من مصر أم الدنيا إلى العراق بلاد الرافدين تُعرض مسرحية (البؤساء) لفكتور هوجو؛ لتعبر بنا حدودًا من المجتمع الفرنسى إلى العالم العربى مرورًا بأزمة العالم العربى التى تشكلت على أثرها أزمات اقتصادية جمة كانت أساسًا للحرب والضياع والهزيمة والسقوط.
تستمد التيمة الأساس فى مسرحية (البؤساء) التى عُرضت فى مهرجان المسرح العربى هذه الدورة 2024 فى بغداد، مشروعيتها من مثلث زواياه انبثقت من السجن والجوع والثورة.
انطلق هذا المثلث من ظروف حقيقية تخص المجتمع الفرنسى عام 1815 حيثُ الصراع بين البرجوازية والإقطاع، والرغبة فى الحفاظ على حرمة السلطة الملكية وإعادة تفعيل الميثاق الدستورى؛ وهنا اتخذ فكتور هوجو شخصيته الشهيرة (جان فالجان) ليخرج به من بؤرة البؤس المرتبط بالسلطة والقانون والقسوة والظلم إلى الحرية فى الدفاع عن لقمة الخبز.
ارتبط العرض المسرحى(البؤساء) إخراج محمود جراتسى بشخصية (رغيف الخبز) وليست شخصية جان فلجان الحقيقية؛ حيثُ عبر العرض عن شخصيات دُمى وكأنها شخصيات أساسية تحركها شخصيات حقيقية ولكنها ثانوية، بمعنى أننا أمام بطل فى الأساس اقتصادى هو رغيف الخبز المسروق وليست شخصية جان السارق.
الحديث إذن عن بؤس إنسانى وهم عربى واحد مشترك، وهو الفقر والجوع والعطش والظلام الذى تمتع به الفضاء المسرحى بخلاف الوشاح الأسود الذى ترتديه جميع الشخصيات، والأصوات المهيمنة على الفضاء المسرحى التى تشكو الهم والحزن والغلب الإنسانى من ضياع الحقوق بين القانون وممتلك لقمة العيش.
الفراغ الاقتصادى هنا الذى تركته لقمة العيش عند (جان) جعله إنسانًا متعطشًا للعمل ومتعطشًا للحصول على عمل من أجل هذه اللقمة، ولكن ماضيه وصحيفة سوابقه تظل قوى خفية تذهب معه وتلاحقه أينما ذهب؛ لتصد العالم عن المطالبة مع هذا الشخص بالعمل، فكلما تعاطف معه صاحب المال والعمل، اجتهدت القوى الخفية لتبعد عنه هذا التعاطف، كل هذا يرجع إلى مجموعة من البؤساء تريد العيش فى أمان هذه اللقمة ولكن ثمة قوة خفية تبعد عنها هذه اللقمة عنوة بسبب فكرة الهيمنة على المجتمع العربى.
ولعلَّ الشعور بالأمان الاقتصادى داخل سلطة اقتصادية تهيمن على المجتمع وتسجنه داخل محتواها المادى وأعمدتها المؤسساتية المبنية على (الجوع والفقر والحرمان والبؤس) وجميعهم مفردات لمفهوم عتبة العنوان (البؤساء)، وبالتالى نشعر فى القيام بالثورة لهدم هذه الأعمدة وإقامة أساس واضح من الحرية المطلقة فى الملابس البيضاء وبقعة النور التى تفتح طاقة أمل أمام جان فى ظل القوة المؤسساتية المفرطة والهيمنة على لقمة العيش، وعلى فكر وعقول الجياع، حتى وإن اضطر الأمر إلى قطع الرأس المعرفية لسلبه حفرياته المعرفية وحقوقه وخبراته المترسة فى ذهنه، فعندما تظهر هذه الشخصية النقية تأخذ جان إلى فضاء حر وتشوشر على خطابه المترسخ فى ذهنه أنه سارق وحرامى وتكمل هى خطابًا جديدًا معرفيًا يشكل حياة جديدة، ويقطعها بأنه ((رجل صالح))، ويقطع جان الخطاب بأنه جان فلجان حرامى، ولكن يرد ثوب الحرية بأنه رجل صالح.
وفى الحقيقة أن امتلاك شعب جائع تربة خصبة لانتشار الأمراض المجتمعية من سرقة وجهل وتخلف وبؤس اجتماعى، ومن هنا يتحرك الإبداع فى المسرحة والاقتباس.
يبدأ العرض بخطاب لغوى صامت يحويه ظلام دامس مرتبطًا بفكر اقتصادى تحركه (دمى) خلفها شخصيات تخشى الحياة منفردة دون دمى تحركها، هذه الشخصيات ترتدى الأسود لتشير إلى قمة البؤس والحزن الإنسانى الذى يفصل العالم العربى عن منتوج عمله ويغربه عن واقعه، لنبقى أمام فكرتين أولاً فكرة الحياة واللاحياة، فحياة الدمى هى نفسها حياة الوشاح الأسود تناسلت منها وتداخلت فيها لتكون حالة بؤس منفردة، تداخلت معها الموسيقى الحية التى نتجت من بيئة مصرية خالصة، كما ظهرت لهجة مصرية متعلثمة فى توضيح الخطاب المعرفى على لسان الدمى الأطفال، لتحيا فى بيت الألعاب الذى يتهدم ويتفجر لنواجه أطفالاً بائسة، كل هذا التداخل والتفاوت فى الإنتاج الفكرى المؤسسى يجعلنا أمام حالة خاصة متوترة تجمع بين العربى والغربى.
