المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر …
مادة بحثية
حـسن خـيون
المقدمة
في قراءة للتاريخ البشري، الحديث بشكل خاص، يظهر لنا كما هو مدرج في وثائق الأمم المتحدة_ أن ثلاثة أرباع الصراعات الكبرى في العالم لها أبعاد ثقافية. هناك هوة بين الثقافات كانت علامة لهذه الصراعات، لهذا يبدو العمل لردم هذه المساحة التي تشكل قطيعة ابستمولوجية وانسانية، مسألة ضرورية لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية، والفنون هي الجزء المهم من عناصر العمل لتحقيق هذه الغاية، بالإضافة للمشتغلين بالسياسة والاقتصاد والعلوم والحقول المعرفية المختلفة.
والتنوع الثقافي يشكل من جانب آخر قوة محرضة للتنمية، لا أقصد هنا النمو الاقتصادي فحسب، بل لأن التنوع هو طريقة لعيش حياة فكرية وعاطفية وروحية لها صفة التكامل، والاتفاقات الدولية التي تنظم فعاليات التراث الثقافي وتبرمجها وتعقد الشراكات والاندماج، تقوم بخلق ارضية صلبة لتعزيز التنوّع الثقافي، والاقرار به من خلال توظيف الفنون ولإعلام بشكل خاص لخلق حوار بين الحضارات والثقافات.
وفي هذه القضية يظهر المسرح باعتباره وطوال الوقت الصفحة الاكثر اهمية في خلق نوع من الاحترام للآخر من خلال التبادل الثقافي، على الرغم من كون المسرح بشكله الكلاسيكي، ظل محصورا في تبني الاشكاليات والمصاعب والافكار المحلية المحدودة، حتى ظلت فكرة التنوع الثقافي وفهم تصورات الآخر بعيدة عن التداول، فلم يعرف المسرح بشكل جيد، تلك الاشتغالات والشراكات التي يحضر فيها في مكان واحد مجموعة فنية لها ثقافة وتصورات وطريقة اشتغال مختلفة، والتي ستنصهر كلها في عمل فني او مشروع يؤكد تلك الاهمية الكبيرة لهذه الشراكة الصالحة لإثراء حركة المسرح بدفعها نحو مناطق ابداعية جديدة.
المسرح متعدد الثقافات_ اشكالية المصطلح
إن تداول أيّ مصطلح جديد في الحقول المعرفية وبشكل عام يؤدي إلى ارتباك قبل تأصيله وتفكيك اشاراته ودفعه الى منطقة التطبيق من خلال القرائن النصية والمادية فيما إذا كان المصطلح متصلا بعلوم الفيزياء مثلا او الكيمياء او حتى علم النفس السلوكي. في المسرح ايضا، تُحدث المفاهيم الجديدة اخفاقا في ترجمة الوظائف في البداية، قبل أن ينتقل المفهوم الى منطقة الجدل ثم نقله الى المختبر. وتناولي لمفهوم المسرح متعدد الثقافات، جاء من حرصي لعرض آخر نتائج الجدل في تحديد وتأصيل حركة المفهوم داخل المختبر المسرحي العربي والعالمي على حد سواء. فكل مصطلح ينتج عن مناقشته ظهور وجهات نظر جديدة والتماعات معاصرة سوف يتم توظيفها وإنتاجها مسرحيا ليكتسب المفهوم في النهاية بعدا ثابتا يمكن الانطلاق منه لبناء مفاهيم جديدة.
وقد ظهرت لي أن عناوين كثيرة، مفاهيم هي كلها تعني شيئا واحدا، او أنها على الأقل تنطوي على تجاور او قرابة ” مسرح المهجر” ، ” مسرح متعدد الثقافات ” مسرح العالم الثالث ، ” مسرح متعدد الأعراق” ، ” مسرح ما بعد الاستعمار” ، كل هذه العناوين ارتبطت بحراك اصبح الآن جزءا من منظومة مفاهيمية تحاول وصف الديناميكيات الثقافية الفنية الجديدة في أوروبا بشكل مكثف، وهي تشتغل ضمن سياقات التجريب والمعاصرة ، والتي دخل في مختبرها الوجود العربي في أوروبا.
