رفيق علي أحمد مؤلف وممثل مسرحي لا يحتاج إلى التعريف. فهذا الممثل الذي لم يكن غريباً أيضاً عن الإخراج يعد اليوم من أبرز الوجوه اللبنانية والعربية في حركة المسرح الجديد والدراما التلفزيونية والسينما، وبدا منذ انطلاقته الأولى صاحب مشروع سعى إلى تحقيقه خلال تجربته الفريدة وما زال يعمل في نطاقه، كممثل وكاتب وكذلك كمثقف ملتزم قضايا الناس والمجتمع وصاحب رؤية ومواقف ولكن بعيداً من أي سياسية أو أيديولوجية.
رفيق علي أحمد الذي رسخ فن الراوي مسرحياً، نصاً وإخراجاً وتمثيلاً، ورسخ جماليات هذا الفن وتقنياته وأبعاده، وأصبح له مرديون ومقلدون، أصدر أخيراً كتاباً هو أشبه بالسيرة الذاتية التي هي في وقت واحد سيرة الشخص أو الإنسان وسيرة المسرح اللبناني وسيرة الوطن نفسه من خلال المسرح خصوصاً وبعضاً من سيرة المسرح العربي والمهرجانات المسرحية العربية التي شارك فيها وقطف جوائز مهمة. الكتاب أصدرته الهيئة العربية للمسرح وعنوانه “رفيق علي أحمد ” الراوي – الممثل على خشبة الحياة”، وفيه يروي ويحلل أبرز المحطات التي عبرها كإنسان وممثل، بدءاً من طفولته وماضيه الأول في الريف الجنوبي ثم مجيئه إلى المدينة لدراسة المسرح في الجامعة اللبنانية وانطلاقه في عالم الخشبة ومرافقته أبرز المخرجين والممثلين من أمثال روجيه عساف ويعقوب الشدراوي ونضال الأشقر وسواهم.
ثم يتناول أبرز التجارب التي خاضها، أولاً في فرقة الحكواتي التي أسهم في تأسيسها مع روجيه عساف وجمع من الممثلين مثل حنان الحاج علي وعبيدو باشا وسواهما. ثم ينتقل إلى مشاركته المهمة في فرقة “الممثلون العرب” التي أسسها المخرج المغربي الطيب الصديقي والفنانة نضال الأشقر وأدى فيها أبرز الأدوار إلى جانب فنانين عرب مهمين، كان منهم المخرج العراقي قاسم محمد والممثلة المغربية ثريا جبران والممثلة الفلسطينية لينا التل. ثم تكر السبحة فيسترجع أحمد أبرز التجارب التي خاضها لاحقاً والمسرحيات التي شارك فيها ممثلاً، والمسرحيات التي كتبها وأخرجها بنفسه في سياق مسرح الراوي. الكتاب بديع فعلاً، حقيقي ووجداني، توثيقي وتأريخي، وبدا فيه أحمد وفياً كل الوفاء للفنانين الذي تعامل معهم، أعطوه وأعطاهم، ولكل الفنانين الذين كانوا رفاق الدرب الطويل.
الخلطة السحرية
يقول رفيق: “منذ صغري، أحببت أن أتحرر من سجن ذاتي لأدخل في رحاب أنفس الشخصيات البشرية. رغبت أن أكون ممثلاً كأي ممثل يُكتب له نص مسرحي. واقع، خيال، كوميديا، تراجيديا، يؤديه على الخشبة فيحظى برضى الجمهور وتصفيقه ثم يعود لممارسة حياته كغيره من الناس. ولكنني كلما حاولت ذلك يفيض بي خزّان ذاكرتي وتقتحمني حكاياتي وقضايا مجتمعي. فأحكيها راوياً أو ممثلاً أو الإثنين معاً في أغلب الأحيان. قدري أن أكون أنا الحكاية وأنا الراوي. حاولت أن أتلمس طريقي كممثل أولاً وكمسرحي ثانياً بإحداث خلطة، ليست سحرية، وهي أن أمزج مختلف التقنيات الغربية في إعداد الممثل لأستخلص منها تقنياتي الخاصة التي تشبهني، وتعبّر حتى عن لغة جسدي. إذ كما أن لكل شعب لغته فلكل جسد لغته. لذلك حاولت أن أمزج وأوحّد بين “تكنيك” الممثل وعفوية الحكواتي إلى أن وصلت إلى ما أسميه “الراوي- الممثل”.
