علاقة المسرح بالسفر تمتد إلى عقود قديمة وقد طبعت عدة تجارب من تلك التي سعت للبحث عن مناهل للفرجة ووجدت بعض هذه التجارب ضالتها في المخزون الثقافي الشرقي هذا الشرق الطافح بعمق الإنسانية وسحرية بداياتها وهو ما طبع تجارب غربية وازنة وأثر في منجزها المسرحي مثل تجربة” أنطونان أرطو” بعد مشاهدته لمسرح الباليني في باريس سنة 1931 أو حضور” برتولد بريشت” لعرض أوبيرا بيكين في موسكو سنة 1935 كذلك نذكر “غروتوفسكي ” الذي سافر للهند وللمكسيك بحثاً عن طقوس أخرى ليستفيد منها في مسرحه الانثربولوجي، كما لا يمكن التغافل عن تجربة “بيتر بروك “من خلال مسرحيته الشهيرة “الماها بارتا ” ذات الاصول الهندية كما يمكن ان نسمي هذا المسرح سفرا في أقاصي الثقافة الإنسانية وبحثاً مطّرداً عن أشكال تعبيرية مختلفة قد تكشف للباحث أسراراً جديدة للوجود والكينونة البشرية.
سنتناول في هذه الورقة النقدية مسرحية قادمة من المغرب الأقصى للمخرج أمين ناسور، وهو واحد من الجيل الجديد من المخرجين الذين بدأوا يشقون طريقهم الإبداعي بمنهج مسرحي محفوف بالمعرفة ومنطلق نحو آفاق مشهدية و فرجوية جديدة، وهو في ذلك لا يلتقي مع مجايليه من المخرجين في المغرب الأقصى على غرار محمد الحرّ – عبد الجبار خمران – أسماء هواري – محمود الشاهدي – بوسلهام ضعيف – و غيرهم و إنّما أيضا مع مجموعة من المخرجين العرب السائرين في نفس الطريق و المنخرطين في نفس السياق و هم الذين يؤثثون المشهد المسرحي العربي في السنوات الأخيرة.
يقوم عرض تكنزة … تودة على مجموعة من المفردات يختلف تأثيرها في بنائه من مفردة إلى أخرى و سنبدأ بالنص الذي جاء مستلهما قصة من التراث و تحديداً من أسطورة متداولة بين قبائل جبال الأطلس الكبير الفاصلة بين سهول الحوز وواحة درعة الخير و مفادها أنَّ سيدة مهووسة بأداء (أحواش) و هو طقس غنائي أمازيغي حدّ الجنون تناديه فيناديها فيلتئمان روحاً واحدة تصدع أنغاماً في ساحة أسايس
و معنى هذه الكلمة ساحة الفرجة ….
لا أحواش يستقيم بدونها و لا هي ينضبط نبض حياتها بدونه لكن زوجها لم يكن راضياً على سلوكها هذا ورفضه، فسجنها ذات ليلة في غرفة مظلمة صغيرة بنافذة صغيرة لا يكاد يتسرب منها و إليها إلا مقدار يسير من الهواء و صادف في ليلة أن أقيم حفل زفاف في قرية بعيدة فصدحت أنغام أحواش وتسللت إلى غرفة رقية/ إلى سجنها فكانت ترد عليهم حتى وصل صوتها إلى ساحة أسايس فأدهشتهم وأثارت مشاعرهم فهبوا إليها أفواجاً و تحلقوا حول البيت و تقف الأسطورة هناك حسب ما جاء في تقديم أصحاب العرض فهل حرّروها أم استمتعوا فقط بنغمها و غادروا ؟ هكذا تساءل أصحاب النص في تقديمهم لعملهم.
مسرحية (تكنزة) قصة تودة لن تعيد تقديم الأسطورة على طرافتها و عمقها و إنَّما ستقفز بعدها لتتناول وضع المرأة في سياق آخر سياق تودة التي لم ترضَ بواقعها تحت سطوة الأدب و غطرسة الأخ بل ستفكّ أغلالها بيدها و تقرّر مصيرها بنفسها فتقصد المدينة لتحتمي بالعلم في الجامعة وتشرع ذراعيها لنسيم الحب وتتحول تودة إلى مساحة رمزية للمرأة الرافضة لأغلال الماضي و الباحثة عن إثبات كيانها و تأكيد حتميّة وجودها إلى جانب الرجل و كونها مرتبطة بالموسيقى على نحو ما شأنها في ذلك شأن والدتها مع توفر الطقوس الموسيقية التي تدور فيها المسرحية فهذا أيضاً يحيلنا إلى المرأة الفنانة أو المشتغلة بالفن و نظرة المجتمع البائسة لها و هذا ما يجسده موقف الأب من الأم عندما يجدها تصدع بالغناء فيسجنها و يضاهيه في ذلك موقف الأخ علي عندما يجد تودة تغني في المقبرة أما إبداء الندم من قبل الشخصيتين في آخر النص فليس إلا رغبة أصحاب النص و انسياقهم الرومنسي نحو النهايات السعيدة هذا النص الذي تؤثثه شخصيات حاضرة و أخرى غائبة فمن ناحية نجد شخصية تودة، وهي الشخصية المفصلية التي تحرك الأحداث وتتحرك الأحداث حولها في علاقة صدامية مع أبيها بوجمعة وأخيها علي وهو صدام قائم على اختلاف جوهري في التصورات والمعتقدات ففي حين يكبّل واقع القرية بنواميسه وقوانينه الخرافية الأب والأخ ويضعهما في مدار اجتماعي وسيكولوجي مغلق بينما تنشد هي الانعتاق من ذاك الواقع وتبحث عن خلاصها مستبطنة انتقامها لمأساة أمها .
