامرأة تسعى لنيل حريتها في اختيار شريك حياتها و الحفاظ على  تماسك اسرتها الصغيرة وتحمل عقبات اختياراتها، فهي تقف بوجه والدها بشخصيتها القوية والصلبة ومع حبيبها بشخصيتها العاشقة والمحبة، ومع او ضد ابنتها الحالمة الطموحة بشخصية الأم المختلطة بالحنان والقسوة. هذه المشاعر بحد ذاتها تتطلب إمكانيات هائلة لممثلة متمكنة من ادواتها كالممثلة ” بدور” حيث ادتها باقتدار وتركيز. لا يخفى علينا أداء” بدور” الحركي وان كان في مساحة قصيرة الا انه اخرجها من حالة الالقاء الى الأداء المسرحي بذكاء وتمرس. كاشفا عن حالة الانسجام في الأداء التمثيلي بينها وبين ابنتها ” غيده”. كما تمكنت (بدور) من التحكم في إيقاع الصوت لديها في الفصل بين حالات الهدوء والتشنج وحالات النصر والانكسار. والذي اثبت بما لا يدع للشك انسجام الحالة الخارجية لبدور جسدا وصوتا مع حالتها الداخلية الشعورية والانفعالية.

ان أداء الفنان القدير حبيب غلوم لشخصية “غانم بن سيف” بعد انقطاع دام عشر سنوات عن الخشبة، له الأثر الجيد في عودة عنصر مهم من جيل من الرواد في المسرح الاماراتي يعتلون خشبة المسرح بتمكن، اثبت غلوم حضوره المتمكن والصلب كشخصية متنمرة انتهازية تمثل حالة التطرف القصوى لدى طبقة الاسياد المسيطرة، فبعد ان استنفذ حاجته في “فزعة” ونخوة ” فيروز” العبد في انقاذ ابنته “ميثا” من مختطفيها، رفض ان يمنح ” فيروز” صك العتق والاعتراف به حرا، مما يسبل عليه صفة الجحود، ورغم تمكن حبيب من أداء دور رجل الشر في العرض المسرحي، الذي يصل بالمتلقي الى مقت شخصيته، تميز حبيب بلياقته العالية في التمثيل وحفاظه على ثبات الشخصية طوال فترة العرض. الا انه كان بحاجة الى التلوين الادائي في مواقع هزيمته وانتصار ” فيروز” و “ميثا” على ارادته وبئسه. ويحسب لحبيب ادراكه الشامل لابعاد شخصية ” غانم بن سيف” (البعد النفسي والبعد الاجتماعي للشخصية)، وقد نتيجة قربه ودرايته بالموروث الشعبي والمفردة الخليجية المزخرفه وانعكاسا لخبرته الطويلة في التمثيل المسرحي الخليجي خصوصا.

اما شخصية “فيروز” التي اداها موسى البقيشي، فلا شك ان المساحة الحوارية المعهودة لهذه الشخصية المحورية كانت رحبة وكبيرة، فلا يكاد ان يخرج من الكالوس حتى يدخل من الاخر، مما تحتم عليه بقائه في شخصياته المتطورة لمدد قصيرة، فقد انتقل بين شخوصه عبر كم من الحالات الاجتماعية والنفسية، من العبد الى الحر ومن العاشق الى المتزوج ومن الحر الى السيد ومن الزوج الى الأب.. وفي مثل الحالات والتحولات تتطلب هذه الأدوار على ان يكون الممثل ذو لياقة آدائية نادرة وتركيز ذهني عال و دقيق، فهو دور مركب ومتطور، ورغم اتقان البقيشي لهذه الحالات المعقدة في شخصية ” فيروز” الا انه وصل الى ملامح الإحساس في الحالة العاطفية للشخصية، يقول غوغول “ان المبدع هو ذلك الشخص الذي يملك خاصية تصور المادة المفقودة، بشكل حي، عن طريق استنهاض ذاكرة الإحساس”، واظن ان الخاصية المفقودة تلك هي الشعور بعاطفة ” فيروز” وقد أكون مخطئا، فلم اتعاطف كثير مع ” فيروز” بالرغم مما ألم به من ظلم و نكران و جحود. حتى انني لم أستطع أن انزعج من قسوته على ابنته ” عذية” على خلاف ما كان عليه الامر بالنسبة لانطباعتي باتجاه أداء ” ميثا” (بدور). مما اوجد حالة من العزل ما بين الحالة الخارجية للبقشي ” جسدا وصوتا و حالته الداخلية المتعلقة بالمشاعر والعاطفة، الا انه يحسب للبقشي امتلاكه لجهاز صوتي متين ورائع، ولياقه جسدية فائقة، وسيطرته على مساحات تمثيل كبيرة وشاسعة على المستوى الحركي. كما لم يغب عن البقيشي الحالة التضامنية الجمعية في الأداء الموحد للممثلين خاصة في انصهاره مع جوقة العبيد وعازفي الهبان “القرب”. ولعبه دورا ثنائيا مع ” ميثا” و ” مال الله”.

