في الوقت الذي ظهر فيه مسرح اللامعقولTheatre of the Absurd للقيام بثورة على منظومة القيم الفكرية والجمالية والكونية التي كانت سائدة في الغرب الأوروبي بعد نتائج الحربين العالميتين الكارثيتين، يمكننا النظر كذلك مع اختلاف الأسباب إلى مفهوم مسرح الغرفة بأنه ثورة ومحاولة جديدة، وجادّة لتغيير المفهوم التقليدي للمسرح وتطوره. ويعود تتبع ظهور المصطلح في وقت ظهوره بوحي من مسرحيات كتبها السويدي أوجست سترندبرغ عام 1907م، عندما شُيّد في ذلك العام فكرة وتجربة المسرح الحميمي في ستوكهولم، وتبعته تجارب أخرى في بلدان متفرقة ذات دلالة كبيرة على إحلال فهم نوعي مغاير للمسرح، ومن بين تلك التجارب يمكن الإشارة إلى ما جرى في موسكو عام 1914م بافتتاح مسرح الحجرة بواسطة المسرحي ألكسندر تاييروف، ويمكن الإشارة أيضًا إلى تجربة المسرحي النمساوي ماكس راينهاردت، والفرنسي ميشيل فينافر، والمصري سعد أردش عندما أسس عام 1962م بالقاهرة مسرح الجيب، وأشرف على إدارته مقدمًا من خلاله العديد من العروض المسرحية العالمية والعربية. كما ظهرت صيغة مسرح المائة كرسي في الأردن عام 1968م، وصيغة مسرح القهوة في سورية عام 1970م، وكان هدف هذه التجارب سواء التي استمرت أو تلك التي فقدت بريقها؛ إرساء قواعد استجابة جديدة للمتلقي المعاصر في ظل أنظمة اقتصادية رأسمالية متحولة قد تصل إلى درجة الوحشية، تتحكم في حياة الإنسان ومعيشته، ساعية إلى جعله في حال يحاصره الذبول والإرهاق والتذبذب والتشتت والتفجّع.
نظريًا، تعددت تسميات ما يُعرف بمسرح الغرفة لقرب هذا المصطلح من مصطلح آخر هو مسرح موسيقى الحجرة Chamber Theater، وقد تنزّلت تلك التسميات في صيغ منها: مسرح الجيب Pocket Theatre، ومسرح المائة كرسي Hundred Chairs Theatre، والمسرح الحميمي Intimate Theatre، ومسرح الحياة اليومية Theatre of everyday life، ومسرح المقهى Café Theatre – وإن كنت أستبعد هذا النوع من المسرح لفقده أحد شروط مسرح الغرفة- ويظهر لنا بعد النظر في تتبع هذا المصطلح أن المفهوم التقليدي للمسرح نفسه قد أخذ في التطور والصعود؛ ليقدم ثوراته الجمالية المختلفة على أيدي المخرجين المجددين في العالم، وهذا ما نجده في تطور دلالة المسرح بنيويًا ووظيفة المؤلف المسرحي.
إن فكرة اختلاف التسميات وتقاربها حسب تقديري إنما تعود من ناحية أولى إلى تطور مفهوم المسرح عبر العصور؛ فالمسرح ابن البيئة والمجال الذي يترعرع فيه الناس ويعيشون، والناحية الثانية يمكن إرجاعها إلى فكرة تجاوز الشعرية الأرسطية فهاتين الناحيتين متصلتين، ويصبان في توجيه الضربة إلى قواعد أرسطو، والتأكيد على إحلال التجريب كأحد شروط استمرار المسرح وبقاءه.
تاريخيًا، وبالعودة إلى المعاجم المختصة (معجم المسرح لباتريس بافي، والمعجم المسرحي لحنان قصاب) فقد ارتبط مفهوم المسرح بأشكال الكتابة المتخيّلة، وعليه عُدّ المسرح جنسًا أدبيًا محضًا، وظلّ هذا الاعتداد أحد الأخطاء التاريخية التي شوهت علاقة بعض المخرجين المعاصرين بالنصوص المسرحية الكلاسيكية، وأضعفت من قوة المرجعيات الكبرى، كما أوقعت المسرح في جدال لم يتوقف حتى اليوم، يخص الممثل والنص والعرض. ويمكن عَدّ قَوَام العلاقة الحاصلة ما بين الممثل والمتفرج أحد أشكال تطور دلالات المسرح. إن “مكان الرؤية أو المشاهدة” رأسًا يأخذ المتلقي أو المتفرج إلى المكان المخصص لتقديم العرض المسرحي، ومن هنا جاءت عبر العصور تسمية مسرح الأوديين مثلًا للعلاقة التي التصق بها هذا المسرح بالمكان الذي جعلَ منه شارة وأيقونة تاريخية. كذلك من بين ملامح تطور دَلالات المسرح التاريخية الصّفة التي تُلحق بأعمال أديب مسرحي معروف كشكسبير أو راسين الذي كان لأعمالهما المسرحية الخالدة الدالة على عصر أو مدرسة أو تيار مسرحي خالد الأسباب المهمة للبحوث العلمية حول المسرح، والشغل الدؤوب في تطوير آليات الإبداعية للمسرح، وهكذا في ظل ما تقدم من تجارب ومواقف فكرية واجتهادات إخراجية، سيظل مفهوم المسرح يتطور عبر العصور، وسيكون محور البحث الإبداعي والنقدي يدور في تحليل مدى التأثيرات الكونية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية الثقافية على المسرح، وعلى الأشكال المسرحية المختلفة وطرائق التقديم التي يمكن التنبؤ بفاعليتها وقدرتها على الاستمرار، ويسري الأمر كذلك بواسطة البحوث الأكاديمية في مكوّن العلاقة الجدلية الحاصلة ما بين الممثل والمتلقي، ومفهوم العرض المسرحي المغاير عبر وسائط التلقي الافتراضية، فهذه كُّلها سوف تشكّل محطات لإضاءة الاجتهادات الفكرية. ومن هنا، ظهر مصطلح مسرح الغرفة وخصائصه التي يمكن أن يقال عنها الكثير في الفقرة القادمة.