أمَّا عن منظر السجن والكلام الذى يشير إلى الانكسار والانهزام الذى تصدره السلطة للمحبوس هو نفسه الكلام الذى تصدره القوى الخفية وهو النظر إلى المحبوس وكأنه مقبورًا ميتًا (عينه فى الأرض)، (وجسده مقبور)، الذى يشير إلى انكسار الحالة الوجودية له إنسانًا، ويصبح مجرد مسجون رقمى يُشار إليه برقمه داخل الزنزانة، وعندما يُشار إلى السجين رقم 601 سارق لقمة العيش يصرخ المسجون بقوة داخل الفضاء المسرحى معبرًا عن وجوده وهويته واسمه وكيانه الداخلى (أنا جان فالجان) ، ولكن يُهيمَن عليه الهيمنة البدنية الشديدة حيثُ المراقبة والمعاقبة المرتبطة بالسجن والسجان، وبالتالى يفقد قوته مع هويته مع وجوده ويعترف أنه مسجون داخل الزنزانة ومجرد رقم واسمه 601 ، لا رقمه.
سيادة السلطة والقانون ارتبطت – إذن – بسيادة الضرب والقسوة والهيمنة الوجودية، وسيادة البؤس ارتبطت بالاعتراف بوجود الآخر ووجود الهيمنة والسيادة له فلا هيمنة بدون وجود قوى وضعيف، ولابد أن يعترف السيد بالمسود لتتحقق الهيمنة.
يخرج جان من الحبس ويظن أنه أصبح حرًّا طليقًا ولكنه يفاجأ أنه مازال مراقبًا ومعاقبًا على فعلته وسرقته رغيف خبز.
الجوع والبؤس حاضران فى النص حضور السلطة والقانون؛ لنبقى أمام شدّ وجذب وصراع وقوة متبادلة ليصبح الجميع مذنب (هم المذنبون كلهم).
الاحتياج إلى المال والعمل حاضر حضور الراحة والاستقرار فى الحياة فكيف يأكل وكيف يستقر، وكيف يُشفى من مرضه دون مال،؟ّ!، والمال يحتاج إلى عمل والعمل ينظر إلى ماضيه وصحيفة سوابقة.
نلمح فى النص المعروض كلمات من البيئة المصرية الخالصة وتلميحات مصرية مثل: (أبو دومة وأبو شامة، ستمائة وزفت، ومن يمشى وراء العيال لايخلو من ضرب النعال)، كما نلمح الشخصية الاندماجية، ونلمح اختلاط الدمى بالشخصيات، ونجده الشخصية الاندماجية التى تجعل المتلقى يفرز الحيلة ويحولها إلى واقع يغير به الوضع ويحمل عبء الشخصية ذاتها ويبحث معها عن حل خصوصًا أنها لا تستطيع وحدها.
وهنا انتقل النص من مسرحة الرواية الفرنسية إلى نقل فكرة فرنسية وتحويلها إلى فلسفية، والانتهاء من الصراع الاقتصادى إلى الصراع الوجودى فى ظل الرقمنة، ومحاولة التحرر من السلطة بأى شكل من الأشكال.
وفى النهاية نجد الدمية الإنسان يتناسخ مع دمية ببغاء ليعبر عن فكرة أكون إنسانًا أم حيوانًا؟ ، والمسألة مرتبطة بسؤال آخر أكون حيوانًا صامتًا أم حيوانًا متكلمًا مهيمنًا هيمنة السلطة؟!
ولنجيب عن هذا السؤال أو الصراع بينهما يجب أن نجيب أولاً ماذا نريد؟!
هل نريد حرية مطلقة أم حرية جسدية أم فكرية أم اقتصادية؟!
فى الحقيقة أن فكرة حرية الجسد من المكان القيد (السجن والزنزانة) مرتبطة بتحرره من كل الأيديولوجيات المحيطه به؛ لذا عندما يحاول الببغاء الدمية فرض سيطرته على الإنسان وتداخله داخل فكره المعرفى يسمح له الإنسان لأنه يريد أن يسمح، ويريد أن يُهيمَن عليه، لا لأنه لا يقوى فهو يقوى ويمتلك الحرية ولكنه يسمح للآخر اختراقه بسهولة، هذه مسألة.
القضية الأخرى هى فعل المقاومة والقوة الذى جاء من ضرورة الإبقاء على الوجود، وضرورة الاعتراف بالأنا رغم كل القيود ورغم امتلاك الحرية والسماح للآخر سلبها فالثورة الحقيقية أصبحت ثورة وجودية أنا أتكلم إذن أنا موجود، يظل الصراع بين الأنا والآخر إلى أن تنتصر ثورة الإنسان على محاصرة سلطة الدمية، ورغيف الخبز هو الأيقونة المفجرة لهذه الثورة فى الأساس.