من الشخصيات الثانوية المؤثرة في العرض أيضا شخصية ” مال الله” الذي قام بدوره ناجي عبدالله الذي فهم جيدا ابعاد الشخصية ، شخصية العبد الذي قَبِل بارادة القدر وان الحرية كممارسة لا تصلح له او لابناء جلدته، كما اخلص ناجي في صياغة الشخصية بكوميديا خفيفة (فودفيل) مما أدى به الى رفع حالة الثقة لديه ولدى باق الممثلين، كذلك قدرته الايمائية العالية في تقمص شخصية “القرد” في تمثيلية ” الشويبه”.

كذلك شخصية “عذية” والتي قامت بدورها الممثلة “سارة” ابنة ” فيروز وميثا” والتي كانت تمثل لعبة القدر التي أعاد تفاصيلها مرة أخرى. “عذية” تمثلت في ترمومتر اختبار قرارات ” فيروز وميثا” في المطالبة بالحرية المطلقة في المصير والاختيار، والخروج عن دائرة الجماعة والعائلة وهروب ” ميثا” من بيت والدها للزواج من ” فيروز”. فقد كشفت عذية زيف والدها “فيروز” و هشاشة قرار امهما “ميثا” ووقوفهما بالرفض امام طلبات “عذية” والتي كانت شبيهة لمطالبهما قبل عشرين عاما في طلب  الحرية -حرية الاختيار- مما نتج عنه فشلهما في التصدي لها وهروبها أيضا كنسخة اخرى مما اقترفته والدتها “ميثا” مع أهلها. والملفت هنا قدرة سارة على ان تكون نسخة أمها ” ميثا” بجدارة وهذا الدور الادائي من الأدوار الصعبة جدا وهي ان تقوم بمحاكاة ممثلة آخرى بحرفية عالية ومتطابقة ، خصوصا وهي تتعامل مع قدرات ممثلة بحجم ” بدور” . كما انها تتمتع بقدرة جيدة على الأداء الحركي فقد تسيدت سارة المشهد الاستهلالي بأداء حركي فردي متناسق، منحها ثقة عالية في أداء باقي المشاهد الأخرى.

السينوغرافيا:

اعتمد العرض المسرحي ” مجاريح” الى توظيف الصورة السينوغرافية بشكل مكثف وملفت، حيث بدأ ذلك منذ الوهلة الأولى في المشهد الاستهلالي، واستمر حتى المشهد الختامي، متنوع بالحلول السينوغرافية الى تقوم على تعزيز الخطاب المستهدف من العرض. الا ان الطابع الاخراجي الذي غلب عليه التنقل بين الأساليب الإخراجية لدى مخرج العرض انتقل كالعدوى الى مصمم سينوغرافيا العرض في تنوع الأساليب السينوغرافية في المشاهد المسرحية وانتقل ما بين السينوغرافيا الرمزية والسينوغرافيا التجريدية والسينوغرافيا الكوريغرافيا والسينوغرافيا التراثية.

حيث قدم لنا مصمم السينوغرافيا في المشهد الاستهلالي مشهدا مزيجا بين الرمزية والكوريوغرافيا. وتتمثل الرمزية في حبال العبودية المنسدلة من اعلى المسرح، كذلك نتوءات الحبال التي توزعت كجزر على مستوى المسرح الأساسي، تنبئ – بحسب فهمي – الى ان براعم حبال العبودية استوطنت خشبة المسرح وهي مستمرة بالتمدد والنمو. بينما ظهر الاسلوب الكريوغرافي في الاداء الجسدي للممثلة ” سارة” الذي غلب عليه اداء ” الميم”. في المشهد الاستهلالي.

يستمر الأسلوب الرمزي مهيمنا في اغلب المشاهد المتعلقة بالعرض، حيث تستمر الحبال ونتوائتها تسكن الخشبة طوال العرض سوى من خلال تغيرات تتعلق برفع الفوانيس اليدوية وكانها كتل مشنوقة على حبال العبودية. اما السيونوغرافيا التراثية فقد ظهرت خلال مشهد ” الزهبة” من خلال استخلاص ايقونات ترمز لأغراض الزهبة وهي الحاجايات التي تشترى للعروس بصورة مبالغه قصدية في الحجم والكم في مشهد التحضيرات الأولية لعرس “مايد بن ناصر” على ” ميثا” .

