مهرجان مصياف المسرحي 2024
مسار هواة يحترفون شغف المسرح..
في سوريا استطاعت المدينة الصغيرة (مصياف) أن تصنع لنفسها مهرجاناً مسرحياً سنوياً. قد لا ينافس بقية المهرجانات ذات الصيت الإعلامي و التمويل الكبير، و العروض الاحترافية الأكاديمية ، لكنه أثرى الحركة المسرحية فيها بعروض هواة تقارب المحترفين، و قد نضجت تجارب مخرجيها، و هذا ما اتضح في مهرجانها الأخير..
مسار المهرجان عود على بدء:
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي مع جهوزية بناء المركز الثقافي، أقيم مهرجان للمسرح في هذه المدينة، و مع أن منصة المركز الثقافي لم تكن مؤهلة إلا لتكون منصة محاضرات – كما حال المركز نفسه غير المعزول عن أصوات الشارع- ، إلا أن المسرحيين تكيفوا معها، واستطاعوا ترتيب عروضهم فيها.
قدم المخرج (محمد خلف) أول عرض مسرحي في المركز و المهرجان بآن. العرض مونودراما (الزبّال) للكاتب السوري ( ممدوح عدوان) و هي من إخراجه و أدائه . ثم اشتغل عدة عروض أخرى مؤسساً مع هواة أُخر حركة مسرحية في مصياف، قبل أن يلتحق بالمسرح المدرسي و يتابع عروضه فيه.
كان ذلك المهرجان هو رقم صفر في سلسلة مهرجانات المدينة. التي أتبعت بالمهرجان الأول عام 2002 بعد انقطاع لأكثر من عشرين سنة، دون أن تنقطع الأعمال المسرحية التي قدمت بشكل متفرق.
في أواخر التسعينيات تحولت حركة نشطة لهواة المسرح في مصياف مع المخرج المسرحي (عصام الراشد) إلى فرقة منظمة باسم ( صدى) بدعم من المركز الثقافي الذي كان ما يزال المترجم و الكاتب الراحل (رفعت عطفة) يديره منذ بدئه. و منها خرج مخرجون جدد قادوا فرقهم، كفرقة (صوت) مع المخرج علي عبد الحميد، و فرقة ( سين) مع المخرج واجب الدرزي، عدا الممثلين الذين تابع بعضهم عمله في المسرح في مصياف، و منهم من احترف التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية.
عام 2002لم يكتفِ المركز الثقافي و فرقة صدى بعروضها لجمهور مصياف، فأسسا بدعم من وزارة الثقافة لمهرجان يضم عروضاً من عدة مناطق من حماه، و المحافظات السورية. أحدث المهرجان حركة مسرحية متنوعة، و أعطى لجمهور مصياف فرصة لحضور أعمال من مختلف المناطق السورية، علماً أن غالبية مخرجي هذه العروض من الهواة عشاق المسرح.. ولكن يحدث أن يفعل العشاق أكثر مما يفعله المحترفون!
على إشارة الحرب.. توقف قسري..
استمر مهرجان مصياف المسرحي سبع دورات ، إلى أن بدأت أحداث الحرب في سوريا. لكن العروض المسرحية للمخرجين في مصياف لم تتوقف نهائياً، و إن تراجعت مع غياب المهرجان كدافع مؤثر للمخرجين، و صارت عروضاً تقام بشكل متفرق . بينما استمر المسرح المدرسي التابع لمديرية التربية كجزء من الحركة المسرحية بعروض سنوية ثابتة.
حفريات في الطريق.. و مسرح!
رغم ما حفرته الحرب في سوريا من ألغام نفسية و اقتصادية، استعاد المسرحيون مهرجانهم في عام 2023 بعد توقف دام ثلاثة عشرة عاماً، و بأقل الإمكانيات المادية و التقنية، وبإصرار على استمراره رغم هذا الضيق. و في عام 2024 خرج مهرجان مصياف المسرحي بعروض أربعة فقط ليصنع احتفالية لجمهور المدينة. عرضان منه من فرقتي مصياف ( صوت) و ( سين)، و عرضان آخران من مدينتي حماه وحمص.
افتتاح المهرجان.. أصوات قديمة بوجوه جديدة..
