مديات التقنيات البصرية في المسرح وتحولاتها الخلاقة .
بقلم : يوسف الحمدان
سوف لن يهدأ هذا الجيل ، جيل الإصبع ، جيل الصورة بشتى أشكالها وأنواعها وتقنياتها البصرية والرقمية ، قبل أن يرى الكائنات البشرية واللابشرية أشبه ببيادق ودمى البلي ستيشن وهي تتحول إلى لعبة ، هو يحركها ويتسلى بها ، فهذه أقصى غاية متعته وسعادته ، وربما تنسحب هذه المتعة والسعادة على محاولته الحثيثة والمستميتة في تحويل فعل المسرح الحي المؤثر في الآخر إلى كائن مستلب تماما من روحه ، يخضع لمزاجه الخاص ورغبته العارمة في اللعب والتسلية .
إنها هيمنة الصورة وطغيان تقنياتها البصرية والرقمية ، بما فيها وسائط التلفزيون والسينما والملتميديا ووسائل التواصل الاجتماعي والغرافيك والفوتو شوب وكل المعطيات الرقمية النووية الهائلة ، إذ كل المؤشرات توميء أو تشير بأن الكائن البشري سيتحول رقما في ترس الماكينة المعلوماتية التكنولوجية الضخمة الهائلة ، فبقدر رغبة هذا الكائن العارمة في السيطرة على هذه الآلة الجهنمية الضخمة ، بالقدر نفسه وأضعافه هي رغبة هذه الآلة على تحويل كل اهتمامات هذا الكائن نحوها ، بحيث يصبح أسيرا لمغرياتها ومغوياتها السريعة النووية التحول والتغير والتأثير .
وإذا وقفنا على التلفزيون والسينما بوصفهما فنين أو وسيطين هما نتاج أو صنو هذه التقنيات البصرية ، فكيف يكون الحال عليه في فن المسرح بوصفه فنا حيا ، رأس ماله الحقيقي والفعلي الممثل وأفضية العرض بشتى أنواعها وأشكالها ؟ كيف يستطيع هذا الفن الحي أن يستثمر هذه التقنيات ويوظفها في عروضه دون أن تلغي أو تهمش كيانه بوصفه واحدا من أهم الفنون وأقدمها تأثيرا وتواصلا مع المجتمع ؟
طبعا لم يكن المسرح بمعزل تام عن استثمار وتوظيف مثل هذه التقنيات في عروضه المسرحية ، ولعل بداية التحديات كانت مع الرسام والنحات الإيطالي ليوناردو دافنشي الذي سبقت اكتشافاته اختراع التلفزيون والسينما ، وذلك عام 1518 عندما أوجد حلولا تقنية لأوبرا أسطورة أورفيوس ، وذلك من خلال تصميمه خشبة مسرح ميكنية تستوعب وتحرك مختلف المناظر المعقدة المتعددة في الأوبرا وتغير مستوياتها من خلال مصعد يرفع من تحت الخشبة إلى أعلى ليشكل بذلك قببا وكنائس وجبال .
وهنا نلحظ أن التقنيات البصرية قد تأسست وتشكلت في البدء في المسرح ، وكانت هي الإرهاص الأول لاكتشاف التلفزيون والسينما فيما بعد ، وكانت المحفز الأول أيضا لبزوغ فجر المسرح التسجيلي على يد الكاتب المسرحي والرسام الألماني بيتر فايس ، الذي ولد في برلين واستقر في السويد وبدأ نشاطه مع المسرح التسجيلي الوثائقي عام 1945 ، مع الحرب العالمية الثانية ، ويعتمد مسرحه على تقارير حقيقية وعلى الوثائق الصحفية التي تخاطب الطبقة العاملة , وذلك من خلال رؤية عصرية باستعمال الحيل الدرامية ومن بينها الوثيقة المصورة ، وكانت مسرحية ( مارا صاد ) أو ( عذابات موكنبوت ) من أشهر مسرحياته والتي نالت حظا وافرا لدى أشهر وأهم الكتاب العرب والمخرجين أيضا ، ومن بين الكتاب الذين قدموها برؤية تلتئم وواقعنا العربي الراحل سعد الله ونوس والتي أطلق عليها ( رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة ) اما المخرجون فهم كثر ومن بينهم المخرج المصري سناء شافع .
