ارتكز عرض ” بيت ابو عبدالله ” للمصمم العراقي انس عبد الصمد على تيمة وجودية تتناول ازمة وحرية الإنسان في كل مكان ، بداية من البيت العراقي ، من خلال التحكم والتصرف في جسده ،والتحرك داخل فضاءات مختلفة، مراقبة، مغلقة ومفتوحة .. فهي توثّق لجوهر المشكلات التي يعيشها الإنسان المعاصر مجسدة في: الألم ، الوحدة ،الاغتراب، ولنقل مشكلة الوجود في ابعادها الفلسفية العميقة..
ذلك أنّ شخصيات « بيت ابو عبدالله ” ، تعيش عزلة اجتماعية ، تتحكم فيها قوى لامرئية( الآنا– الهو – الآخر) ، وأحيانا يوظف – الجسد – كأداة غير تقليدية لمحاربة العناصر الخفية والقوى الظلامية( الظلال السوداء)، حتى لو تطلبت هذه المواجهة انهزاما وجنونا ، وهو واقع موبوء بكائنات ممسوخة ، تظهر بشاعة العالم الذي نعيش فيه ..
فليس ثمة ما يبعث الأمل في تجاوز هذا الخراب المتجذر؟؟ لتتحول في النهاية الغرفة الى مستشفى كبير للأمراض العقلية ، حيث تخرج فجأة وبدون مقدمات طبيبة مرتدية مئزرا أبيضا وتنتعل حذاء بكعب عال ، لتكون اكثر تعاليا وتقوم بفحص شخصية الملتحي ذي الشعر الطويل..
تحيل احدى مرجعيات هذا العمل في نظرنا الى شخصية رواية ” الجحيم ” للروائي و الشاعر الفرنسي “هنري باربوس” حيث يكون ثقب في جدار غرفة بفندق وسيلة الاتصال الوحيدة بينه وبين العالم… يقول باربوس” لسنا أحرارا. لارتباطنا بالماضي، ربما تستطيع الإنسانية في يوم من الأيام أن تتخلص من أي فكرة شريرة كانت قد استولت عليها، وأتمنى أن تخرج من هذا الجيل الشاسع، جيل البؤس والمذابح. وأتمنى أن تكون لدينا القدرة على ذلك وليس مجرد أمل؟”
العامل المشترك بين هذه الشخصيات” عبد الصمدية الباربورية” هي انغماسها الكلي في فعل ” التلصص” ، لذا تحضر على الخشبة كأنها تعيش منفردة ، ومحطمة ، كأنها وحيدة بين الأخريين” لا منتمية بتعبير كولن وِلْسن ..
- وهو ما بلغنا من خلال رمزية آلة الكمان الكبيرة تشليو”المشوهة” وعلاقتها بالمرأة ، و آلة الغسيل ، و علاقتها بالرجل باعتبارهما توجيهًا ما – لصورة اضطراب العلاقة الجسدية الزوجية الطبيعية ،حيث الزوجان لا يستطيعان الاستمتاع بأعضائهما، وهو ما أدى إلى حدوث التشيؤ .
- لقد تم تشكيل يوتوبيا جديدة للجسد على أرضية مجازية لوصف المعوقات التي تمنع ازدهار العلاقات الحميمة ،حيث يتم إلغاء جميع العلاقات الفردية المتحولة ،والتي تشارك بدورها في منع كل تكاثر بشري.بل أعمق من ذلك تحيلنا على التفكك الذي يسم هذه العلاقات ،والتشوه الذي طال أغلبها ،وانسحاب ذلك على الإنسان.
يحاول المخرج المؤلف تكريس رؤية حول عالم مُدمَّر، ومحبَط.. ذلك أن الموضوعات الرئيسية لهذا العرض هي: العنف ،والتوق للحرية ، والتهميش ،والغيرية ،والعزلة ،والتفكك، والموت الرمزي للجسد، وهو مفهوم حديث للمأساة، ولغة بعيدة جدًا عن المفهوم “الأدبي”.