افتتح المهرجان بتمازج مع المسرح و التراث الموسيقي الخاص بمصياف، مع الأستاذ (محمد زيادة)، و المخرج (علي عبد الحميد) الذي اختار تقديم ( محطات مسرحية). وهي مشاهد من عروض مسرحية سابقة، تركت أثرها في جمهور مصياف ( الذي يذكرها) و كأنها لم تكتب على الريح – كما يوصف المسرح عادة -. فاستعاد المخرج بعض الممثلين الذين شاركوا في أدائها حين عرضت أول مرة، كما الحال مع السيد ( حسين الحلو) الذي وقف على المسرح مجدداً بعد غياب دام ثلاثين عاماً، وهو من الهواة الذين كانوا يشتغلون في مسرح مصياف. إضافة إلى جيل جديد من الممثلين ..
تنوعت المشاهد ما بين الدراما و الكوميديا و المونولوج ، و معها تنوع إيقاع العرض. ذات الممثلين الذين يظهرون بمشهد كوميدي أضحك الجمهور، يشدونه في مشهد آخر بتأثر درامي. إيقاعات التأثير المتناقضة أجادوها مع مشاهد أعيد إنتاجها بإبداع جديد، مع خلفية موسيقية حية أعطت حيوية للعرض.
نادي الضحك.. مسرح الأفكار
قد تكون مجرد مصادفة، أن تكون تيمة الحرب جامعة بين العروض الثلاثة التي قدمت بعد عرض الافتتاح. لكن واقع الحرب يفرض مشهديته في رؤى الكتّاب و المسرحيين، فتشاركوا من مختلف المناطق بهذه التيمة.
في عرض اليوم الثاني قدم المسرح القومي في حماه مسرحية ( نادي الضحك) عن نص للكاتب العراقي (عمار نعمة جابر) و إخراج و أداء (مهند زيداني) مع الممثل (محمد تلاوي). يتناول النص التحول الذي يصيب رجلاً أذته الحرب ليصبح إرهابياً، من خلال لقائه بمرسال نادي الضحك، ضمن رموز و إسقاطات مباشرة وجريئة لكيفية تحضير العقل الإرهابي. حقق العرض -و هو ( ديو دراما)- بأداء لافت لممثليّه، مسرحةً موفقة لنص أدبي، الدراما بنيت فيه بسياق فكري طاغ على الحدث و الحكاية و الشخصيات التي افتقدت للكثافة الإنسانية. وكان العرض ليصنع تفاعلاً أفضل مع الجمهور لو قدم باللهجة العامية، ليعين الجرعة الفكرية المقدمة للوصول بشكل أقرب إلى الحياة.
سقوط الحصان.. مسرح على الطاولة
لأول مرة يشاهد جمهور مصياف، نوعاً مسرحياً جديداً من العروض، مع المخرج المسرحي العتيق (عبد الكريم عمرين) من حمص، و مع نص مونودراما للكاتب السوري الكبير ( فرحان بلبل). الكاتب و المخرج لهما باع طويل في العمل المسرحي، فاختبرا نوعاً جديداً من المسرح، مثيراً للجدل، و هو مسرح على الطاولة! و في هذا المسرح يتوقف العرض عند الممثل دون أن يقوم بأي أداء جسدي، مؤدياً بشكل صوتي النص المسرحي، مستخدماً بعض الأغراض على الطاولة كقناع، أو لافتة ما .
في نص ( سقوط الحصان) حكاية من حكايات الحرب رواها المؤدي/ الممثل خلف طاولة مع ميكرفون و نص ورقي قُرِأ أداءً أمام الجمهور، بإضاءة عامة، بدون مؤثرات صوتية. الممثل وحده كما هو أثناء بروفا الطاولة!
بالنسبة لجمهور المدينة كانت مفاجأة أن يعدّ عمل كهذا نوعاً مسرحياً، فعليه إذاً أن يسمى أي إلقاء أدائي لقصة من هذا المنبر عملاً مسرحياً أيضاً! و هو تساؤل في مكانه. لقد ظهر نوع جديد باسم ( قراءات مسرحية) يستخدم منصة المسرح دون أن يسمي نفسه عرضاً مسرحياً. ولكن هذه الأعمال يمكن أن تندرج أيضاً تحت مسمى ( الحكواتية) الذي يتسع لكثير من الأشكال الفرجوية. في هذه الأعمال يتصدر النص الأدبي المنصة، و تكون الكلمة هي الأساس، و ليس الفعل، و الممثل مؤد صوتي و ليس مؤد جسدي !
من جمالية هذا النوع من الأعمال هو الجدل الذي أثاره.