كان المسرح إذاً هاجس رفيق علي أحمد الأول. طرح قضايا الناس وهمومهم وهواجسهم بطريقة جريئة ومن دون مواربة أو لف ودوران، تاركاً في رأس الجمهور الذي يغادر مسرحه ألف سؤال وسؤال، فهو كان حريصاً على التغيير وإن عن طريق الضحكة. يضم رصيده عدداً كبيراً من الأعمال المسرحية الجماعية والفردية كـ “الجرس”، “جرصة”، “قطع وصل”، “المفتاح”. وقد فاز بعدة جوائز من بينها “جائزة أفضل ممثل مسرحي في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح” و”جائزة الأرز الذهبية”. لكنه اكتشف فجأة أنه يخاطب جمهوراً لا يكترث ولا يبالي وكل همه الضحك والترفيه، فأصيب بخيبة أمل كبيرة، وتسلل إليه شعور بأنه بالنسبة إلى الناس مجرد ممثل، فقرر إيقاف عرض مسرحيته الأخيرة، رافضاً أن يخون المسرح، مفضلاً أن يهجره إلى غير رجعة، بعدما شعر بالخيبة والهزيمة.
خاض رفيق أولى تجاربه التمثيلية في السينما بعد تخرجه من الجامعة اللبنانية التي درس فيها الإخراج والتمثيل، من خلال فيلم “ليلى والذئب”، وشارك في مرحلة لاحقة في أفلام مصرية كـ “ناجي العلي” و”ألزهايمر”، وكانت آخر مشاركته السينمائية في فيلم “الهيبة” الذي عرض أخيراً في صالات السينما.
لم يكن يحب التلفزيون، مع أنه خاض فيه تجارب تلفزيونية مهمة جداً من بينها “الزير سالم” و”صلاح الدين الأيوبي” و”الظاهر بيبرس” وغيرها، وتخلى عنه في عز تألقه المسرحي، ثم ما لبث أن عاد إليه مجدداً في الأعوام الأخيرة، عبر عدة أعمال كرست اسمه عربياً مع رواج موضة الأعمال المشتركة، فلمع نجمه في “الشحرورة” و”الهيبة” و”عروس بيروت” و”خمسة ونص” و “الثمن”.
مرحلة فنية جديدة
وعما إذا كان يعيش مرحلة جديدة في حياته الفنية بدأها قبل عدة سنوات من خلال تركيزه على الدراما التلفزيونية، مع أنه سبق أن أكد أنه لا يحب العمل في التلفزيون، يردّ علي أحمد: “المسألة ليست كذلك، أنا ممثل وعندما يعرض عليّ مشروع ويعجبني أشارك فيه لكي أستمر في حياتي، لأن التمثيل هو المهنة التي أحبها والتي أعمل فيها. الأعمال التلفزيونية هي للتسلية والناس يفرحون بها وليس أكثر، وعندما يعرض عمل جديد يتابعونه”.
ولأن المسرح كان يشكل في مرحلة من عمره الفني، كل عالمه، فما الذي جعله ينسلخ عنه فجأة؟ يردّ: “عندما قدمت آخر عمل مسرحي كانت الصالة مكتظة بالناس والإقبال على مشاهدته كان كبيراً جداً، ولكن عندما وصلت إلى مكان بدأت أشعر فيه أن الناس يعتبرون أن الممثل الذي يقف على الخشبة هو مجرد مهرج يتفرجون عليه، بينما هو يعتقد أنه يخاطب البشر، ويطرح أسئلة ويناقش ويبحث عن إجابات عنها بالمشاركة معهم، فوجدت أن الناس أصبحوا في مكان آخر، وأن الدنيا تغيرت، فأوقفت العروض، مع أن المسرح كان مزدحماً بالجمهور وقلت الوداع! لم أعد أريد التمثيل ولم أعد أريد الكلام لأن لا طائل منه ولا يؤدي إلى أي مكان”.