لقد انتجت الطروحات الفلسفية في معالجتها التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، نوعا من عمليات الهدم والبناء، والالتزام بحالة ديناميكية تواجه فيها العقبات والاكراهات التي يتعرض لها الانسان من خلال التجريب المستمر بدون توقف، حيث يظهر شبح نيتشه، الرجل الذي يحمل فأسا طوال الوقت، من اجل خلق عالم جديد ومتجدد.
لماذا مسرح متعدد الثقافات
وليس مسرح المهجر
أن تطور وسائل الإعلام والتكنولوجيا، وتنامي التنقل وآليات السوق الحديث على نطاق عالمي والاتصالات الدولية وتدفقات الهجرة بسبب الحروب والنزاعات المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، أدى إلى تقريب الثقافات من بعضها البعض، ويمكننا القول وبشكل واقعي أن مدنا مثل برلين او لندن او باريس او بروكسل او أمستردام أن نسميها مدنا متعددة الثقافات، إذْ يختلط ويتعايش بشر تعود اصولهم الى عشرات الاعراق والجنسيات، بشر ذوو ثقافات مختلفة، واديان متنوعة، وعادات على النحو الذي يبدو بعضها غريبا. لكن الفهم الواضح لفكرة التعايش، جعل الهوية الفنية منطوية على ثراء، وقاد التنوع الثقافي الى اضافات نوعية في العروض الابداعية، حيث تمتزج الرؤى الفلسفية والتصورات الفنية في وعاء واحد، مسرح واحد يمكننا بثقة تأصيله مفهوما
(مسرح متعدد الثقافات) مبتعدين عن سياقات الهجرة التي هي جزء من الحراك الابداعي وليس صورة مستقلة، فالمهاجرون (الفنانون) وجدوا في فضاء التنوع الثقافي منطقة خصبة لتوظيف التعدد لخلق رؤى مسرحية اكثر رحابة من المنطقة التي يحددها مفهوم مسرح المهجر.
ما هو المسرح متعدد الثقافات
لا يمكن القول إنه فضاء منفصل، وفي قطيعة مع تاريخ المسرح، المنطقة الرحبة التي تشتبك فيها هموم وأحلام وتطلعات الشعوب. لكن المسرح متعدد الثقافات، هو الفن الذي لا يعترف بالحدود والامكنة والازمنة، هو مختبر لمعالجة الأفكار والتصورات الجمالية لخلق ارضية مفتوحة للتجريب، وفحص المثل الانسانية العليا والجماليات الفنية المتنوعة للخروج بمسرح اصيل لا يتردد في دخول مناطق جديدة وباستمرار.
المسرحيون العرب في الضفة الأخرى
لم يعد خافيًا على أحد الدور الذي يلعبه المسرحيون العرب في بلاد الضفة الأخرى، الفنانون الذين تجاوزوا إكراهات الجغرافيا واللغة والدين والمعتقدات، والذين أسسوا فضاء مسرحيًا تجريبًا ومعاصرًا مستفيدين من المنجز الثقافي والفني، الذي أنتجته الحضارة الغربية، وحجم الإمكانات التي ساندتهم للانطلاق في إبداعهم، فقدموا تصوراتهم الفنية المواكبة لمحرضات التجريب، وعرضوا خطابًا ابداعيًا تجاوزوا فيه صور اليأس والإرباك والعوالم الكافكاوية المليئة بالخوف، العوالم التي رافقت فئة غير قليلة من المسرحيين الذين وصلوا إلى الضفة الاخرى، و عاشوا فيها لفترة طويلة من الزمن، لكنهم لم يستطيعوا التخلص من الذاكرة القاسية التي تشكلت في بلدانهم، الخوف الذي رافق الحروب ، حرب الخليج مثلًا، وأحداث العراق المأساوية، أو أحداث ما يسمى بالربيع العربي وما تلاه من نتائج مخيبة.
