منذ نهايات القرن الـ 19 يوضع الكاتب والشاعر ألفريد دي موسيه في مكانة رفيعة بين كبار كتاب المسرح الفرنسيين إلى جانب موليير وكورناي وراسين، بل ربما ينظر إليه كثر على أنه الوحيد الذي يستحق لقب “شكسبير اللغة الفرنسية”، لكن الحال لم تكن كذلك خلال العقود الأخيرة من حياة هذا الكاتب، لا سيما منذ عام 1830، حين قدم على المسرح واحدة من أولى أعماله، “الليلة الفينيسية” فأخفقت، ليقرر أن لا يقرب المسارح بعد ذلك، لكن ذلك القرار لم يشمل الكتابة المسرحية. فهو كتب عدداً كبيراً من المسرحيات خلال ربع القرن التالي الذي عاشه، لكنه كتبها لتقرأ منشورة في كتب ما حرره كما سيقول من “نزوات الجمهور وألاعيب المنتجين وحماقات الممثلين”، وأصدر في عامي 1832 و1834 مجموعتين من المسرحيات التي سماها “مسرح الكنبة”.
ولقد ظلت حاله كذلك إلى حد أن نسيه جمهور متفرجي المسرح في فرنسا، ونسي هو ذلك الجمهور في المقابل، وعلى الأقل حتى عام 1847، حين “اكتشفت” ممثلة فرنسية كانت تزور موسكو مخطوط مسرحية له عنوانها “نزوة” كان قد كتبها قبل ذلك بـ 10 سنوات، فأتت بها إلى باريس لتقدمها على الخشبة فكانت بداية جديدة لحضور دي موسيه في المسرح الفرنسي.
ومع ذلك، فإن عدداً كبيراً من مسرحياته الأساسية، ولا يقل عددها عن 20 سيستغرق زمناً، قبل أن يعاد اكتشافه، بل إن منها ما لن يعرض إلا بعد رحيل الكاتب عام 1857 كحال مسرحيته الأشهر “لا مزاح في الحب” التي نتناولها هنا، أو حتى كحال “لورينزاتشيو” التي سيتأخر تقديمها حتى عام 1896، بعد نحو ثلثي قرن من كتابتها.
في الرحاب الشكسبيرية
الحقيقة أن هاتين المسرحيتين تقارنان عادة بـ”روميو وجولييت” بالنسبة إلى الأولى وبـ”هاملت” بالنسبة إلى الثانية، وربما كانتا السبب في اعتبار كاتبهما شكسبيراً فرنسياً بكل جدارة، بيد أن هذا ليس أهم ما في الأمر. الأهم هو أن هاتين المسرحيتين رسختا مكانة دي موسيه، ولا تزالان منذ تقديمهما الأول تعرضان موسماً بعد موسم، وتترجمان إلى لغات عديدة.
ولنتوقف هنا عند أولاهما التي ترتبط، ولو بخيوط غير مؤكدة بجزء من سيرة الكاتب نفسه، حيث يرى كاتبو هذه السيرة عادة أن “لا مزاح في الحب” إلى جانب “نزوات ماريان”، وهي مسرحية عاطفية أخرى له، تلامسان في العمق نظرته إلى العلاقة التي قامت ردحاً بينه وبين زميلته الكاتبة جورج صاند، فكان أحد عشاقها وربما كان الأقسى والأكثر رومانطيقية بين أولئك العشاق لا ينافسه في ذلك سوى فردريك شوبان الذي سيكتب هو الآخر من وحي علاقته بها بعض أجمل مقطوعاته الموسيقية.
لعبة المظاهر
تتحدث “لا مزاح في الحب” عن الشاب الأرستقراطي الوسيم برديكان الذي يطالعنا عند بداية الأول بين فصول المسرحية الثلاثة، وقد عاد للديار بعد انتهاء دراسته وحصوله على الدكتوراه.
وتتطابق عودته مع عودة ابنة عمه وحبيبة طفولته كاميي من دير كانت تتلقى فيه العلم بدورها، لكنها تعلمت من الراهبات فيه عدم الوثوق بالرجال ووعودهم، ومن هنا ها هي تقرر الابتعاد عن الحب، لكن هل يمكن لأحد أن يتخذ مثل ذلك القرار؟ ففي أعماقها لا تزال كاميي تهوى برديكان، أما هو فطائش يحب أن يستعلي على الجميع الآن، وقد بات دكتوراً.
وهذا الاستعلاء الظاهر هو ما يزعج الفتاة التي تتطلع إلى نوع من الكمال في الغرام. وهو أمر ستعبر عنه كاميي في رسالة تبعث بها إلى صديقة لها تقول فيها إنها تبث اليأس في فؤاد الفتى عن قصد. وتقع الرسالة طبعاً بين يدي هذا الأخير فيقرر أن يلقن ابنة العم درساً.