فهل هو عمل إذاعي؟ بالطبع لا لأنه وإن كان يستخدم الإلقاء الصوتي بالدرجة الأولى، لكن الجمهور يرى انفعالات المؤدي، إضافة إلى استعانته بجستات و بعض الأغراض، أي هناك حضور بصري و سمعي.
وهل هو قصة ( تؤدى) ؟ لم لا؟ و ما الذي يمنع أن تكون القصة المروية بأداء تمثيلي تنويعاً مسرحياً للحكواتية!؟
و في سياق الجدل الذي أحدثته هذه التجربة، التنظير الذي أسبقه المخرج/ المؤدي لعرضه الاستثنائي، إذ يرى أن هذا العمل يستعيد اعتبار اللغة و الجمهور معاُ. فالصورة تهزم اللغة، وتستولي على خيال المتلقي. أما هذا النوع فيترك للمتلقي تفاعله مع اللغة، وصوره التي يتخيلها بنفسه!
قد يكون محقاً في تنظيره هذا من جهة، إذ تتحول القصة المروية لدى المتلقي إلى عرضه الخاص بحسب ما تخيل، و هكذا يصبح لدينا مجموعة عروض بحسب عدد المتفرجين. من جهة أخرى، ليس منصفاً أن تعد الصورة/ المشهدية بممثليها و مؤثراتها استلاباً للمتلقي، و إلا سيكون وافياً للمتلقي أن يجلس بنفسه و يقرأ قصة و يتخيلها في بيته. لقد قُصد المسرح لمتابعة مشهدية حية برؤية مخرج واحد بالضرورة و بحيوية ممثلين، ليرى ما لا يستطيع فعله، أو لير كيف حدث الفعل، لقد جاء الجمهور ( ليتفرج).
إن تجربة كهذه، ببساطتها، و انعدام تكاليف إنتاجها، ستفتح باباً في مصياف لتقديم عروض مماثلة، و قد تُطور التجربة ، ذلك أن ترتيبات مشهدية عدة كانت لتجعل ( مسرح على الطاولة) أكثر قرباً إلى الجمهور، و أقرب إلى حالة مسرحية من قراءة قصصية. فإضاءة مناسبة و أداء مواجه للجمهور دون أوراق النص ، إضافة لبعض المؤثرات ، لكانت تترك أثراً أكبر لدى الجمهور ( المستمع) و تساعده في تخيله لعرضه الخاص، و تضبط إيقاع الاستماع مع المشاهدة فلا يتوه عن المنصة ببصره. ففي هذا النوع من العروض لن يكون مناسباً نص طويل لأنه بالضرورة سيحتاج إلى مشهدية بصرية تشد المتلقي.
يبدو عمل كهذا احتيالاً إبداعياً للشغوفين بالمسرح المصرّين على الاشتغال به رغم ضعف الإمكانيات و التقنيات. من خلال العودة إلى نقطة البداية المسرحية ( السرد) ..
لقد ترك هذا العرض تأثيره بذلك الأداء الصوتي التمثيلي لممثل مخضرم كالفنان ( عمرين) ، وخاصة أن حكاية الشخصية مع الحرب تتقاطع مع قصص من واقع الجمهور. كما أثار العرض خيال المخرجين ليخوضوا مستوى تجريبي مختلف عما اشتغلوه سابقاً في مصياف.
الشاهدان.. الواقع مسرحاً:
قدم المخرج واجب الدرزي العرض الأخير في المهرجان باسم ( الشاهدان) و هو من إعداد (د. شادي صوان) عن نص للكاتب الراحل (د. محمد قارصلي) باسم ( ربّ ضارة ضارة).
و في سياق الحرب يدلي المسرح بشهادته مع شخصيتي ( أبي عزت و أم سليم) اللتين جمعهما الشارع و التهجير و الخوف، لتشهدا على قصص شخصيات أخرى أوجعتها الحرب، ضمن أحداث سقوط القيم في الحياة الجديدة. إذ يبدأ العرض بحياة تضج، و مع أول قصف يتغير الواقع، و يبدأ إيقاع مختلف من خلال صوت قصفٍ يفصل بين المشاهد ، إضافة إلى صداه الرمزي بتغيير مجرى الأحداث . الشاهدان يعيشان تفاعلاً مع هذه الأحداث، دون أن تتضح قصة كلّ منهما الخاصة لتترك للجمهور تخمينها. تتصاعد مشاهدهما ببطء فيعترف أبو عزت لأم سليم بحبه القديم، ثم تفرض إحدى أحداث الحرب زواجهما ( قسراً و حباً).