لكن البطولة الحقيقية لمبدعين عرب آخرين، هي في قدرتهم على العمل في بلدان المهجر، مندفعين لتجاوز الإخفاقات والخوف، فلم يقف أمام أعمالهم الفنية رقيب سوى تلك الإشارات الأخلاقية التي تتعلق بحرص الفنان نفسه على تقديم عمل إنساني منحاز إلى دور المسرح النقدي في إيصال الصورة الحقيقية البعيدة عن زيف “الميديا” ومبالغاتها، إذْ ان البلدان الأصلية لهؤلاء الفنانين، ليست مستنقعًا ضحلًا يخلو من أي نقطة ضوء، على العكس تمامًا، فعلى الرغم من وجود إكراهات حقيقية، ومشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية، هناك محاولات جادة وحقيقية في هذه البلدان لتقديم رؤى مبدعة في مجالات كثيرة، أما “الميديا” الموجهة فلن تترك في المساحة كلها بقعة صغيرة تبعث على الأمل، حتى وصل مهاجرون كثيرون خلال الأعوام الثلاثين الماضية إلى أوروبا، فشكلوا ظاهرة فنية جمالية متحررة من القوالب المسرحية الجاهزة، وعقدوا شراكات إبداعية مع فنانين من الغرب، ولم يعد هناك شكّ في قدرات الفنانين العرب على استيعاب موجات الحداثة، والاستفادة من طروحاتها لتقديم أعمال لاقت احترامًا وتقديرًا واهتمامًا كبيرًا من المشتعلين بالمسرح والباحثين والنقاد.
المسرح آلة النقد في مواجهة “الميديا” الموجهة
يتضافر معنيان في الحديث عن النقد، هما البناء والهدم، أما البناء فهو عمل شاق يستغرق زمنًا وجهدًا وإخلاصًا تتناسب مع عملية فحص وتقويم وإظهار الإيجابيات في عمل مسرحي ما، أما الهدم فلا يحتاج سوى إلى بعض الكلمات التي يدونها شخص من دون شعور بالمسؤولية تلفيقًا لا علاقة له بالكتابة النقدية ولا بالفن، فيقوض بعبثه وكراهيته وعدم شعوره بالمسؤولية آمالًا كبيرة ويخلق شكًا لدى الآخر، ويتظاهر بقدرته المعرفية التي هي نوع من الزيف، والحقيقة رغم وجود مفردتين تقودان إلى مفهوم الناقد، أظن أن كلمة واحدة هي “البناء” تدل عليه، فالناقد الذي يفحص العمل ويفكك أجزاءه، ويكشف عن ضعفه، لكن بإخلاص هو ناقد بناء حقًا، أما الناقد الهدام فلا نحتاج لتوصيفه إلى الكثير، سنقول عنه (ليس بناقد)
“الميديا” المملوكة من بعض الجهات التي لم تستوعب أهمية إبداع المهاجرين، تهدد منطقة الحلم في تحقيق الأهداف الجمالية، فهي تنتج صورة تخدم مصالح سياسية وأفكارًا لا تخلو من العنصرية، لكن المسرح بشكل عام والمسرح متعدد الثقافات بشكل خاص، لديه القدرة العالية على ترويض وحش الماكنة الإعلامية من أجل المرور، وإثبات الذات، وصناعة المشروع الفني النقي المستقل في بيئة حاضنة للفن بشكل عام تحترم بشكل كبير وجهات نظر أخرى لا تتبنى الابتذال، خاصة في ما يتعلق بالنظرة الاستشراقية لـ“الميديا” الهدامة، والتي تقدم بلدانًا جاء منها المسرحيون العرب باعتبارها مستنقعات غير صالحة لتقديم فن جيد.
وفي هذه البيئة غير الحاضنة التي تسيطر عليها “الميديا” الاستشراقية، يواجه المسرحيون العرب العديد من الصعوبات رغم ذلك، خاصة أولئك الذين وصلوا منذ سنوات قليلة، والذين يواجهون تحديات أخرى تتعلق باللغة والاندماج المجتمعي، و حلقات الإنتاج والبرمجة وفرص العمل والتسويق، إذْ لا يجد هؤلاء فرصة كبيرة في الوصول إلى قنوات الإنتاج الفني ومكاتب التسويق والمسارح الكبرى ، والتي يتبنى بعضها خطابًا ضيقًا غير متفهم لا يتعامل بروح منفتحة مع المسرحين المنتمين لمسرح متعدد الثقافات، فهم يمارسون نوعًا من الأبوية التي رفضها بعض منهم، بينما أُجبر آخرون على الرضوخ مُتخلين عن ثقافتهم ذائبين في نسق ثقافي آخر، منسلخين عن لونه وجذوره، حتى خسروا في أعمالهم روح التنوع ليقدموا في النهاية عروضًا مشوهة لا تنتمي إليهم ولا تشكل إضافة للتراث المسرحي بشكل عام.