ينتقل بعدها مصمم السينوغرافيا الى التجريدية في استحضار ” الحديدة” في المخيم الانجليزي كقطعة تجريدية وكأنها الخنجر الذي شق صدر خشبة المسرح، وقد احتل مقدمة المسرح، اذ تمثل “الحديدة” صك حرية ” فيروز” وخلاصه من العبوديه فيخلق معها حوارا ساخرا يشي بجبورتها الهشة. كذلك احتل التجريد في اللوحة القماشية المنسدلة في مشهد “الشويبة” الطقسية التمثيلية من خلال تجريد الصور في الخلفية بخطوط وايقونات متفرقة تناثرت على لوحة كبيرة من القماش. وما زالت المشاهد تتراوح بين عدة أساليب سينوغرافية بين جيئة وذهاب الى الرمزية.

الإضاءة:-

 لعبت الإضاءة كعامل مهم في سينواغرفيا عرض مسرحية ” مجاريح” مما يتطلب تناولها وبصورة مستغلة عن السينوغرافيا العامة، وذلك لاحتلالها دورا وظيفيا وجماليا احسن استخدامه مصمم الإضاءة. وبدا ذلك أيضا في المشهد الاستهلالي من خلال الاشتغال على البقع الضوئية التي التحمت بجسد الممثل. في مشهد حركي مبهر، وهب المكان علامات سيميائية غير محدودة لمفهوم الحرية والجهاد لنيلها، الوان الفرح والحزن بريق النصر و ظلمة الانتكاس كانت لها حضورا رئيسيا اسضا ،استخدمت الاضاءات من مصادر وزوايا مختلفة وبصورة مكثفة، من الأعلى والجوانب، صاحبها افراط لوني ذو دلالات غير مفهومة، لم تخلو من الظلال التي اخفت بعض ملامح الشخصيات وبرز دورها في بعض المشاهد واهمها المشهد الختامي في حالة اطلاق أعمدة الضوء على أرضية المسرح المتمثلة بنور الحرية الباعث للحياة. والتي تفاعل معها الممثلون بين عبيد ينشدونها وبين اسياد يخمدونها. ساهمت الإضاءة في عزل المشاهد والانتقال من الحاضر الى الماضي مدعمة لتكنيك ” الفلاش باك” الذي اقترحه كاتب النص ونفذه مخرج العمل بصورة مرنة وانسيابية.

الأزياء :-

 لقد حسم مصمم الأزياء الجدلية بخصوص تحديد الحالة الاجتماعية للأسياد من خلال اللون الأبيض في ” الثوب الخليجي” و “البشت” الرمادي المائل للبياض و ” الغتره” البيضاء التي ارتداها ” غانم بن سيف” اما العبيد فقد ارتدو زيا “مبكرا” شبيه بالنقشة المميزة للزي الاسكتلندي حتى يدعم رؤية المخرج المحاذية التي ذكرناها سالفا، مختلقا علاقة متوازية بين قضية الحرية لدى العبيد و الصراع التاريخي المتمثل  بالثورة الاسكتلندية ضد الانجليز. و تنصيب الاستعمار الإنجليزي بوصفه عدوا مشتركا لجميع الاطراف.

ومن المتغيرات الملفتة أيضا هو تحول أزياء ” ميثا” من كونها ابنتة احد الاسياد الى زي شبيه بزي العبيد، وكان ذلك بعد مشهد هروبها من منزل والدها للزواج ب”فيروز”، مدللا على حالة الانسلاخ الطبقي والاجتماعي والهبوط الى طبقة العبيد. كذلك اختباء زي السادة تحت زي “ميثا” بعد زواجها من “فيروز” رمزا لحنينها لحياة السادة .

الموسيقى:

لعل الموسيقى في هذا العرض المسرحي ذو اللغة الشاعرية كما اسلفنا يحتم تواجدا كثيفا وتوظيفيا للموسيقى بين قسمات احداثه، لما للموسيقى من تأثير في تأًصيل شاعرية النص وتعزيز ملامح الشخصية في جوانبها النبيلة، لقد استخدمت الموسيقى الحية ممثلة بالقرب والطبول، تزامنا مع الموسيقى التسجيلية لموسيقى القرب الأسكتلندية والجاز. وأتت الموسيقى في بعض المواقع لتفصح عن دواخل الشخصيات في تناقضاتها، التناقضات التي اجتاحت عقل “غدية” بنت “فيروز” في حالة التيه بين موسيقى الجاز ونفخ موسيقى القرب ” الهبان” بين ما يريدون وما اريد.

لم يخلو العرض من العزف الحي الفلكلوري والذي ظهر في ” الزهبة” ومشهد التمثيل ” الشوبية”. مما أضاف أجواء فرجوية مميزة للعرض المسرحي.

 د.خليفة الهاجري – الكويت

—————————————-

*ورقة نقدية / تعقيب عن العرض ضمن فعاليات الدورة 12 لمهرجان المسرح العربي بالاردن 2020

*مهرجان المسرح العربي – الدورة الثانية عشر – عمان – الأردن (2020)

*العرض المسرحي “مجاريبح” مسرح الشارقة الوطني – دولة الامارات العربية المتحدة

للكاتب : إسماعيل عبدالله – اخراج: محمد العامري

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر