من يلامس هوس وأحلام تلك الشخصيات المفعمة بحلم التغيير والتى تتوق لعبور الرصيف للحاق بالبناية البيضاء على الجانب الأخر حتما سيكتشف الحقيقية المرة لهذة المجموعة التى دهستها الحياة وأضنتها الظروف المعقدة والحروب الشرسة فأصبحوا معلقين هناك عند رصيف لا تتبدل إشاراته , تعلو وجوههم وملابسهم البالية أتربة الزمن , كل منهم ينشد العبور للجانب الأخر الذى يمثل الحياة فهو المشفى وبيت الحبيبة ودائرة البريد ودائرة التجنيد وبيت الله , والأمر كله يبدو كحلم مزعج لشخصيات غادرتها الابتسامة والتصالح ولم تعطها أى فرصة للنجاة من الموقف الصعب , بنية النص هنا لا تعد المتلقى بتغييرمنتظر أو حلول حتمية أو حتى محتملة وإنما فقط تقف عند عتبات وقناعات تكوين ثابتة تدور فى نفس الأفلاك البنائية , والمؤلف على عبد النبى الزيدى يدعم شخوصه وحواراته التى بدأ بها المسرحية بنماذج جديدة تقف عند نفس المعانى والعتبات النفسية والمجتمعية القاسية , فبدا الأمروكأن توسيع الدائرة بدخول شخصيات جديدة للمشهد المسرحى الثابت لا يعنى الا تكرار نفس المآساة مع نماذج أخرى تعطلت عند نفس الرصيف وقابلت نفس المآسى ولو بصيغ مختلفة , وسواء كان السبب فى ذلك آثر الحرب أم الهزيمة النفسية أم الاجتماعية فالنتيجة واحدة والمصير واحد فلا فكاك من تلك الأزمات التى تلاحق هؤلاء الذين أهملوا لحد النسيان , والتيمات المتضمنة لهذا التناول ترمى إلى تكرار المواقف والأحداث نفسها كلما أتيحت الفرصة لهؤلاء المهزومين المنتظرين عند رصيف اللا جدوى .
نص العرض مأخوذ بتصرف دراماتورجى من قبل المؤلف عن المسرحية التى كان قد فاز بها فى مسابقة النصوص القصيرة فى تجريبى القاهرة العام قبل الماضى وكانت باسم “الملائكة أيضا يخرجون ليلا على باب الله” النص الأول يعتمد فى طرح فكرته على ثلاثة شخصيات فقط هم (وحيد وسعيد وحميد) وللأمانة التناول الجديد للحدث الدرامى لنفس الأفكار والتيمات من قبل المؤلف عظم من أهمية الموضوع الدرامى ودفعه بقوة للأمام فمسألة عودة الكاتب لنفس النص والتدخل فيه مجددا عادة ما يفيد التناول ويعطيه أهمية أكبر وتلك مسألة أظنها مجدية تماما أثناء التمارين التى تسبق العرض المسرحى ؛ فتدخل فريق العمل بالرأى فى التيمات المتضمنة وعنوان المسرحية بالنقاش وتبادل الرأى يفتح أفاق جديدة ويسمح بتعميق الفكرة وطرق تطوير تيماتها وأفكارها البنائية
هنا وفى هذا التكوين التغريبى شديد القتامة وقبل نهاية العرض المسرحى (صفصاف) الذى قدمته دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل فى بغداد ضمن عروض مهرجان المسرح العربى فى دورته الرابعة عشر والذى كتبه وأخرجه المؤلف العراقى (على عبدالنبى الزيدى) تدخل الشخصيات التائهة فى بوح يكشف لنا كثيرمن عبثية المواقف والأحداث المتناولة داخل نسيج اللعبة الدرامية المتوقعة , يبدأ ذلك البوح بمشهد يجمع كل من (وحيد وسعيد وحميد وصبرية) إذ يقول لهم وحيد: ما رأيكم أن نخبر عنيد بالحقيقة نقول له بأنك لا ترى بيت الله أبدا , فأنت أعمى أصلا بعد أن خرجت من بطن أمك هكذا , ذلك الأمر