لذا يغيب في هذا العرض الحوار واللغة ليتحول الصمت إلى صمت متكلم ويحضر الجسد الشارح كلغة مصاحبة تحتاج إلى حذق المتلقي كي يفسرها وطبعا حسب نقافته.. وهنا نتوقف بعض الشيء لنقول: إنّ المسرح الصامت اشد بلاغة و تأثيرا.. وهنا تحضرني عبارة للمخرج الروسي ما يرخولد التي يقول فيها :”إن الكلمات ليست كل شيء ، ولا تقول كل شيء” .. وهو يجعل باب التأويل مفتوحا على مصراعيه انطلاقا من المرجعيات والسياقات التي يعيشها المتلقي ،لتعدد قراءات العرض وتلقيه من منطلق الذات المقهورة للإنسان الذي يعيش ضغوطا تحاصره على كافة المستويات وتطبق على ذاته لتضيق عليه الخناق تلك(الجدران المتحركة ) فتكتم أنفاسه .
يولي المخرج اهتماما واضحا بمسألة “ظاهرة الاغتراب النفسي والجسدي ” كي يتيح لنا تقديم شخصيات قلقلة ومضطربة- دون أسماء ودون تاريخ ، مجهولة الهويات – تتصرف في كثير من الأحيان داخل صراع الأنا و الهو ،و هو صراع ” يحدث بين الدوافع والرغبات المتعارضة, وبين الحاجات التي لا يمكن إشباعها في وقت واحد، مما يؤدي إلى التوتر الانفعالي والقلق واضطراب الشخصية” .، هذه الشخصيات لا تكون قادرة على التحرر؛ لأنها تتحرك داخل فضاء مغلق ومراقب ،بل تتحول أحيانا دون وعيها الى “أداة عمل” طيعة خاضعة – رغم المقاومة – لسلطة الآخر – الغريب – المندس ( الأصلع صاحب القميص المخطط) الذي يقضي حاجته بيننا وهو يستمتع بفعل القراءة ..
يقدم مبدع العمل الفني مقاربة جمالية للمتلقي ليشاركه الشعور بالاستقلالية و مرونة الجسد، وقدرته على دمج ما هو غريب عنه ليبقى على حاله، وأسلوب المخرج يكمن في قدرته على التلاعب بالمتلقي ، مع توظيف عناصر جديدة في عمله ، و يمكننا تصنيفه ضمن مسرح المثاقفة والتناسج الثقافي بتعبير ” ايركا فيشر “، او ” ميتا مسرح ” كما يصنفه المخرج عبدالصمد ..
كما تكمن طريقة المخرج المسرحي في قدرته المشبعة بالسحر على تطوير فكرة «”الجسم الجماعي” الذي هو نتاج “النظام الاجتماعي ” القائم – إنه “ليس الوجه بل ما يظهر من الطبقة المهيمنة بطريقة غريبة ومحزنة ومزعجة” أي الفضاء الرمزي العدواني.
إنه يوحي لضميرنا بصياغات تتعلق بالقوى الفاشية التي دفعت نحو جلب الجماهير من خلال الاشتراكية القومية التي يبدو أنها تؤكد الأطروحات حول القدرة الأساسية على التلاعب بالجماهير والأفراد.
يلفت المخرج انتباهنا بهذه الإشارات إلى ما هو مشوّه وإلى المخاوف التي تستغلها هذه القوى. وما دامت تجربة الاغتراب المشتركة لا تمثل موضوع وعي مشترك، فإن المجموعة تبدو محكوم عليها باستنفاذ قوّتها في تكرار نفس الحركات والقيام بنفس المجهود.
كما يشجعنا المؤلف المخرج من خلال المراحل المختلفة للعملية الدرامية على تطوير حواس التمييز لدينا، لاختراق آليات الرقابة، وقيود التكرار التلقائي ،وهذا ما يسمح للمخاوف غير المعترف بها والرغبات المكبوتة بالتعبير عن نفسها.
من الواضح من وجهة النظر النقدية التي هي وجهة نظرنا هنا تتناسب مع إطار يمكن وصفه “بالتقليدي” (وهنا تكمن المفارقة في هذا النوع من المسرح الذي تحدثنا عنه في البداية) والتي ستكون بمثابة طعن في مفاهيم الشرف في الثقافات العربية (بالمعنى الواسع للكلمة). “إن شرف المجموعة العائلية يعتمد على حالة التوازن بين الميل إلى إخفاء الأجسام من ناحية والنضال من أجل تمكين الفرد من تحقيق ذاته من ناحية أخرى.