ولنا أن نشير إلى تجربة خليجية عربية تأثرت بالاتجاه التسجيلي الوثائقي لبيتر فايس ، وإن منحت مضمونها بعدا فنيا جماليا مختلفا ، وأعني بها تجربة الناقد والكاتب الكويتي الدكتور علي العنزي في نصه ( أسفار الموت والمقاومة ) وهي واحدة من النصوص المسرحية التي استوقفتني لأهميتها الوثائقية أولا ، خاصة وأنها تناولت قضية عشناها وشغلتنا وأرقتنا خليجيا وعربيا ، وثانيا لأن مؤلفها العنزي تمكن وبجرأة غير عادية ، أن يتناول مثل هذا النوع من القضايا الصعبة والإشكالية التي تتكيء على الوثيقة والمستند الواقعي والتشريعي اللذين لا مناص لهما من التورط في الحالة التقريرية والسردية والمباشرة في كثير من الأحيان ، أن يتناوله في إطار مسرحي فني ، لم يبرع في التميز فيه إلا القلة من الكتاب ، وخاصة الكتاب الذين اشتغلوا في الحقل السياسي بشتى صنوفه الفكرية والأيديولوجية ، من أمثال آرفين بيسكاتور وبرتولد بريخت وبيتر فايس وإن شذ عنهم برؤيته البصرية التجريبية للوثيقة الحية .
ولعل أهم ما في هذا النص الوثائقي ، هو تناول الكاتب العنزي أحداثه الوثائقية والتاريخية في أسفار عنونها برحلة محنة الكويت ومقاومة أهلها إبان الغزو العراقي على الكويت ، واختزال هذه الأحداث في محاكمات معضدة بالأدلة والمستندات والضحايا والشهود والسلايدات والأفلام التي توازي حالات الاعتراف وتسلط الضوء على تاريخ الواقعة ، بجانب محاولته إشراك الجمهور في المحاكمات .
ومن بعد بيتر فايس كمؤسس للمسرح التسجيلي ، يأتي وبجرأة أكبر على استثمار وتوظيف هذه التقنيات المخرج الألماني أرفين بيسكاتور ، الذي اعتمد في عروضه الوثائقية السياسية على العناصر البصرية ، ومن بينها الأفلام الصامتة ، وهي صور منعكسة على شاشات كبيرة للحصول على مصداقية الفعل لتحريك المتفرج وتفعيل الموقف النقدي من خلال تكييف المسرح لمطابقته للبيئة ، ومن ثم تبعه مجموعة من المسرحيين المعاصرين مثل “آن ديفاريه سميث” و “ساره جونز” و “نيلاجا صن” و “بروك هايكوك” وغيرهم من مسرحيين اعتمدوا على تقنيات التوثيق الحديثة من خلال استخدام “الإنترنت” و “المالتيميديا” و “الإسقاط الضوئى” لخدمة هدف المسرح الوثائقى .
ألا أن المنعطف الحقيقي والذي تمكن من أن يحدث ثورة في مجال هذه التقنيات البصرية كان مع المخرج الأمريكي روبرت ويلسون ، وهو مصمم مسرحي وكاتب وممثل ومخرج لمسرحيات ما بعد الحداثة كما أن له رسوماً ومطبوعات وأفلام، ومنذ عام 1960 قدم أشكالاً من الدراما الإنسانية الذاتية ، وتتميز أعماله بالإستاتيكية الصورية والخطوات البطيئة، والتناقض في مسرحه هو الأساس ، ويرتبط ذلك بفكرة التفكيك والتناقض ، كما أن الفعل الذي تقوم عليه أي مسرحية من مسرحياته يتشكل وينحل ويتداخل مع أشياء أخرى ويتشظى ويعاد تشـكيله .
