هناك قبل كل شيء الرواية الأساسية والتأسيسية “دون كيشوت” للكاتب الإسباني النهضوي مغويل دي تسربانتس التي ينظر إليها كثر على أنها رواية الروايات معتبرين إياها مفتتح حداثة الفن الروائي في العالم ومنطلق ظهور الإنسان الحديث في الأدب. وهناك أيضاً مئات اللوحات التي رسمت انطلاقاً منها لا سيما لوحات الفرنسي دومييه. وبعد ذلك هناك أعمال موسيقية لا تعد ولا تحصى انبنت من حول تلك الشخصية وما لا يقل عن ستة أفلام كبيرة وأساسية تناولت الرواية بشكل أو بآخر خلال القرن الأول من عمر الفن السابع، وكان أعظمها الفيلم السوفياتي الذي قام فيه الممثل الكبير تشركاسوف بدور الفارس.
ولكن هناك في موازاة ذلك كله “رجل المانشا” تلك المغناة المموسقة التي ظهرت أواسط سنوات الستينيات فحققت في سنوات قليلة نجاحات تكاد تضاهي كل ما حققه عمل تسربانتس هذا في تاريخه.
مع هذا فمن الصعب اعتبار “رجل المانشا” موسقة مباشرة للرواية الإسبانية الإنسانية الكبرى، بل إن صانعي هذا العمل الذين عرضوه للمرة الأولى عام 1965 لم يقتبسوه من الرواية الخالدة بل من تمثيلية تلفزيونية أتت هي مقتبسة من “دون كيشوت” تحت عنوان هو “أنا، دون كيشوت”.
وكان هذا العمل يهدف إلى تقديم الرواية في علاقتها مع مؤلفها في نوع من “المسرح داخل المسرح” عبر مسرحية يفترض أن ميغويل تسربانتس ورفاقه في سجون محاكم التفتيش الإسبانية يقومون بأدائها في نوع من تزجية الوقت في انتظار ظهورهم أمام محكمة التفتيش.
مجازفة نفدت بجلدها
والحقيقة أن صانعي هذا العمل كانوا عند البداية يشعرون بأنهم إنما يقدمون على مجازفة من خلال الاشتغال عليه هم الذين يعرفون أن هناك نحو 10 أوبرات كبيرة اقتبسها كبار موسيقيي القرون الغابرة، ومنذ ظهور الرواية عند بدايات القرن الـ17، عن “دون كيشوت” فمن سالياري إلى ريتشارد شتراوس ومن تيليمان إلى جول ماسينيه وصولاً إلى العرض الذي حققه مانويل دي فاليا عن جزئية دون بيدرو من الرواية، لم يخل قرن من إقدام عدد من الموسيقيين على عمل يدور من حول شخصية استثنائية فتنتهم وعلى موضوع يتيح للمبدع الذي يخوض فيه كل أنواع التصرف الفني والدنو من تشعب في المعاني والدلالات.
ومن هنا كانت الحيرة تواجه دائماً لا سيما في القرن الـ20، كل مبدع يحاول موسقة هذا العمل من جديد، لكن الكاتب الأميركي ديل فيسرمان وجد طريقه خلال برنامج تلفزيوني على محطة “سي بي أس الأميركية” لتقديم تلك التمثيلية التي تجمع بين الكاتب وبطله في بوتقة إبداعية واحدة.
صحيح أن الفكرة لم تكن جديدة، لكنها بدت مغرية ليعزز نجاحها التلفزيوني حيث تمكنت من جمع أكثر من 20 مليون متفرج، فكرة خطرت في بال المخرج ألبيرت مار بعد أن فشل أول الأمر في تحويلها إلى مسرحية تلفزيونية تقدم في برودواي، فكرة بسيطة أتت لتسير على “موضة” كانت قد بدأت تصل إلى ذروتها في تلك الأيام وشهدت إنتاج بعض أعظم نتاجات المسرح الموسيقي في ذلك الحين، من “ماي فير ليدي” إلى “وست سايد ستور” وقس على ذلك. وكان السؤال بسيطاً: لم لا نحول هذه المسرحية إذاً إلى مغناة موسيقية؟
حدث في سجون التفتيش
وهنا قبل متابعة هذه الحكاية قد يكون من المفيد العودة إلى العمل المقدم أول الأمر تلفزيونياً، لنذكر هنا أن أحداث العرض تدور في إشبيلية عند نهاية القرن الـ16، حيث يقوم الجنود بإدخال تسربانتس إلى غرفة مشتركة في سجن محاكم التفتيش، برفقة خادمه ليتركا هناك وسط مساجين آخرين. وحين يخرج الجنود يجرد السجناء الوافدين الجديدين مما يحملان. وحين يسأل أحد السجناء عن هوية تسربانتس عن سبب حبسه يجيبه “أنا شاعر ورجل مسرح”. ومهما يكن فإن تسربانتس يترك لرفاقه الجدد كل ما صادروه محتفظاً فقط بمخطوطة يكتبها، ثم يتوسل إليهم كي يساعدوه على تقديم مشهد يلعب فيه كل واحد من السجناء دوراً. ويقول لـ”الزعيم” “اتبع طريق مخيلتي وسترى ذلك. اسمه ألونسو كويجانا وسيصبح أمامنا الفارس المتجول المنطلق في جميع أنحاء العالم لمحاربة الشر”. وبالفعل يتحول ألونسو في المسرحية داخل المسرح إلى “دون كيشوت دي لا مانشا”، منطلقاً على الطرقات مع سانشو المخلص حيث يصادف أول ما يصادف طاحونة هواء يعتبرها عملاقاً ويحاول منازلتها من دون جدوى، ثم تتتابع الأحداث المعهودة في القلعة كما في النزل ثم هناك كما المشهد مع الجنود وصولاً إلى المشاهد المتعلقة بدولسينيا، ومشاهد المعركة مع فارس المرايا ومن ثم تعود بنا الحكاية إلى السجن، حيث يتهالك تسربانتس وقد استبد به التعب ولكن كذلك اليأس من جراء إخفاق ألونسو الذي يكون قد خسر معركته مع محاكم التفتيش. ويدهشه أن يطالبه “الحاكم” زعيم السجناء بأن ينهي قصته ما دامت تسبب له كل هذا التعب، ولكن هنا تصل الحبيبة مطالبة بأن تجتمع من دون كيشوت لكن هذا لا يتعرف عليها، بل ينسى اسمها تماماً وفي اللحظات الأخيرة يتوه تسربانتس نفسه عن بطله دون كيشوت فيهوي هذا الأخير تاركاً أحباءه تائهين أمام حلمهم المستحيل.
