مهرجان المسرح العربي في نسخته 14…ما بين التطويع والتجريب
بشرى عمور
استطاع مهرجان المسرح العربي، الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح سنويا (10 ـ 16 يناير/كانون الثاني)، أن يشكل حاضنة حقيقية للفضاء المسرحي العربي، ويؤسس جسرا فنيا وثقافيا وفكريا يوحد التطلعات والأهداف والرؤى لخلق فرص إدماج وتبادل التجارب والخبرات المسرحية العربية فيما بينها. ولترسيخ هاته الأهداف اختارت الهيئة يوما، حددته في يوم الافتتاح (10 يناير) للاحتفاء باليوم العربي للمسرح كتقليد سنوي لإلقاء كلمة لشخصية مسرحية عربية، ومرتكزا مهماً لتحقيق شعارنا الدائم “نحو مسرح عربي جديد ومتجدد” ولنصل إلى المسرح الذي دعا إليه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مدرسة للأخلاق والحرية” كما صرح الأستاذ اسماعيل عبد الله ، الأمين العام للهيئة.
وما يميز هذا المهرجان هو انتقال دوراته بين مدن البلدان العربية، لخلق روح التجديد بعيدا عن كل ملامح الرتابة وتطوير آليات التنظيم والتدبير. ليحط الرحال في دورته 14 (من 10 إلى 18 يناير 2024) ببغداد. برعاية رئيس الوزراء العراقي المهندس محمد شياع السوداني، وبشراكة دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية ونقابة الفنانين العراقيين. والتي شهدت تغييرا طفيفا في برمجتها مع الابقاء على باقي الأنشطة (عروض مسرحية (بمساريها)، مؤتمر فكري ومؤتمرات صحفية، وحفل تقديم وتوقيع إصدارات مسرحية جديدة، ومناقشة بحوث محكمة وتكريمات ومعرض الكتب) مع استحداث برنامج الاستوديو التحليلي الذي عوض المناقشات النقدية.
العروض المسرحية…استنساخ من استنساخ
” تدعو اللجنة المسرحيين للسعي من أجل الارتقاء إلى مستوى الاحتراف في تنفيذ المقاصد والرؤى التي يبنون عليها عروضهم والتي تقتضي أصالة المقترحات الفنية والتقنية، ومراعاة حقوق الملكية الفكرية والحقوق المجاورة، فقد تميزت العديد من العروض في هذه الدورة باجتراح مشاريع حلول مسرحية جديدة، لكن البعض قد وقع في ضعف تطبيق تلك الأفكار بإتقان وجمالية” (فقرة من فقرات تقرير لجنة التحكيم”، هذا ما جاء في تقرير لجنة التحكيم.
يتضح جليا، أن بعض عروض المتنافسة اتسمت بالتشابه، ومنها من استنسخت من أعمال أخرى. وهناك من غرقت في الاستسهال والاجترار. مما يفرض علينا طرح الأسئلة التالية:
من تسبب في تردي مسرحنا؟ أين المسرح الذي يعكس ذواتنا؟ ما الذي نحتاج إليه لكي نسترد مسرحنا ونحرره من آفة التقليد والاستنساخ والنمطية؟؟ كيف نجعل المسرح هروبا من الوجوم الذي فرضته علينا الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟
أجوبة هاته الأسئلة مسؤولية تتقاسمها الهيئة العربية للمسرح (كبيت كبير مسرحي عربي) ووزارات الثقافة ببلداننا (كمنتجة وداعمة) والمسرحيين (ممارسين ومنظرين ومؤطرين واعلاميين كصناع الفرجة)
لكن سأركز على الهيئة لأنها حملت على عاتقها مسؤولية تتويج أحسن عرض متكامل للموسم، فثمة عرض بهذه الدورة، تم اختياره في زمن قياسي لا يتعدى شهرا (20 نوفمبر إلى 26 ديسمبر ) من لدن لجنة متكونة من مسرحيين متنوعي المشارب ومسيرة حافلة بالإنتاجات الناجحة، ارتكزت في أغلبية اختياراتها على مشاهدة عبر أقراص مدمجة أو روابط، وهذا لا يمنح الاختيار صبغة الحسم، لأن الفرجة المسرحية مشاهدة حية تفاعلية يتحكم فيها البصر والبصيرة.