إن روبرت ويلسون تمكن من استضافة الغرائبي والسيريالي والملحمي والتشكيلي والنحتي والتلفزيوني والسينمائي في أعماله المسرحية ، وقد سخر لإنجاز أعماله المسرحية فريق كبير من أمهر التقنين في مختلف التقنيات البصرية والميكنية التي تتطلبها عروضه المسرحية التي يطغى فيها الجانب البصري على كل المفردات الأخرى فيها .
ولشدة هوس روبرت ويلسون بالتقنيات البصرية ، فإنه يقوم بتصميم وإعداد الصور والرسوم والأفلام والميزانسين قبل تدريب الممثلين وقراءة النص واختبار فضاء العرض ، فمثل هذه المهمة يعتبرها ويلسون مسألة تنظيم معماري في الزمن والفضاء ، إنه الأداء على أسس الرقص دون الاكتراث أو الاهتمام بالبناء الأدبي للنص ، فالقيمة البصرية بالنسبة له أكثر أهمية من القيمة الأدبية .
وقد اعتاد ويلسون دائما أن يبتكر شكلاً متميزا غير مألوف للعرض ، ففي مسرحية ماكنة هاملت لهنري ميللر القصيرة، كان المؤلف قد خطط للعرض كي لا يتجاوز 15 دقيقة، لكن العرض في معالجة ولسون استغرق ساعتين ونصف، حيث وزع حوار المسرحية على الممثلين بشكل عشوائي، مما أعطى للعرض طابعاً سريالياً صرفاً ، كما فسح المجال واسعا للصورة والفيلم والموسيقى .
ومن أهم أعماله مسرحية 1914 عن أحداث حدثت في براغ على خشبة المسرح الوطني إبان الحرب العالمية الأولى ، وهي مستوحاة من رواية ( جندي تشيكي شجاع ) لمؤلفها ياسولاف هاسي كتبها عام 1921ومسرحية الأيام الأخيرة للبشرية التي كتبها كار كراوس بعد الحرب العالمية .
أما في عروض ريتشارد ششنر وهو أحد أهم مخرجي مسرح ما بعد الحداثة الذي اشتغل على تفكيك النصوص ومعارضتها بالرؤى البصرية المتعارضة والأحداث المتناقضة بغية الإيحاء باللامعنى ، وذلك عبر كولاج بصري يتخطى السائد والمألوف في معالجة التقنيات البصرية ، الأمر الذي يمنح العرض أبعادا تأويلية قائمة على استفزاز ونقض المتوقع .
ويعد المخرج التونسي المبدع توفيق الجبالي أحد أهم من اشتغل على اللا مستقر والمستفز للمتوقع في عروضه المسرحية التي أسست لرؤية بصرية مغايرة لها معطياتها وشروطها الخاصة بها .
ففي عرضه ( المجنون ) نلحظ كيف تتحول كل مفردات وعناصر الخلق المسرحي، من صوت ولون وتشكيل ونحت ورقص وسمهجات وهلوسات وحكايات وموسيقى وذبذبات ووشوشات وتجليات صوفية مهووسة بالذي لن يأتي ولن يستقر، تتحول إلى صورة حية تختزل كون جبران وتضعه في محور فلكي يشبه درب التبانة، حيث لا تميز الضوء عن السديم، ولا حركية الكون عن ثبات محورها وتفلته.
إن اشتغالات واشتعالات الجبالي المخبرية القلقة في المسرح، غالبا ما تقترح على مؤديها ومتلقيها لغة هي من (الجنون) الذي لا يأبه بالتوصيف أو التصنيف، ولا يأبه بالتوضيح أو الغامض والمبهم.
هي لغة ليست في وارد التعاطي مع المسرح بوصفه فعل ممثل وفضاء للتمثيل أو التمسرح، إنما هي لغة اشتباكية مع الأحياء والأشياء، مع النقائض والمتضادات، مع المخفي بوصفه أكثر (جُنًا) من المخفي ذاته، مع الوهم بوصفه حلما، ومع العذابات بوصفها مسارات لا حدود لانتهائها ولا ملامح لأسرار منابعها.