لقد أفرز الخطاب الأبوي نوعين من المسرحيين، الأول وافق على الانضواء تحت عناوينه، فحصل على دعم وتسويق مشاريع، والثاني تعرض للإقصاء على الرغم من أهمية تصوراته الفنية، لكن آليات الإقصاء الذي تتبعها هذه المؤسسات الأبوية، والأفراد الأبويون وأصحاب القرار سياسية غير عفوية كما تبدو في بعض الأحيان، لكنها واضحة لمن هو في منطقة الاشتغال المسرحي، واضحة كذلك حتى لأولئك الذي رضخوا لسياسات الداعمين. في النهاية، يظهر الداعمون في سياستهم وكأنهم لا يريدون فنًا مستقلًا، بل أعمالًا لا تخرج عن الخط الذي يرسمونه، على الرغم من أن القدرات الإبداعية للمسرحيين العرب، ساهمت منذ زمن طويل في الحراك الثقافي، الذي شكل هوية فنية معاصرة لهذه البلدان.
ملامح المسرح متعدد الثقافات
يعتبر المسرح متعدّد الثقافات، شبكة متخصصة في الإنتاج المسرحي العابر للحدود، يتشارك فيه مسرحيون من خلفيات ثقافية مختلفة. مسرح ليس له أي لون ديني أو سياسي أو عرقي أو آيدولوجي، يبحث دائمًا عن التجارب والمشاريع الجديدة، ويحرص المشتغلون فيه على التواصل مباشرة مع الجمهور في فضاءات صغيرة أو كبيرة، في مواجهة إنسانية وعاطفية وفلسفية تنطوي على اجتماع الثقافات في عمل واحد هو تعبير عن ثراء الوجود.
قدم المسرح المتعدد الثقافات ومنذ البداية نفسهُ بطريقة مهنية عالية ومسؤولة: ملتزم وصاحب قضية إنسانية وسياسية وإبداعية، ولون آخر معاصر امتلك أدوات تجريبية مغايرة. هذه الملامح الطليعية هي التي دفعت النقاد والمختصين والمؤسسات الثقافية المانحة والداعمة لأن تجعله تحت المجهر لمعرفة مضامينه، وطرائق اشتغاله، والمدرسة التي ينتمي إليها، والعقلية التي تحرك أدواته، وهذا بالطبع ناتج عن عدم معرفتهم بدقة بالنتاج المسرحي العربي، الشرق أوسطي والشمال أفريقي، فالتجارب المسرحية التي تصل إلى أوروبا بين الحين والحين، والمجموعات المسرحية التي استطاعت المشاركة في عدد من المهرجانات الدولية، لا تقدم للمؤسسات الأوربية المانحة معرفة جيدة بالمسرح العربي المعاصر، الأسماء والأساليب، التيارات المتنوعة ومناطق الاشتغال.
مسرح “المهاجرون” وأزمة العنوان
انتشر مسرح “المهاجرون” في الأروقة المسرحية في مملكة بلجيكا وتحديدًا في مقاطعة “فلندرز” الناطقة باللغة البلجيكية الهولندية، وبطبيعة الحال هذا الأمر ينطبق على مملكة هولندا. Allochtonentheater
شاع هذا المصطلح قبل أكثرمن عقد من الزمن، تداوله النقاد والمختصون والوسط المسرحي والفني بشكل عام، وسوف أشير إلى الاستنتاج الذي خرج به المختصون والنقاد. إن هذا النوع من المصطلحات ينطوي على تشويه لسمعة الفنانين وعزلهم عن الواقع العملي، ويساهم أيضًا في جعل النقاش الفني فقيرًا لا يتعدى حدودًا معينة، ولا يرتقي بالمنجز الثقافي إلى مرتبة الطموح. تغيرت المعادلة في بلجيكا وهولندا في ما بعد، تبلور معطى جديد مع الوجود المسرحي الشرق أوسطي – والأفريقي– والشمال أفريقي، وما حصل حقًا أن الوجود المسرحي “المهاجرون” شعروا بحالة من العزلة بسبب هيمنة المصطلح، وتأثيره النفسي، لهذا رفضت فئة كبيرة من الفنانين تداول واستخدام هذا المصطلح، لقد وضعهم في خلفية الأقليات العرقية، وهذا الأمر يتقاطع تقاطعًا كبيرًا مع مبدأ التعايش السلمي والديمقراطية وعدم التفرقة والنأي عن نزعات العنصرية، التي قد تجد حاضنه لها عبر فئات معينة من فئات أحزاب اليمين المتطرف، والتي ما تزال تنادي بحماية الأعراف والتقاليد والثقافة داخل المجتمع، وهذا ما دفع المختصين إلى استحداث مصطلح آخر هو “مسرح متعدد الثقافات” والذي ينفتح ويشتبك مع ثقافة البلد.