يتكرر بالتبعية مع بقية الشخصيات فسعيد توفيت زوجته (جميلة) منذ أربعين عاما وهو ما زال ينتظر خروجها من المستشفى على نفس الرصيف , ووحيد تزوجت حبيبته منذ أربعين عاما وأنجبت الكثير من الأولاد والبنات وهاجرت منذ زمن بعيد , وصبرية تكتب رسائل عشق لزوجها الذى يعيش معها فى نفس المنزل ولكنهما منعزلان عن بعضهما البعض , وحميد قتل فى الحرب منذ أربعين عاما بعد أن تخرج من كلية الاداب قسم الفلسفة , فذلك حوار كاشف لما تعيشه تلك الذوات شبة المنعزلة من هوس وجنون وأزمة وجود فتلك الشخصيات التى أنهكتها الحياة متوقفة تماما عند أزمتها النفسية منذ زمن طويل وغابت عن الراهن بكل ملابساته الحلوة والمرة , نراهم يهيمون فى عالم غير حقيقى وإن بدا من سطح الحوار المتبادل غير ذلك , وتلك طريقة بنائية يعتمدها المؤلف بدمج أكثر من فلسفة كتابة فى تناول واحد يجمعهم , وصدمة كل شخصية ومصيبتها الخاصة كانت كفيلة بتعطل المستقبل والغوص فى الأحزان والعزلة وانتظار لحظة خلاص لن تأتى أبدا , يدخل هؤلاء معا فى حوارات عبثية بائسة لا تحرك الحدث وإنما تعيد تكوينه وفق نفس الهزائم والأفكارعن الآخر والحياة والهموم المتوارثة والرغبة فى النجاة وما يمكن أن يعتريهم من رغبة عارمة لتغيير الموقف المتأزم ولو بالإقدام على الإنتحار كوسيلة أخيرة للخلاص , فى كل مرة ومع دخول شخصيات جديدة للحدث الدرامى بعد المشهد الافتتاحى الذى يجمع (وحيد وسعيد) تتكرر المأساة ويتكرر نفس الموقف فى انتظار تبدل إشارة المرور لشخصيات غيبتها الحرب والظروف القاسية فتعطلت عندها عجلة الحياة وأصبحوا يعيشون فى دوائرعبثية لا فكاك منها , فقط تدخل تلك المجموعة فى صراعات وهمية عن احتلال الرصيف والرغبة العارمة فى عبور الشارع رغم الإشارة الخضراء التى تسمح فقط بعبور السيارات المسرعة , أو أنهم يتجاذبون أطراف الحديث عن خيبة كل منهم وإنسحاقه , صحيح لكل واحد من هذة المجموعة من الناس حلم مختلف ورغبة مغايرة إلا إنهم جميعا معطلين منذ زمن طويل حتى أن (سعيد) يصرح بأن أبيه وجده كانوا يعيشون نفس المأساة المتكررة فذاك مجتمع منعزل ومهزوم حتى لو انتصر جنوده فى المعركة , وبالمناسبة الكاتب فى ذلك النص لم يسمى حرب بعينها كى نقف عند نتائجها وهو الأمر نفسه الذى نقابله فى نصوصه التى قدم ثلاثة منها فى عرض واحد بالقاهرة العام الماضى من خلال فرقة مسرح الغد تحت اسم “بعد آخر رصاصة” وكان موضوع المسرحية يمر بتيمات قريبة من موضوع مسرحية (صفصاف) ولو بطرق تناول مختلفة يعتمد بعضها على بنى منطقية ومحتملة , والأثر المزرى للحرب هو المحور الأساسى الذى يشكل عالم الكاتب فيدفع لنا بشخوص تقف على عتبات الحدث المهول , تجدهم معطلين لا يستجيبون للمتغير سواء الزمنى أم الاجتماعى والسياسى , وقد تقدم مآسيهم بشكل منطقى من خلال الأطر الخارجية للحدث الدرامى ولكن البنى الداخلية مفعمة بكل ما هو عبثى ومأساوى , من يراجع بعض الحوارات الدالة سيجد أنه أمام بعض الشخصيات الميتة وشخصيات أخرى يمكن أن تعود للحياة فتموت من جديد عند نفس المعانى والأفكار والتصرفات .