تتويج موسم بكامله محتاج إلى التمحيص والتنقيب حتى لا يقع في بؤرة اختيار الاستنساخ من الاستنساخ، خصوصا نحن في مرحلة غزو سوشيال ميديا التي تفند كل المغلوطات وتمنع كل الخروقات. وتبحث عن التنوع شكلا ومضمونا… ليس ضروريا بالكم والكثرة بل بالكيف والنوع. وإلا ما جاءت عروض المسار الثاني أقوى من المسار الأول…أين يكمن موطن ضعفها؟؟ النص أم الاخراج؟ أم التشخيص؟ أو المنظومة بأكملها؟؟؟
لابد للهيئة أن تعيد قراراتها، وتعيد العمل بلجن محلية مع إضافة عضو عربي وبحضور عضو مجلس أمانتها بذات البلد، لمتابعة حصاد مسرحي يساعد على اختيار العرض الذي استطاع فرض قوته من مشاهدة ومواكبة اعلامية وقراءة نقدية. لأن جائزة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي تعتبر ختما لعلامة الجودة، لا تمنح إلا للعمل الذي استوفى شروط اللوائح الفنية والمواصفات الإبداعية المعتمدة. وهذا ما يضاعف حجم المسؤولية للجميع لتقديم عروض ترقى بالمسرح، ولا تكتفي به كاستمتاع و انبهار بل كصناعة التفاعل بين الملتقي والعرض وتفلح أن تجعل منه فضاء شاسعا للنقاش والجدال والتحليل والاستيعاب والفائدة.
وإذا الواقع الحالي فرض علينا ـ اكراها ـ بتدني مستوى الانتاج المسرحي، حان الأوان أن تتغير ملامح الجائزة، فعوض أن تمنح لعرض واحد جاهز، تقوم الهيئة بإنتاج عروض من خلال فتح باب المناقصة أمام الفرق. تطرح هذه المناقصة موضوعا/ نصا/ تيمة يكون شعار الدورة أو تلجأ لنصوصها الفائزة (بمسابقة النص) وتوزعها جغرافيا، بما فيها المهجر، ويكون المهرجان معرضا كبيرا/ حلبة واسعة لتقديم المنتوج/ العرض. لأن المفروض الهيئة هي المصدر وليس المصب.
وأمام هذا الزخم والتنوع الذي سيحصد، سيسيل مداد النقد وتفتح حلقات النقاش الموضوعية ويخلق حالة شد وجذب بين مكونات المسرحية، سواء أكانوا صناع العرض أم المتلقي، للوصول إلى حوار غني وهادف. وهذا ما يحليني إلى النقطة الموالية وهي الندوة النقدية التطبيقية.
الاستوديو التحليلي…حرية مخنوقة وصوت مبحوح
استحدثت الهيئة العربية للمسرح هذه الدورة، صيغة جديدة للندوات التطبيقية الخاصة بتحليل عروض المسار الاول المتنافسة على الجائزة السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بخلقها برنامج يحمل اسم “الاستوديو التحليلي” ( عروض مسرحية تحت المجهر) بتسيير من مقدم / مسير وبحضور شخص أو اثنين من العرض (مخرج، مؤلف، ممثل/ة) بتقديم قراءة نقدية انيطت للناقدين (إلا عرض الاردني كان بناقد واحد فقط)، ممن اختارتهم الهيئة هذه الدورة ضمن مجموعة من المسرحيين الذين زودتهم بالتسجيل الكامل للعروض قبل ثلاثة اسابيع من انطلاق المهرجان، ليعد كل ناقد عدته النقدية ويقدم رؤيته في ذلك في ذات ليلة العرض. مع الاستفادة من تقنية استرجاع مشاهد العرض. وحسب تتبعي للحلقات أن الفرصة النقد منحت للمسرحيين، مع مختلف انتماءاتهم، وكان للمخرجين حصة الأسد مقارنة بالنقاد والباحثين، مع تواجد لسينوغرافي واحد وكريوكرافي واحد، مقابل إقصاء المتلقي/ الجمهور.