وفي فضاء درامي آخر وهو فضاء المدينة نجد شخصية صوفيا الطالبة التي تتعرف إليها تودة وهي شخصية متدفقة ومتحررة وكذلك شخصية الطالب الغالي والذي سيفتح عيني تودة على الحب أين تكتشف عالماً سحرياً يرشح بعواطف الأنوثة لكنه لن ينسيها الماضي بل يغذي ذاكرتها، ويذكي حماسها لتحقيق هدفها في تحصيل المعرفة لتحصين نفسها والعودة إلى قريتها بروح متحدية .
هذه الشخصيات الحاضرة تقابلها شخصيات غائبة ركحيّا لكنها فاعلة في الأحداث ودافعة لها مثل شخصية الخال وشخصية الأم ولكنّ هذه الشخصيات سواء الحاضرة أو الغائبة تستمد حضورها وحركيتها من الشخصيتين الموكل لهما مهمة الغناء والموسيقى واللذين يتحولان إلى أطياف لشخصيات غائبة وهذا ما يفسر الحضور القوي للموسيقى في هذا العرض بل إنَّ المخرج يتوسلها كمفردة أساسية في مشهديته القائمة على طقوسية تراثية وهذا أمر طبيعي على اعتبار خرافة العرض مستلهمة من أسطورة محورها الموسيقى بل لون موسيقي أمازيغي معلوم *أحواش الذي ترتبط به شخصية رقية وإذا كان المخرج يعتمد تقنية المايبينغ لاستحضار الفضاءات والأمكنة فإنه بالنسبة للموسيقي استعان بعازفين منشدين امرأة ورجل أبليا بلاءً حسناً في إنشاء العرض وتشكّله ومن الواضح أنَّ الاشتغال على الأسطورة والتراث الأمازيغي عند أصحاب العرض قد رافقه بحث في المناخات الموسيقية لم يكتف بالموسيقى الأمازيغية وإنَّما مزج بينهما، وبين ألوان موسيقية أخرى فالموسيقى تكاد تكون لغة العالم فهي قاسم مشترك بين شعوب العالم وفي مسرحية* تكنزة – قصة تودة – تحتل الموسيقى حضوراً قوياً منذ العنوان الذي يحمل عنوان آلة موسيقية وهي آلة البندير ضابطة الإيقاع والماسكة بناصية الميزان ولم يتوسلها العرض على هذا النحو فحسب وإنَّما تحولت إلى موضوع درامي خاصة عندما كسرها بوجمعة فقد كسر إيقاع الحياة وأربك الوجود في محاولة منه لإيقاف الرغبة الجامحة لزوجته في الانعتاق والحلم النابعين من غنائها وعشقها للفن ولأحواش هذا الطقس الموسيقي الذي تتوارثه الأجيال ليذكرها بالأصول والبدايات، والموسيقى في هذا العرض تكاد تكون محراره وسمته فقد رافقته من البداية إلى النهاية، وطبعت مناخاته منذ الاستهلال تعلن عن نفسها كلاعب أساسي في منظومة العرض، ولم تكن وظيفتها ضبط إيقاعه فقط وإنَّما تجاوزت ذلك، وأصبحت روحه وصانعة أحداثه في أحايين كثيرة كما ارتبطت بأداء الممثلين، وسكنت أجسادهم، هؤلاء الممثلون الذين أقاموا علاقة جدلية معها فأصبحت توقع حركاتهم وسكناتهم وتدفع بهم إلى صميم الأحداث .
الموسيقى في هذا العرض ترافق الممثلين وتعلن عن الأحداث وتختمها بل إنَّها تؤثث الفراغ كما تؤثث العتمة التي تقتضيها سياقات الإنارة أثناء العرض. إنَّها العنصر الأساس في تشكيل العرض.