التجريب في مسرح متعدد الثقافات
قد يتساءل بعض من الناس عن طبيعة الدور الذي لعبه مسرح متعدد الثقافات في وسط مسرحي أوروبي مستند إلى إرث كلاسيكيّ ضخم، لا يتوقف عن طرح التجارب المعاصرة ، ولا تتوقف فيه المواسم الثقافية المسرحية.
إذن، نحن أمام مواسم مسرحية تتحرك فيها أسماءً كبيرة يصل صدى بعض منها إلى مراتب العالمية، في بلجيكا مثلًا، هناك أسماء مهمة للغاية في خريطة المسرح العالمي المعاصر، هذه الأسماء هي بمثابة مؤسسات فنية مسرحية معاصرة غاية في الأهمية، والسبب يعود إلى حجم الاهتمام والدعم المالي الحكومي الكبير، الذي تحظى به هذه الأسماء، الدعم المالي واللوجستي في الحصول على قاعات وأبنية ومسارح تستأجر من الدولة لثلاثين سنة وأكثر. من هذه الأسماء:
Jan Fabre, Milo Rau, Sidi Larbi Cherkaoui, Romeo Castellucci, Alain Platel
لكن مسرح متعدد الثقافات، على الرغم من هيمنة وحضور هذه الأسماء الكبيرة، شكل نقطة ارتكاز كبيرة واهتمام واسع من قبل الأعلام والمختصين والجهات الثقافية الحكومية وغير الحكومية والتي بدأت من زمن بعيد في احتضان الطاقات المبدعة على الرغم من ضيق هذا الحضن. لقد وجد بعض المهتمين بهذا اللون المسرحي المختلف فلسفة وتأويلًا ولغة ومعالجة، نقطة قوة في تحقيق قضية التنوع الذي يدعمه أغلب المؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسة، لكونه الضمانة لبلد متعدد الأعراق والثقافات.
إن “التنوع الثقافي” قضية أساسية تقدم سياق عمل جديدًا، وسياسة انفتاح ما تزال متعارفًا عليها في بلجيكا وهولندا وألمانيا، وتحت هذه المظلة أُنشئت فرقة مسرحية عربية وأخرى غير عربية خرجت من رحم هذه البيوت والمسارح واستطاعت تقديم منجز إبداعي مسرحي متفرد شكل نقطة اهتمام وتركيز من جانب النقاد والباحثين في الشأن المسرحي المعاصر.
عين الناقد الراديكالي
لقد أفرزت تجربة المسرح المتعدد الثقافات_ هنا في بلجيكا_ رؤيتين نقديتين، الأولى تشكك في أهمية ما يقدمه هذا النوع من المسرح، غير مؤمنة بماذا سيضيفه إلى المسرح الغربي ، الرؤية الأخرى مؤمنة بأهمية هذه المساحة. تابع المتبنون لهذه الرؤية المنجزات المسرحية العربية، لا يتعلق الأمر بجودة الأعمال بشكل خاص، لكن في إطار التنوع الثقافي الغني، نقاد ابتعدوا عن المزاج الشخصي، وهم ينتمون إلى الحقل النقدي باعتباره أساسًا تقويميًا وكاشفًا لأسرار الصناعة الفنية، أفرزت تصوراتهم الأسئلة التي ما تزال تدور في فضاء الشأن المسرحي في بلجيكا وهولندا، أسئلة تبنّى الإجابة عليها عدد من النقاد الذين يتربصون بالمنجز المختلف أو المغاير الذي يسعى لمشاكسة الثوابت التي أعتاد عليها المسرح في هذين البلدين.