يخلص واجب الدرزي لأسلوبيته التي اتبعها في عروضه السابقة، بالعناية بأداء الممثلين ومنهم من التحق حديثاً بفرقة سين، فظهر أول مرة على خشبة المسرح. و بحسب المستطاع قُدم ديكور مختلط ما بين الشرطي و الواقعي. لكن السينوغرافيا التي اختارها المخرج كانت المؤثر الداعم للممثلين. و مع اختلاط المسرح بالواقع، تختلط الشخصية مع الجمهور، تهرب من المنصة إليهم. تنام بينهم و من بينهم تهرب إلى المنصة .
يعرف الجمهور من يؤدي الشخصية، لكنه يتمثلها و يتعاطف معها. هنا في مصياف عملية (مرسل/ متلقي) خاصة، ففي هذه المدينة الصغيرة تعرف الوجوه إن لم تعرف الأسماء، ويحضر الأهالي و الجيران و الأصدقاء و المعارف ، لكن ذلك لا يؤدي إلى التغريب ، و لا يقلل من التمثل، و بخاصة أنّ الممثلين أجادوا أدوارهم الأساسية منها و الثانوية.
جمهور مصياف..
بشكل متفاوت غصّت القاعة بالمتفرجين، و بخاصة في اليومين الأول و الأخير. أي في اليومين اللذين يعرف الجمهور المخرجَين، و يعرفون أعمالهما و يرغبون بمشاهدة جديدهما. هناك جمهور ثابت يحضر بدأب أي عرض مسرحي، و هو متنوع الأعمار يحرص أفراده على حضور حواريات ما بعد العروض، و يشارك بها، منذ أول مهرجان و قد نظمت فقرة ثابتة للحوار. و هناك جمهور متغير يحضر عرضاً بغية مشاهدة صديق أو قريب، و هناك أيضاً جيل جديد من اليافعين و الأطفال يحضرون، و يدأبون على هذه الفرجة، و إن لم يتدربوا بعد على فرجة دون ضوضاء.
العروض في المهرجان تقدم ليوم واحد. لكن الأمر لا يختلف كثيراً عن الأيام الأخر في المدينة الصغيرة، إذ تقدم العروض ليومين فقط ، مما يجعل حضور هذه الأعمال احتفالية خاصة لمن يرغب .
لقد كسر المهرجان مركزية المسرح في المدن الكبرى، فأصبح متاحاً للمتابعة لمن يحبه في مصياف ، و أعطى الزخم اللازم لهواة المسرح أن يصنعوا مسرحهم هنا، بدعم من مدراء المركز الثقافي المتتابعين و مديرية الثقافة في حماه، و اللجنة الثقافية في مصياف. فنجحوا في تحقيق حركة مسرحية تنشط بحسب المستطاع، كما نجحوا في تقديم مسرح عربي/ سوري بخيارات نصوصهم من الكتّاب السوريين.
احتراف الشغف..
نهاراً يعمل علي عبد الحميد في البناء و الباطون، و يركض مساء إلى بروفاته. واجب الدرزي يصل متأخراً من دوامه الطويل في وظيفته، و يركض مساء إلى بروفاته، و مثلهما يفعل مازن العلي ينهي ورشته و يدرب، و يأتي حسين المير من جامعته و يتدرب، و تصطحب رباب مصا ابنتها إلى البروفا و تتدرب… و القائمة طويلة تشمل جميع من يعمل في المسرح في مصياف بلا استثناء، فلا أحد منهم متفرغ للعمل المسرحي، و لا أحد منهم يحترفه و يبحث من خلاله عن مورد رزق، بل يحدث أن يتكلفوا على عروضهم بأنفسهم. جميعهم أكثر من هواة، فهم عشاق للمسرح موهوبون. لا أحد منهم أكاديمي، ثقفوا أنفسهم بأنفسهم، راكموا الخبرات خلال ربع قرن من بدء ظهور فرقة ( صدى) كأول فرقة منظمة في مصياف، و أعطوا خبرتهم لمن يعمل حديثاً. تجمع المخرجين علاقات تعاون مع عروضهم و عروض الزوار ، و ما زالوا يبحثون في تطوير مسرحهم .
ميسون عبد العزيز عمران
منشطة مسرح مدرسي/ سوريا