سأنطلق من مفهوم ماهية المسرح في المُطلق، وغاية اختيار مسرح الغرفة في عالمنا العربي كاختيار سوسيولوجي أو استراتيجي يتبع رؤية جمالية، وفلسفة فكرية ومنهجا. يرى المشتغلون بالمسرح أن أهم ماهية للمسرح هي التواصل والحميمية بين المشتغلين بالعرض المسرحي من جهة، وعلاقة هؤلاء مع الجمهور من جهة أخرى. لقد تداخلت الفنون فيما بينها بصورة كبيرة جدا، وكان للمسرح نصيبه من هذا التداخل؛ كعلاقة فن المسرح بالسينما والتلفزيون، وعلاقته بفنون العرض الأدائية كالسيرك والبهلوان والإيماء والمونودراما، وعلاقته الآنية بمنصات التواصل الافتراضي، التي يُلحق بها صفة “الاجتماعي” وهي صفة غير حقيقية، إذّ تفتقد إلى روح التواصل والحميمية التي يستشعرها المتفرج ويتواصل معها في قاعة العرض المسرحي الحي.
وبالاهتداء إلى معاجم المسرح سألزم نفسي بهذا التعريف لمسرح الغرفة: مسرح الغرفة هو مكان صغير مغلق للمشاهدة، والعرض يتسع لعدد قليل من الكراسي، ولا يتطلّب فخامة في الديكور ولا تكلفة مالية عالية، ويجري تقديم خطاب العرض بشيء من التداخل ما بين النصّ المكتوب وفن الارتجال، وبعدد قليل من الممثلين، ويغلبُ على العرض خلق طقس عاطفي حميمي بفعل التلقي الناشئ بين العرض والجمهور وصُغر المكان. وتنشأ عندئذ بعض الأسئلة المشروعة عن خصائص النص المكتوب ومساحة الارتجال الحرة والاختيارات الجمالية التنفيذية للعرض، ودوافع تلك الاختيارات هل تكون من أجل الفن للفن؟ أم يقف خلفها أبعاد سياسية واجتماعية ونفسية ما؟
إن الناظر إلى صيغة مسرح الغرفة سيجده أقرب إلى العمل التجريبي الاحترافي، وأن خصائص نصوصه إذا ما عدنا إلى أوجست سترندبرغ (سوناتا الشبح، والطريق الطويل 1907م) سيجدها ذات منحى تجريبي، وقريبة من الكتابة “السير- ذاتية”، والمشاعر فيها أشبه بالخواطر والانفعالات والاعترافات ذات الطابع السيكولوجي، والشخصيات قليلة والمواقف بسيطة خالية من العُقد الدرامية الكبرى. لذلك سيكون الرهان كبيرًا أمام فكرة مهرجان مسرح الغرفة الذي تدشن فرقة البُن للفنون المسرحية والأدائية دورته الأولى التأسيسية.
إن تعبير “تظاهرة فريدة ومختلفة” في صيغة الإعلان الذي تتبناه الفرقة، يفسح المجال للمتلقين النخبويين وغيرهم النظر إلى إسهام الفرق الأهلية المسرحية العمانية الجاّدة رغبتها في تقديم محاولة فعلية لخلخلة الرؤية المسرحية في بعض مسارحنا الخاملة بسلطنة عمان، وإثراءها بتجارب مسرحية نوعية تبحث عن لغة سيميولوجية متجددة للعرض المسرحي. وتُعيدنا تلك الرغبة إلى جهود سابقة لفرق أخرى مسرحية؛ كفرقة مسرح الدّن للثقافة والفن التي دشنت في أبريل الماضي مهرجانها الأول لمسرح الشارع Street Theatre في عُمان. يُحسب لخطوة فرقة البُن هنا، مسارعتها قبل انطلاق فعالية عروض مسرح الغرفة للفترة من (11إلى 14) سبتمبر إلى إقامة فعالية ثقافية قدمت من خلالها التعريف بالمصطلح وخصائصه. وتُعدّ هذه الخطوة مهمة للغاية للتعريف بمسرح الغرفة، والبحث حوله لتثبيته على خارطة المشهد المسرحي في عمان.
https://www.omandaily.om/