المسرح كان ولا زال وسيبقى فرجة شعبية حية يمثل المتلقي ضلع متوازي لمثلت المنظومة، الاستوديو التحليلي يصلح لمباراة القدم وليس لمواكبة فرجوية حية، هناك من النقاد من بقي وفيا لما جاء في ورقته التي انجزها على ضوء مشاهدة وسائطية (قرص/ رابط) دونما إضافة لما شاهده مباشرة على العرض. وتواجد ناقدان لا يقوم مقام النقاش والجدال الذي يأتي من استفسار وأسئلة الجمهور. هذا الأخير الذي يتكون من فعاليات متنوعة ومختلفة صنعت له هذه الفرجة. فكيف سنربي جيلا جديدا يستلم المشعل إذ فرضنا عليه أن يبقى مستهلكا لا غير؟
غياب الارتياح وظهور التشنج كانا قاسما مشتركا هيمن على الاجواء العامة، حيث هناك نقاد ممن استضافهم الاستوديو سجلوا تحفظهم على الطريقة الجديدة، حيث لم تسنح لهم الفرصة حتى لقراءة ما جادت به قريحتهم، وقننت بأسئلة ضمن حيز زمني ضئيل جدا، إضافة إلى إحساسهم بالفتور في غياب الحرارة التي كانت تتوالد مع تيار المد والجزر المعمول به عادة، بل تحدد الحضور في قالب أسئلة لأسئلة. حتى صناع العرض لم تكن لهم فرصة التوضيح والتعليل، مما جعل باقي العروض لا يحضرها إلا شخص واحد فقط، فهناك قاعدة فرضت نفسها ولا يمكن لنا تغافلها أو نهملها وهي أن للعرض أربع قراءات: قراءة النص/ الكتابة، قراءة الدرامية/ الإخراج، قراءة النقدية، قراءة التلقي. وإلا سيكون كمن “نثر بذور ثماره في اليم وينتظر الحصاد”. مما يفضي أن هاته الفكرة (الاستوديو …) تحتاج إلى البحث والتطوير أو تضع موضع الندوات التطبيقية الصباحية.
الندوة الفكرية…. أفسحوا فضاءها
بمشاركة 136 باحثا وفنانا، نظم على مدار ثمانية أيام (11 ـ 18 يناير 2024) مؤتمر فكري موسوم ب:”المسرح في الوطن العربي, الآن وهنا/ مساءلة المسارات والتحولات والأصداء”، توزعت برمجته على الشكل التالي:
من 11 إلى 15: خمسة ايام تشكلت من 17 جلسة ب17 بمحور
يوم 14: الندوة المحكمة للمسابقة العربية للبحث العلمي المسرحي/ في رحاب كلية الفنون ـ جامعة بغداد.
يوم 16: خصصت للكٌتاب إصدارات الهيئة العربية للمسرح
يوم 17: مائدة مستديرة “المسرح العراقي في المهجر التأثير والأثر”، الذي سجل إقصاء التجربة النسائية العراقية.
يوم 18: ختام المؤتمر (تقديم تقارير الجلسات السابقة
امام هذا الزخم والمواضيع الدسمة الا ان المؤتمر افتقر الى حسن التخطيط الذي خلق نوعا من الارتجال، ويتجلى ذلك في اختيار الزمان والمكان اللذين لم يخدما الفعالية. بخصوص الوقت/ الموعد الفترة الصباحية وطيلة أيام المهرجان وهذا ظهر جليا في المواكبة/ الحضور الذي كان يقل يوما تلو الآخر، بسب الفتور تارة وعزوف مواصلة لبعض المشاركين الذين اكتفوا بتقديم مداخلاتهم، دونما أن يحضروا للاطلاع على ما جاء في باقي المداخلات. أما المكان فكان إقامة المهرجان وهذا تحجيم للانتشار ولم يبارح المؤتمر فضاءه الضيق ولا متابعة الكبيرة.
وعليه نقترح أن ينعقد المؤتمر الفكري مستقبلا بأكاديمية الفنون/ معهد فنون مسرحية، في إطار خلق شراكة علمية بين الهيئة ووزارة التعليم العالي، بحيث يبرمج أسبوع المؤتمر ضمن البرنامج المعد للدراسة تحت طائلة أسبوع نظري مفتوح. بحضور جميع الطلبة بمختلف مستوياتهم وتوجهاتهم، لان هاته الشريحة هي التي ستستفيد وتتفاعل مع ما جاء في المحاور والتعرف على باحثين عرب على كثب وفرصة للاطلاع على مدارس مسرحية جديدة من خلال الطرح والتحليل والمناقشة. حينها سيبقى للمؤتمر ملامح الدرس المسرحي ذي اتجاهات متعددة ونتائج حميدة.