عند مراجعتى للكتابات الصحفية التى تناولت مسرحية “ميت مات” لنفس المؤلف المخرج وجدت نفس النتائج تقريبا من حيث تراكيب الشخصيات والمعانى والحياة التى غادرت هؤلاء الذين يعيشون أزمة وجود فأصبحوا معطلين عند نفس النواصى والحكايات المتضمنة فذاك عالم لم يستطع التعاطى مع المآسى المحيطة ومن ثم منطقى جدا أن تبقى شخصياته معلقة بين الأزمنة والأزمات وترجو نفس المعانى والنتائج .
فى عرض (صفصاف) سنجد أن المؤلف المخرج أراد أن يصل مشاهدوا الحدث الدرامى لنتائج مرضية عن تكرار الحكايات والأفعال والأزمنة من خلال بعض العناصر الجمالية المجاورة كالحركات والصراعات والصوتيات المكررة على الرصيف الضيق كقطار العمر الذى يرحل بالحكايات نفسها فترحل معه سنوات من عمر ذلك الوطن المهزوم, وأغانى الأفراح وإبتهالات المشيعين للجنازات المتوالية , وشريط الصوت بهذة الكيفية ما هو إلا ترديد بلون مختلف لنفس المآسى والحكايات البائسة عن الأفراح والأموات ومرور الزمن , ومع انغماس الشخصيات الدرامية فى مآسيهم الخاصة ورهاناتهم الخاسرة عليك كمتلقى أن تكتشف الحقيقة وأبعادها الدرامية والفلسفية
وبما أن السينوغرافيا تمثل شفرة مهمة من شفرات العرض فى تقديم أفكاره فإننا بالنظر إلى مكوناتها الدالة التى صممها (على زهير المطيرى) سنجد أن فكرة التكرار إنتقلت من التيمات والشخصيات إلى طبيعة المنظر المسرحى (أرصفة متشابهة – أعمدة إنارة بإشارات خضراء ثابتة – أزياء ترابية كالحة متشابهة التكوين) مع إضافة دراجة هوائية لأحدهم وبندقية خشبية لآخر وحمالة ملابس لثالث وخطابات ممزقة لرابع , كل ذلك مع الوضع فى الاعتبار أن الحركة المسرحية ستكون فى حدود ضيقة للغاية عند الرصيف حيث تنتظر تلك المجموعة من الشخصيات تبدل إشارة المرور بفارغ الصبر
وفى النهاية أعتقد ان الاداء التمثيلى الذى قدم فى هذا العرض هو أحد العلامات الإيجابية التى يمكن من خلالها مراقبة مدى جودة تلك التراكيب العجيبة من الشخصيات والاحداث , ولولا الأداء المحنك من قبل مجموعة العمل لبدا الأمر ثقيلا على المتلقى المتابع للعرض المسرحى, وقد اعتمد المؤدون هنا على طرق أدائية تجمع ما هو تقليدى ومنطقى وواقعى بما هو تعبيرى وعبثى وذلك خلط صعب حسب ظنى, فقد كان على كل مؤدى فيهم أن يقدم لنا بسهولة ومنطقية رهان الشخصية الدرامية من أكثر من وجه دون أن يكون هناك فصل فى تصديق الشخصية لما تقوم به من أفعال, فكل منهم متسق مع مأساته الخاصة ولايجد عجبا فيما يقوم به من حوارات وأفعال, كما أنه فى الوقت ذاته لا يرى أى غرابة فيما يراه من حوارات شاردة أو افعال غير منطقية لبقية شخصيات العمل