التفكير بصوت عالٍ، انشغالات مسرحية
منذ دراستي في معهد الفنون الجميلة وكلية الفنون في بغداد، تعودت على التفكير بصوت عالٍ بين الحين والآخر، في محاولة للوصول إلى آفاق أوسع في هواجسي حول تحولات المسرح. خلال تلك الفترة، لم أكن أفوت عرضًا مسرحيًا على مسرح الرشيد أو المسرح الوطني أو منتدى المسرح. كنت أراقب الممثلين بعناية فائقة: كيف يتحركون، كيف يتكلمون، كيف يتحكمون بأنفسهم، وكيف يتعاملون مع الفضاء الفارغ، خاصة في منتدى المسرح (المبنى القديم) في شارع الرشيد في بغداد، الفضاء الحميم الذي يتحرك فيه الممثل قرب الجمهور.
بالإضافة إلى ذلك، كنت أتابع التدريبات المسرحية أثناء مرافقتي للفنان القدير عزيز خيون والفنانة القديرة عواطف نعيم. في تلك الفترة، أوكلت لي مهام إدارية متعددة بالإضافة إلى دوري كممثل في محترف بغداد المسرحي. احتضن محترف بغداد المسرحي فضاءً أنيقًا في مبنى دائرة السينما والمسرح، الطابق الرابع، مما منحني القدرة على التأمل وإدامة التمرين المستمر لفترة طويلة قبل أن يتأثر بالعاصفة الهوجاء التي جلبتها أحداث 2003. كان هذا الفضاء الاحترافي هو المكان الذي كنت أول من يدخله وآخر من يغادره.
مع مرور السنوات، وتحديدًا في بلجيكا، وجدت نفسي مهتمًا بالفضاء المسرحي بعد فهمه أكاديميًا. أدركت مدى تأثير الفضاء على الممثل وكيف يمكن أن يكون سببًا في نجاح التجربة أو إخفاقها. ساعدني هذا الاهتمام على تعزيز الثقة بنفسي، بحيث لا أخشى المسارح الكبيرة ذات الخشبات الواسعة. على سبيل المثال، عندما شاركت في عرض “عطيل” من بلجيكا في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر عام 2017، لم يرعبني حجم مسرح البالون في منطقة العجوزة في القاهرة، رغم أن الممثل الرئيسي شعر بالرعب. قلت له: لا تقلق. في النهاية، تجاوزنا الصعوبات المتعلقة بجاهزية المسرح من الجانب التقني.
في عام 2012، وجدت نفسي أمتلك أفكارًا وفلسفة معينة تهتم بالفضاء المسرحي. بدأت رحلة الورش المسرحية والدروس المتعلقة بـ “المساحة المسرحية الفارغة” التي حظيت باهتمام طيب داخل بلجيكا وخارجها. كان الفضاء التدريسي وما زال بالنسبة لي عبارة عن مرآة أراقب نفسي من خلالها من أجل تقييم التجربة المسرحية على كافة الأصعدة.
التفكير بصوت عالٍ ينطوي على تساؤل حول كيفية وقوف ممثل أو ممثلة في فضاء أجوف بلا روح مسرحية، فضاء لا يتناسب مع الجهد الكبير المبذول دون تأثير بصري وجمالي يتناغم مع هذا الجهد. لا أفهم كيف يمكن للحكواتي الذي يدور في أرض الله الواسعة أن يروي قصته من على سطح فضاء خالٍ من أي شكل من أشكال الحياة المسرحية. أعني التكنولوجيا الحديثة التي يمكنها خلق تأثيرات بصرية ودهشة أكبر لدى الجمهور. لا أفهم ونحن في عام 2024، كيف أننا نواجه تجارب مسرحية تستهلك طاقة الممثل الذي يقف عاريًا فقيرًا في قاعة متواضعة تكاد أن تكون صفًا مدرسيًا.
التكنولوجيا الحديثة على الخشبة لا تعني بالنسبة لي إلغاء أو تحجيم دور الممثل، بل يمكنها أن تكون تعزيزًا لحضوره وخطابه. أن تكون ممثلًا جيدًا يتجلى في مساحة ما بين جمهور ما، في بلد ما، هذا لا يكفي في رأيي. يجب أن تتوفر العوامل التي تستفز العين وتحقق الصدمة الجمالية (الدهشة). لا أفهم كيف يتجاوز العمل المسرحي البعد التكنولوجي في العرض، خصوصًا أن العالم يشهد تحولات كبيرة تتعلق بتكنولوجيا الخشبة الحديثة. هل الفقر في العروض هو استسهال لهذه الصناعة المهمة؟ أم هو متعلق بالإنتاج والتوزيع؟ أم هو ضعف فني يجعل المشتغلين بالمسرح يعتمدون الأسلوب القديم الفقير الذي لا يعنيه توظيف التكنولوجيا في الأعمال المسرحية على الخشبة؟
هذه الأسئلة هي نتاج تفكيري وانشغالي الدائم بمفهوم العرض المسرحي وتحولاته. أسعى من خلالها إلى النظر إلى العنصر التكنولوجي بوصفه تعزيزًا لدور الدهشة، الشيء الذي تسعى له الفنون كلها، والمسرح بشكل خاص.
حسن خيون
مخرج مسرحي معاصر
رئيس فرقة الفضاء الواحد
One Space
بلجيكا، أنتورب