وهكذا يلتقط صبية فلاحة من الجوار تدعى روزيتا، ويروح يبثها لواعج قلبه الكاذبة من دون أن يدرك أن كاميي مختبئة بين الأشجار تنصت إليهما. ولاحقاً ستنبه كاميي روزيتا إلى لعبة برديكان وضروب خداعه، إذ فهمت أنه قرأ الرسالة، ويتصرف لاعباً، بل إن كاميي تدعو روزيتا إلى الاختباء بدورها والإصغاء إلى حوار سيدور بينها وبين ابن عمها لتكتشف حقيقته. يلي ذلك المشهد كما تخيلته كاميي، إنما دون أن تتخيل إلام سيؤدي.
مأساة النهاية
سيتم إذا لقاء جديد بين ابنة العم وفتاها المخادع، لكن هذه المرة ستشهد روزيتا اللقاء، وتنصت إلى الحبيبين اللدودين دون أن يعرف برديكان بوجودها. يبدأ الحديث بعتاب واتهامات وغضب بين ابني العم. هو يسمها بالمثالية والإفراط في الغرور، وهي تتهمه بالمخادعة والكذب واللعب على عواطف الصبية الفلاحة البسيطة.
وسينتهي الحوار بينهما إلى اعتراف كل منهما للآخر بحبه. وهنا تظهر روزيتا من مخبئها ما يتيح لكاميي الفرصة لتوجيه سهم أخير لابن عمها الكاذب، وقد خيل إليها أنه فهم الدرس أخيراً، لكن الذي يحدث هنا هو أن الموقف سيؤدي بروزيتا إلى الانتحار أمام هول صدمتها. وستؤدي هذه الفاجعة غير المتوقعة إلى تشييد حاجز نهائي بين الحبيبين على رغم مما عبرا عنه في اللحظات الأخيرة من هيام أحدهما بالآخر. ففي نهاية الأمر لا يمكن المزاح في الحب أو معه.
وعظ متواصل
ولعل اللافت في هذه الخاتمة التي قد تبدو وعظية التي جعلها الكاتب عنواناً للمسرحية كلها، بل جعل الكورس يرددها فيما يسدل الستار على النهاية المأسوية بالمعنيين الإنساني والغرامي لهذه المسرحية، هو أنها تلتقي مع عدد كبير من عناوين وعظية كان ألفريد دي موسيه يتفنن في ابتكارها لمسرحياته.
ولعل من أبرزها إلى جانب عنوان هذه المسرحية التي نتناولها هنا “لا ينبغي القسم حول أي أمر” (1836) و”الباب يجب إما أن يفتح أو يقفل” (1848) و”لا يمكنك أن تفكر بكل شيء في الوقت نفسه” (1849) و”لا يمكنك أن تكون على ثقة من أي شيء” (1846). وهي عناوين تسير عادة بين الناس كأمثلة وعظية.
أما بالنسبة إلى “لا مزاح في الحب” فيبدو كما يرى النقاد وأشرنا أعلاه، إنها قد ولدت من رحم توتر عاطفي قام بين دي موسيه وحبيبته جورج صاند وموضوعه الصراع بين الكبرياء والغيرة، إنما دون أن نعرف من بينهما كان يمثل الكبرياء، ومن يمثل الغيرة.
ففي نهاية الأمر كان من الواضح أن دي موسيه حين كتب هذه المسرحية، وكذلك كما فعل بالنسبة أي “نزوات ماريان” و”نزوة” و”بيتينا”، إنما كان يتوخى منها أن تكون مجرد “رسائل” موجهة إلى تلك المرأة التي غرق في عشقها، وعاش سنين من حياته يعاني غيرته عليها هي التي كانت بادية التقلب، وذات نزوات لا حدود لها.
بين الرسائل والتاريخ
أما بالنسبة إلى مسرحيات كبيرة أخرى له فلم تكن لها تلك العلاقة نفسها بشؤونه الشخصية. فمثلاً نجد أن “لورانزاتشيو” التي تكاد تكون اليوم أكثر مسرحياته تقديماً على الخشبات، إلى جانب “لا مزاح مع الحب”، إنما هي مسرحية تاريخية تتناول قتل الطاغية حاكم فلورنسا الساندرو دي مديتشي على يد ابن عمه لورانزو الذي سيخلفه عل حكم المدينة.
أما “فانتازيو” التي كتبت باكراً في عام 1833، ولن تقدم على الخشبة إلا بعد ذلك بـ33 عاماً، فهي مقتبسة من واحدة من حكايات هوفمان، بينما نجد أن مسرحية “باربرينا” التي كتبها دي موسيه للمرة الأولى عام 1835، ثم أعاد كتابتها مع تغييرات جذرية عام 1885 إنما هي أصلاً إعادة كتابة لمسرحية كوميدية مقتبسة أصلاً عن قصة معروفة للكاتب الإيطالي ماتيو بانديللو.وفي المقابل رأى النقاد أن مسرحية “الشمعدان” (1835) التي تعتبر كذلك من أشهر أعمال هذا الكاتب إنما تتناول في موضوعها حكاية حب قديمة عاشها ألفريد دي موسيه (1810 – 1857)، وها هو حين كتابتها إنما يرغب في “إغاظة” جورج صاند قائلاً لها إنها في النهاية لم تكن الحب الوحيد في حياته!
إبراهيم العريس باحث وكاتب
https://www.independentarabia.com/