جاك بريل على الخط
أول الأمر بدت فكرة تحويل هذا العمل إلى مغناة فكرة جنونية، لكنها راحت تتجسد بالتدريج لا سيما حين جرى اتصال بالموسيقي ميتش لي ليضع ألحاناً لها بناء على نص كلف الشاعر الكبير دبليو أتش أودن بكتابته. ولاحقاً حين راح المشروع يتبلور استبعد النص الذي وضعه أودن إذ رأى فيه المنتجون تعبيراً عن عداء واضح للبورجوازية، “وهذه البورجوازية هي جمهورنا الحقيقي” تمتم المنتجون.
ذهب أودن بثوريته غير الملائمة وولدت المغناة التي بعد أن قدمت في عروض تجريبية أولى نقلت إلى خارج برودواي ومن ثم إلى برودواي نفسها بدءاً من ربيع 1968، حيث صمدت طوال 2328 عرضاً متتالياً، ما اعتبر رقماً قياسياً في المسرح الأميركي الغنائي حينها، لكن هذا لم يكن كل شيء طبعاً فهناك الجوائز والترجمات إلى نحو 35 لغة ولهجة، بينها اللغة السواحيلية وتسع لهجات إسبانية مختلفة.
ومع ذلك تبقى الترجمة الفرنسية هي الأكثر إثارة ذلك لأن العمل كان هنا من بنات أفكار المغني البلجيكي الكبير جاك بريل ففي عام 1967 حضر جاك بريل عرضاً للمسرحية في قاعة كارنيغي في نيويورك. وما إن انتهى العرض كما تقول الحكاية حتى شعر بنفسه بالغ الحماس فاتصل من فوره بالمنتجين للحصول على إذن تقديم العمل باللغة الفرنسية مع احتفاظه لنفسه بالدور الرئيس المزدوج: دور الكاتب ودور الفارس إذ شعر بأنه مناسب له تماماً. وتم الاتفاق الذي كانت ذروته ترجمة أغنية العرض الرئيسة “الحلم المستحيل” من قبل بريل نفسه الذي قام بالعمل الرئيس في مجال الاقتباس وراح يشرف على كل كبيرة وصغيرة منذ بدأت التدريبات على الفور في قاعة “مسرح المونيه” في بروكسل خلال صيف عام 1968 ليكون العرض الأول في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام نفسه. وكان إلى جانب بريل المغني الشعبي المعروف داريو مورينو في دور سانشو بانشا، فيما قامت جوان دينر زوجة المخرج ألبرت مار بدور دولسينيا، على الرغم من كونها لا تتكلم الفرنسية.
ولاحقاً انطلاقاً من النجاح الهائل الذي حققته المغناة بالفرنسية في بروكسل نقل العرض إلى مسرح الشانزليزيه وسط باريس، حيث تواصل من ديسمبر (كانون الأول) 1968 حتى مايو (أيار) من العام التالي. والحقيقة أننا لئن كنا هنا قد ركزنا على هذه الترجمة التي قام بها جاك بريل بنفسه، فما هذا إلا لأنها كانت بالغة الأثر في نجاحاته اللاحقة وتوجهه نحو فنون أخرى منها المسرح والسينما بعد النجاح الذي حققه في عمل غنائي اعتبر من أفضل وأجمل نتاجات المسرح الموسيقي في فرنسا في ذلك الحين. ولا بد من التنويه هنا بالنجاح الساحق الذي حققه أداؤه لأغنية “الحلم المستحيل” بالفرنسية، التي ارتبطت منذ ذلك الحين باسمه وباتت تعتبر واحدة من أجمل أغانيه.