ويتابع علي أحمد: “لم يكن الممثل هو الأساس في حياتي، بل كنت أستخدم الفنان من أجل التعبير عن نفسي وعن مجتمعي. ولكن بعد الحالة التي وصلنا إليها من بينها الأزمة الاقتصادية والأزمة النفسية والحالة التي تعاني منها البشرية، وجدت أنني يجب أن أكون مهرجاً وممثلاً ولكنني لا يمكن أن أخون المسرح. لكن تعامل مجتمعي ودولتي ومحيطي هزمني كفنان لذلك قررت الانكفاء عن المسرح”.
لست قديساً
وعن الرسالة التي يريد أن يوصلها من خلال مشاركته في الدراما التلفزيونية، يوضح: “لا توجد أي رسالة، وأنا لم يكن لدي أي رسالة طيلة حياتي. أنا لست متنبئاً ولا قديساً لكي أحمل رسالة، والدراما التلفزيونية هي لتسلية الناس وليس أكثر”.
علي أحمد الذي يبرع في تقمص مختلف الشخصيات، يتحدث عن المتعة التي يعيشها في تجسيد هذه الشخصيات، قائلاً: “هذه الحالة تخصني وحدي ولا علاقة للناس بها. أنا أستمتع بعملي كثيراً. أنا ممثل ولدي تاريخ فني كبير وعمري في المهنة يزيد على الخمسين عاماً، ولا أزال أمارس عملي كممثل بشغف. أنا أحب التمثيل لا أكثر ولا أقل”.
وعن سبب قبوله بالعمل في التلفزيون بعد رفضه له في فترات عمره الفني، يعلق علي أحمد: “في تلك الفترة كنت أعمل في المسرح، وكان لدي همّ أريد أن أقوله وأن أعبر عن ذاتي. ولكنني اكتشفت في الفترة الأخيرة أنني عاجز عن التواصل مع الناس ولذلك قررت التوقف والابتعاد عن المسرح”.
وكيف يحقق تواصله مع الناس الذي فقده مسرحياً؟ يجيب: “لا مشكلة عندي في هذا الموضوع. حتى التواصل بين الناس في المجتمع الذي نعيش فيه توقف، وخصوصاً في بلدنا. لا يوجد لدى الناس انتماء إنساني أو اجتماعي أو مجتمعي، بل هم يتبعون طوائفهم وقبلوا بالسياسيين الذين حولوهم إلى قطعان طائفية. وأكبر دليل على صحة هذا الكلام أن الناس عاجزون عن تأمين لقمة العيش وعن تأمين مصروف الطبابة وعن تعليم أولادهم. وعلى رغم ذلك هم يعبدون زعيم طائفتهم، وأنا خارج هذه النظم الاجتماعية برمتها، ولذلك اعتزلت”.
أذن من طين وأذن من عجين
وعن فترات التصوير الطويلة خصوصاً وأن تصوير بعض المسلسلات يمكن أن يستغرق أحياناً تسعة أشهر، وعما إذا كانت ترهقه كممثل، أم أن متعة التمثيل تجعله يتجاوز التعب؟ يقول: “لا أعرف. أنا أشتغل وأقوم بما هو مطلوب مني. كل مهنة لها صعوباتها ومشكلاتها وتعبها ومهنة التمثيل كسائر المهن الأخرى. الفنانون ليسوا قديسين بل هم يقومون بعملهم والبعض منهم بارع في المهنة والبعض الآخر “نص نص”. والأمر نفسه ينطبق على الأشخاص الذين يعملون في مهن الحدادة والنجارة والميكانيك والحرفيين. التمثيل مهنة كسواها من المهن الأخرى، ولكننا كنا نعتقد أننا من خلالها نستطيع أن نغيّر وأن نجد حلولاً لمشكلات المجتمع عبر الناس ومن خلال الحوار معهم. ولكن وصلنا إلى مرحلة تبيّن لنا معها أن الناس “أذن من طين وأذن من عجين”. فهم لا يسمعون الكلام بل حتى أنهم يرفضون سماعه، لأن الفن بالنسبة إليهم هو للتسلية فقط”.
هيام بنوت صحافية
https://www.independentarabia.com/