أما الناقد الراديكالي، فهو توصيف أجده مناسبًا لفئة من النقاد المسرحيين، أشخاص يهتمون بعروض المسرح متعدد الثقافات، ولهم حضور واضح في التنظير له، يكتب بعضهم ليمتدح مشروعًا مسرحيًا معينًا يبدو في ظاهره مهنيًا مخلصًا، لكنها في العمق ليس كذلك، بل يحاولون تصدير الشك إلى منطقة المانحين من خلال مقالات نقدية انطباعية عصبية تنطوي على أسئلة مثل:
كيفية برمجة عروض هذا النوع من المسرح ؟
هل ستحظى باهتمام الدوائر المانحة ؟
من هم جمهور هذا المسرح ؟
هل هو مسرح تحكمه الفئوية ؟
أم أنه مسرح لعامة الناس ؟
بأي صورة يتم التعاطي مع أساليب المسرح المختلفة في الساحة الفنية؟
إن قرارات المانحين تتأثر في أحيان كثيرة بمقالات نقاد من هذا النوع، لأن العمل المسرحي في أوروبا، والحاصل على الدعم المادي يجب أن يمر بمراحل عديدة، كتابة المشروع وتقديمة ومن ثم إغلاق الملف الذي يجب أن يتضمن، بعض المقالات التي كُتبت حول المشروع سواء كانت إيجابية أم سلبية لتكون العين التي يفحص بها المانح المشروع.
لقد حدث مرة، أن إدارة المسرح التي ساهمت في إنتاج مشروعي، أرسلت لي رابط مقال كتبه ناقد راديكالي، فيه الكثير من المغالطات الفكرية التي لم تكن تصمد أمام تفنيدها.
عين الجمهور
لقد اهتم الجمهور البلجيكي والهولندي، منذ البدايات الأولى لنتاجات مسرح متعدد الثقافات، في حضور العروض والمتابعة، وقد ظهر واضحًا الشغف الكبير بهذا النوع من الأعمال، كما لو أن الناس اكتشفوا المسرح العربي وما يقدم في البلاد العربية باعتباره مساحة يتحرك فيه نمط إبداعي جديد ومختلف، لكن هذا المسرح الطليعي يفتقد دائمًا لحضور الجمهور العربي الذي لا يحرص على متابعة النشاطات الفنية المعنية بالمسرح العربي، بالطبع هناك أسباب عديدة لكنها لا تتعلق بالمسرح، بل بجمهور كبير غير مهتم بالفنون بشكل عام، تظهر دائمًا في أجواء الطقوس والنشاطات واللقاءات الدينية. المشكلة أن أغلب المؤسسات الحكومية الداعمة تضع شروطا للعروض التي يمكنها الحصول على الدعم المادي ضمن سياقات إدارية غاية في التعقيد، فكلما ازداد حضور الجمهور إلى هذه العروض، زادت فرص الحصول على الدعم المادي المتزايد عند التقديم على المشاريع الجديدة، بالإضافة طبعًا لرأي النقاد، إذ يتوقف نجاح أو فشل العروض التي تقدم في المسارح المدعومة من قبل الدولة على هذين الشرطين.
الخلاصة
يمكننا القول إن مسرحًا متعدد الثقافات تجاوز حواجز الاندماج واللغة والعلاقات، دخل النسيج المجتمعي والفني وتحرك بشكل جيد في أروقة الإدارة المعقدة التي يتحتم على أي مشتغل في المسرح معرفة أساليبها، وقنواتها كي يصل بمشروعه إلى آفاق إنتاجية رصينة، تؤمن له الاستمرارية والعمل في فضاءات المسرح المختلفة على مستوى: الإخراج، التمثيل، التدريس والتدريب، فعلى المشتغل بالمسرح معرفة آليات العمل وحفظ الحقوق في ما يتعلق بالمستوى الفني والمالي، لذلك أصبح المسرحي فاعلاً في هذا الحراك الفني ، يعبر عما يريد من آراء فكرية واجتماعية وسياسية، متناولًا فكرة الهوية بوعي يضمن للفنان العربي في المهجر، عدم السقوط في الخيبة، فيرتد للتجذر، وفقدان الصورة الواضحة لهويته، الهوية التي لا يجب أن تكون عائقًا في فهمه لوجوده باعتباره كائنًا إنسانيًا ليس من الخطر أن يكون متنوع الهويات، بل إن هذا التنوع سيجعله أكثر قدرة على فهم وجوده، وفي النهاية ستكون تصوراته الفنية ناضجة ، ونتاجه المسرحي عميقًا، يعبر من خلاله بثقة إلى الفكرة الأكثر طليعية، وهي المسرح المتعدد الثقافات.
المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر …
حـسن خـيون
Hassan Khayoon
مخرج مسرحي معاصر
مؤسس ورئيس فرقة الفضاء الواحد
One Space – 15 may 2023
Belgium-Antwerp