يمكننا أيضًا أن نقول عن موقع المسرح بأنه مساحة هامشية في مساحة مسرحية تنتهي في النهاية بأن تصبح، كما هو الحال غالبًا في هذا المسرح، المركز العصبي للمسرحية. إن قابلية زوال الحدود، وهشاشتها هما في الواقع جوهر كتابات هذا المخرج والمؤلف الشاب. إذ يبدو لنا أن الأنثروبولوجيا تسمح لنا بتوسيع التفكير لكشف موضوع الظل والنور، والجهل والمعرفة، والإصرار على ما بينهما من تعالق المكاني والزماني والاجتماعي.
إنه أيضاً النظر في صراع الفعل “يقول” بحيث يلعب غياب الحوار على سلسلة كاملة من المعادلات الدلالية خارج المسارات اللفظية لتسمح بتأكيد المساحة الرمزية التي رسمتها اللفتة الاجتماعية البريختية: المخرج يسمح لنا أن نرى أو بالأحرى ألاّ نرى هذه التحولات ، هذا المسخ ،وهذا يعني ان يلفنا الظلام، ويتملكنا الخوف منه، وبالتالي فهو في الوقت نفسه يظل مقيدًا بأغلال الطابوهات ولا يعرف بالضبط ما يجب فعله.
الملاحظ أن المكان الذي يحدث فيه مرور الزمن، والذي تجري فيه الأحداث الحاسمة في رحلات الحياة، يصبح حيزا جغرافيا للبحث عن الحرية، وربما حتى عن بقاء للشخصيات التي من خلال تصميم رقصات مبسطة، يستطيع المخرج توجيه العناصر” الميتامسرحية” نحو مصير مظلم ودرامي مع الحرص على تتبع مقاربة فنية حيث توفر له الوحدات المسرحية (حين تغيب او تموت اللغة ) العناصر اللازمة للسماح لجمهوره بالمشاركة في أدائه.
“بيت أبو عبيد” هو مكان يتمتع بخاصية غريبة لكونه مرتبطًا بجميع المساكن الأخرى، ولكن يحدث ذلك بطريقة تمكنه من تعليقها أو تحييدها أو قلب رموزها الاجتماعية.
إن “الحركات الجسدية الهائجة” للشخصيات ترسم أزمة اجتماعية بالمعنى الذي يقوله الفيلسوف الفرنسي” ميشيل فوكو” حول المساحات المغلقة والمحاصرة مثل مكان آخر وهمي، كمساحة “ممرّ حاسم في الوجود”.
تتوافق الرؤية والتوجه في عرض الأحداث الدرامية مع مبادئ بناء الفضاء الموضوعي (في الداخل والخارج، الفوق والتحت، الأمام والخلف، المضاء والمظلم)، كما لو كان ذلك بهدف جعل المُشاهد نشطًا يتدخل في كشف حيثيات الشخصيات ومغامراتها.
يحاول أنس عبد الصمد أن يكشف بمهارة تامة ألعاب وغايات حرية التصرف في جسد المرء بأدوات الكوريغرافيا والسينوغرافيا الحديثة الوظيفية لتترك للمتلقي حرية الإدراك ليس فقط للعناصر الجمالية ولكن لمشكلة حرية الاختيار أيضًا.
إنه عرض يبتعد كل البعد عن المسرح التقليدي لأنه يدعونا لمناقشة السؤال المركزي للمثقفين والذي قد يكون في النهاية مسألة المسافة السيئة (دائمًا) بين الذات والذات ثمّ بين الذات والآخرين، حيث يلتهم المثقف أوراق كتاب ،وعجز الثقافة و المثقف على المواجهة ، لتنتهي جدواها في المرحاض – اقصد انهيار المثقف العضوي،و بالتالي هو اغتراب النخب وعزلها عن نفسها ومجتمعها..
إن ديباجة الأداء الفني العراقي في التجارب الجديدة ابتداء من : جلسة سرية ” اعداد واخراج علاء القحطان مسرحية ” خريف ” إعداد و إخراج صميم حسب، انتهاء ب ” بيت عبدالله ” هي مقاربة تربوية تعطينا رؤية لما ينتظر اللامبالين باضطرابات الفرد، ثم إن النهاية أو بالأحرى الخاتمة لهي تأكيد على جماليات كل من المؤلف المسرحي والمخرج المسرحي؛ حيث أنها تفصح عن رؤية وصورة قريبة من رواية غابرييل غارسيا ماركيز “الحب في زمن الكوليرا”.