جاء في الجذاذة الفنية المقدمة للعمل وفي إجابة للمخرج بعد طرحه لسؤال لماذا هذه المسرحية ؟
يقول: (إنَّ مسالة استثمار الفرجات التي تزخر بها جهتنا كان ولا زال مشروعاً فنياً يراودنا ونراوده ..لأنَّنا نؤمن أن الانفتاح على هذه الفرجات يستوجب احترام خصوصيات منبتها وأدائها وطقوسها وغيرها من العوامل التي أنشأتها كفرجات محلية) لذلك فإنَّ العرض لم يتوسل فقط المناخات الموسيقية بإيقاعاتها المحلية للسكون في عوالم الجنوب الشرقي للمغرب الأقصى وبالتحديد بمنطقة درعة تفيلالت وإنَّما انسحب هذا التمشي على ملابس الممثلين والموسيقيين ومعلوم أنَّ الملابس تعدّ علامة باذخة لمعاني الشخصية ولهويتها يقول رولان بارت في حوار له في مجلة (الفيقرو الأدبية) لسنة 1965 “لقد أخذ مشروع نظام الأزياء مكانه بالضبط في حياتي مع تحرير خاتمة ميثيولوجيات ، حيث اكتشفت أو اعتقدت أنني أكتشف إمكانية لتحليل محايث لأنظمة علامات أخرى غير اللغة منذ تلك اللحظة كانت لديَّ رغبة في إعادة بناء أحد هذه الأنظمة خطوة بخطوة لغة يتحدث بها الجميع وغير معروفة للجميع وهكذا اخترت الملبس) .هكذا يعلن رولان بارت عن أهمية الملابس كحامل لمجموعة علامات وهو ما يتيح للمخرج المسرحي الاشتغال على ملابس الممثلين وشحنها بالرموز والمعاني التي تساهم في بناء الشخصيّات وتحقق لها غاياتها الدرامية، ومع هذا السياق يتماهى صنّاع عرض (تكنزة قصة تودة) من حيث تصميمهم لملابس الشخصيات فالمشاهد لن يجد عناء كبيراً لفهم إحالاتها فقد صممت على نحو يتيح للممثلين التحرك بحرية ورغم تعدد الألوان إلا أنَّ اللون الأبيض كان الأكثر حضوراً، ومن نافل القول هنا أنَّ اللباس يساعد الممثل على تقمص الشخصية فالممثل قبل أن يقنع جمهوره عليه أن يقتنع هو بالشخصية التي يؤديها وهذا ما يقودنا للحديث عن أداء الممثلين والذي ارتبط بعنصرين أساسيين هما الفضاء والنص، وقد جاء هذا الأخير بسمة سردية غلبت عليه الاستطرادات والمونولوغات، وهذا في اعتقادنا سيجعل الحركة محدودة عند الممثلين ويجعل إيقاع أدائهم مرتهناً للنص المنطوق وحتى مساحة التعبير الكوريغرافي التي وفّرها المخرج للممثلين جاءت محتشمة وظلت في مستويات تعبيرية محدودة لكن ذلك لم يحجب عنا الأداء المقنع للممثلين الذين جاء أداؤهم منسجماً ومتناغماً مع طبيعة العرض.
و من المهم أن نشير في هذه الورقة إلى الفضاء لأنَّه على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لعرض تكنزة … فقد جعل منه المخرج فضاءً متحولاً إذ ينتقل مع الأحداث من مكان إلى آخر فيتحول من واحد إلى متعدّد فمن مقبرة إلى منزل إلى رحاب الجامعة و قد ساعدت تقنية المايبينغ في ذلك على نحو لافت و رغم تعدّد الفضاءات الدرامية فإنّ الفضاء الركحي و الذي أثثته قطع من ديكور متحرك استعمل في كثير من الأحيان كمساحة فارغة و مثل هذه المعالجات السينوغرافية تنّم عن تفاعل واضح مع ما ترشح به الأطروحات المعرفية في المسرح الحديث فمن إدراك لمفاهيم باتريس بافيس للفضاء إلى تمثل أطروحات بيتر بروك و قروتوفيسكي و بريشت مع وعي عالم بمقتضيات المسار الدرامي للعمل في مستوى الخرافة و تحرّك الشخصيات.
إنَّ قراءة النص المجرّد أو الاستماع إلى النص المنطوق يمكن أن يقترح تشكيلات سينوغرافية متنوّعة تراوح بين الواقعية و الفنطازية غير أنَّ هذا العمل لم يختر الاعتماد على ديكور واقعي قد يرفع عن الفضاء سحره و طقسه و يسقطه في مشهدية مجموعة و عقيمة فكثرة الديكورات قد تتحول إلى عنصر معيق و تقلص من مساحة لعب الممثلين و الفضاء أو مجموعة الفضاءات التي يرشح بها النص و يقترحها للتفاعل المشهد تقتضي عنصراً فرجوياً آخر يساهم في صناعة الفرجة و هو الإنارة التي جاءت في هذا العرض كمفردة أساسية في قيامه و سنترك الحديث عنها و عما نسميه بحاصل الفرجة إلى ما بعد مشاهدتنا للعرض بصفة مباشرة.