إنه يلج بنا إلى ذرى أمواج يصعب علينا تخطف ُطشارها الزبدي، وإلى استقصاءات مخبرية تتجاوز حصرها في البحث الجسدي السائد، إذ كل الحالات في (مجنونه) الخلاق المتفلت، هي في كل حالة منها استقصاء مخبري، ففي الوقت الذي ترعف فيه أجساد ودواخل خيوله الحرة، بما يعتمل بها من قلق ومحاولة للهروب نحو الفضاء الأكثر تحررا، في الوقت ذاته يكشف لنا ليلها الخلاق عن مبهمات لكائنات يكتسيها ظلام مريب وملبس، وكما لو أن هذه الحيوات المبهمة ظلالات تحيا في جوانح كمائن هذه الأجساد (الخيول)، وهذا الظلام المتعدد الحيوات والمبهمات والأوهام والدروب الغرائبية المريبة.
إن الجبالي لا يعنيه أن يكون الممثل في (مجنونه) و(جنونه) محورًا كي يتحقق العرض، ولا تعنيه التماثلات المرتبة كي تتحقق النتائجية والتماثلية البصرية والصوتية في العرض، يعنيه أن يكون المسرح وإن لم يكن الفضاء، تعنيه الحالة التي من شأنها أن تنتج حياة في المسرح وإن لم تكن حية بالمعنى البيولوجي أو المادي، تعنيه اشتباكات الأزمنة النفسية والميتافيزيقية في حيزها الأكثر مواربة وقلقا وحيرة.
لذا حتى لو كانت الأصوات المسجلة والوشوشات والذبذبات وحدها تتملك فضاء العرض أو فضاء الجنون، فمن شأنها أن تنتج وتشكل عرضها وأفقها. كل الأجساد في هلوسات الشاعر المجنون (جبران والجبالي)، صورًا حية، تتآخى وتتقاطع مع كل الكائنات الأخرى في العرض، كما أنها صور تتمنتج في الآن ذاته ويخبو وهجها في الآن ذاته أيضا، ويظل بحثك عنها، هو بحثك عن الصور التي ضلت طريقها في مخيلتك البصرية.
وتظل تبحث وتبحث، تصعد وتهبط، وكما لو أنك سيزيف الجنون الكوني الذي أومضه الجبالي في لحظة صورية بصرية هائلة الضوء والعتمة والريبة، لتبدو أمامه متكأ الأثر الأول لقدم الصعود نحو سلم العذابات الكوني، ونحو أمل يأخذنا نحو الصعود إلى الهاوية.
يستحضر (جنون) الجبالي سيزيف كوننا المضني في لحظة برقية مؤثرة، ليظل في كل وهلة ماثلا بقوة في دواخلنا، ولتتشكل من بين محيط عتمته (التبانية)، أفضية صورية تتجلى في نثار ضوء هنا يخطف أعيننا نحوه للحظات ومن ثم يخبو، لتتشكل معه مواويل حزن تأتي من بعيد قاع ذاكرتنا ومخيلتنا، لتستقر في ذاكرة ومخيلة حضرت اللحظة وتجاوزتنا إلى لحظات غريبة ظلت تشاغب أوهامنا وستظل حتى قاع أخرى أشد شراسة وفتكا لتكهناتنا بمصيرها ومصيرنا.
هو الليل، هو الظلام، هو سحر اللون، هو منبلج الخلق والكون والصورة، هو الصوت المبتدى واللامنتهى، هو نحن والآخر وما بعد الآخر، هو شاشة المسرح والفيلم والوهم والحلم، هو ورطة لعبة ( البازل) التركيبية والمركبة التي اختزل فيها (جنون) الجبالي رؤية أخرى جديدة لبورتريه جبران خليل جبران، ليتماهى في حيزها غير المكتمل (المجنون) و(الجنون)، ولينتج من خلالها الجبالي أفقا جديدا وخلاقا وساحرا في عالمنا المسرحي بكونيته المنفتحة على رؤى نحلم يوما أن نحقق شظايا صورة منها .
وهنا نلحظ قدرة هؤلاء المخرجين على استثمار مثل هذه التقنيات لمعطيات وفضاءات المسرح وليس العكس ، بمعنى أن تصبح ه…