لقد جعل انس عبدالصمد من جسد المؤدين بوقا عاليا صاخبا ضد الظلام – العزلة – الفوضى- الخوف …
ما لا يخدم العرض
– السكون المطول لبعض الشخصيات ثم الانتقال من مكان الى آخر بدون مبرر ، قد يبرر مبدع العمل بأن التكرارية تشكل عنصرا فاعلا في تأكيد التفكك والعدمية واللاجدوى لأننا نجد أنفسنا في سياق عبثي يتخلل هذا التصميم الهجين..
– كثافة الرموز و الدلالات في العرض مما يجد المتلقي صعوبة في تفكيك شيفراتها
قد لا يوافقني المخرج الرأي لأن كثافة الرموز في فكره الإخراجي تتيح زوايا قابلة للتأويلوهو ما يجعلها تختلف بحسب اختلاف المتلقين ،ذلك أن المتلقي سيركز حتما على رموز بعينها تتوافق وحالة الاغتراب النفسي التي يعيشها ،وقد يدعوه ذلك إلى مشاهدة العرض مجددا ليفكك ذاته من خلاله وعبر تلك الرموز والعلامات المكثفة.
– غياب العلاقات و الاتصال البصري و الجسدي بين الشخصيات.. ربما يفسرها بأنها تدخل في سياق تكريس فعل الاغتراب من جهة وتأكيد التفكك والتشظي في العلاقات من جهة ثانية وهي اللاجدوى والعبثية المطلقة في ترميم الذات وانكساراتها والإمعان بذلك في عزلتها.
– غطت السوداوية والنظرة التشاؤمية على العرض و لم يمنح المخرج المؤلف أي متنفس للمتلقي و زاد في اضطهاده في النهاية بالأداء الفردي.و بالتالي لا توجد كوة للحلم و الأمل في بيت ابو عبدالله .. قد يؤكد ان هذا هو المبتغى أساسا و لا يود لهذا المتلقي أن يسترخي بل يريده قلقا متوترا ، مضطربا وهو تستحضر سياقاته الثقافية والاجتماعية ،يدرسها ويبلور رؤيته من خلال العرض بشأنها وكأنها قراءة لواقع متأزم اعتاد عليه المتلقي ، وقد آن له مع هذا العرض أن يستفيق من غفلته وسباته ليتدبر الأمر …
– تحرك الجدران و تقنية دمج الفضاءات لم يوفق فيها حيث تجعل المتلقي يعيش حالة توهان . ربما يؤكد انه هذا حقق الهدف الأسمى للعرض بجعل المتلقي يبحث عن ذاته دون ان يجدها.
– اجساد تتحرك بشكل عبثي غير مدروس ، تربطها علاقات واهية ،مشوهة بالعالم الواقعي ..و بالتالي الكل يهرول هنا و هناك ، لا احد يقف لحظة لتأمل .. حتى المثقف الذي كان يجب ان يتأمل في الوضع ،كان ضائعا في متاه المتاه..
– الاعتماد على جماليات الإضاءة، لكنها تحولت كعامل إعاقة في كثير من المواقف لرؤية ملامح الممثل او الممثلة خاصة انه عرض يشتغل على الايماءة.
– استعمال ” الوسائط الرقمية ” بالرغم من تأثيث الفضاء مما أدّى إلى تراكم مجموعة من العناصر الجمالية الذي افقد العرض ابعاده حيث ضاع الممثل بين كل هذه العناصر المتداخلة.. ربما سيؤكد لا محالة على ان دور الممثل كان حاضرا بقوة أدائه وجسده ، رغم تنوع المؤثرات السينوغرافية التي لم تكن أبدا مجانية..
– لم يكن مستوى التوتر الدرامي بحجم الفجيعة الفضيعة التي تستغرق عوالم الانسان الداخلية سواء كان عراقيا او من اقطار اخرى ..
اشارة
ان تسكين الأوجاع الوجودية لا يكون بالهرب إلى الاشياء الخارجية …الى الكرسي ..الى المرحاض …الى الغسالة ولكن بالعودة الى العوالم الداخلية للإنسان ….بالتأمل …ولم نر طوال مدة العرض شخصية فعلت ذلك…الكل هارب من نفسه الى شيئ ما …والحل هو العودة من الأشياء والأشكال والأسماء الى العالم الداخلي هناك سيجد الإنسان الإجابات عن كل اسئلته …لانه سيصبح هو الجواب..
ليس المسرح الجديد لرمي نفاياتنا / أمراضنا النفسية في وجه المتلقي لكن الارتقاء بالمتلقي الى مستوى الفهم العميق لنفسه والعالم.