حنين حار وسؤال غياب الكينونة الثقافية د. سافرة ناجي
منذ إن أدرك الأنسان حضوره الوجودي وهو في لجة ديمومة السؤال عن طبيعة هذا الحضور، وما سر وجوده وعلاقته به، مما خلص إلى إن حضوره يعني أنه (كينونة هذا الوجود وماهيته)، فبقي في بحث عن جدلية هذه العلاقة يتأملها ،يستنطقها، يحاورها، فترجم كل هذه التساؤلات
إلى فعل ملموس بشكل مادي مرئي فكانت جدران الكهوف فضاء هذا التجاذب الفكري ليحاورها وجها لوجه، وصدى هذه المواجهة تجسدت على شكل رسومات بأشكال متنوعة. فايقن إن حضوره في هذا الوجود حضور جدلي، فكان السؤال والشك ديدن فعله الإنساني. ولأن الفن من المعارف المتعالية الفاعلة في حركية هذا الوجود، لذ كأنت ومأزألت في طليعة من يفترض ويبتكر الرؤى التي تكشف عن حقيقة الوجود، وبقي هذا السؤال فضاء بحث جمالي في الفن المسرحي، وهذا ما اضمرته البنية الدرامية للعرض المسرحي (حنين حار) تأليف وإخراج (جواد الاسدي) هو حوار حار متوقد في مواجهة الكينونة الثقافية الفنية في بيئة باردة. هو إعادة قراءة وصياغة لها خصوصيتها على غرار سؤال (غرامشي) حول عضوية المفكر المثقف في صناعة مستقبل الانسان.
فانبرى عرض حنين حار في تفجير أسئلة المواجهة وبإصرار فكري 🙁 لماذا يحدث كل هذا؟) الذي تشظي وساح في أزمنة تنتمي الى (الآن) وتنسلخ عنه إلى ماضي مرتبك، وهي تعيد قراءة تاريخ يكرر نفسه بذات الايقاع حول حضور الكينونة الثقافية، والإصرار على الحياة بادراك تام لـسؤال (اللا جدوى) المنطوي على واقع عدمي، وهو يقلب الأسئلة من زوايا مختلفة، يترجمها ويمحوها في تناسل عبثي لخلخلة واقعه ، ليرتدي السؤال هذه المرة حلة الموت الذي أصبح هويته. مما يثير الأسئلة حوله وحول تعطل دور الكينونة الثقافية من كل ماحدث ويحدث، مما يجعل السؤال يدور حول ذاته مرتداً بين دائرتي حنين إلى الماضي والتوق لمستقبلٍ آمن في دائرة مفرغة بلا ملامح ، ولا جدوى السؤال، حنين لماضي فقد فيه المفكر دوره في تغيير أتجاه بوصلة هذا الماضي نحو الأفضل، وهو يضمر أدراكا تاما أن الماضي لم يؤسس لمستقبل ما يحلم به هذا المفكر في إن تكون له كينونته ألتي ينشد منها أثراً لما سيأتي، لأن الماضي قد عطل هذا المستقبل، وعاش المفكر خدعة
حرية التعبير، وأن يكون له مستقبل يحتفي بإنسانيته، فبقي يتأرجح بين حدين الهروب إلى الماضي من المستقبل، وكأنه إشارة إلى إن المفكر / المثقف العضوي الذي يريد بلا إرادة، غير ان إرادته ومصيره المحتوم إن يجتر الماضي لعله يجد فيه ما يحلم به. لهذا بقيت هذه الفكرة مدار تدور فيه ذوات العرض (النحات، المطربة، الموسيقى) يجترون جماله وصفوه وعنفوانه الإنساني في تكرار عبثي لملء فراغهم الروحي، مما جعل الشخصيات مغلقة على ذاتها لا سبيل لها ألا فعل النبش المتواصل في ذاكرة هذا الماضي والأختباء خلفه لتمرر خواء حاضر أيامها وتشويش صورة مستقبلها، وهذا ألانغلاق يستفز حواس وعقل التلقي ويثير حنقة السؤال المر اين إرادة الحرية والتمرد التي ينشدها الفكر الإنساني؟ ليستولد سؤالا أخر يفترض فيه لو حدث موقف المواجهة وقرر المثقف مواجهة كينونة السلطة /الموت، هل سيكون المستقبل حار، والماضي بارد؟ فتنقلب المعادلة بحيث لا نتوق العودة أليه، وأن حواسنا وعقولنا تصوب نظرها إلى المستقبل، ليعيد قراءة السؤال من جديد لماذا؟
عرض حنين حار قذف بإسئلته الميتافيزيقية والمادية في البحث والتقصي لماضي وحاضر ومستقبل الكينونة الثقافية ألتي تعيش عبثية التطرف، والتي تجسدت بصريا في حيرة الأنتماء والأنسلاخ، حيرة التمرد والأنقلاب، وتوهج مرة أخرى حرارة ألسؤال لماذ يحدث كل هذا؟ كل هذه التساؤلات والحيرة والتأرجح بين الآن والمستقبل شًكل منها ( الأسدي ) بنية العرض وزج بالمتلقي في دوامة الأسئلة الذهنية ذات الصفة المرئية ألتي اتصلت بالعرض عاطفياً وأيدلوجياً من خلال سينوغرافيا العرض ألتي تشظت فرضيتها الجمالية بإن الفكر معطل بين (الماضي/ الآن،) ألتي أشار أليها بصرياً على شكل خط مستقيم توزعت عليها الكتب بشكلٍ مهمل لتقابلها بخط قناني الويسكي لتتوسط هذه المستقيم طاولة في الوسط ، وعزل خلفية المسرح بحاجز ذو صفة هشة في المتانة ليؤسس منظومة ايقاع العلاقة الدرامية لبنى العرض الثلاثية بين البصري واللساني والجسدي، الذي كان ينشطر بين الخلف والأمام في أداء تمثيلي تميز بالصنعة الميكانيكية المقصودة تعبيراً عن ميكانيكة الكينونة الثقافية ألتي وسمت طبيعة الأداء التمثيلي لشخصيات العرض ألتي أنسجمت سرديتها الأدائية في تأطير فلسفة تكرار اللاجدوى ( أن ما حدث بالأمس هو تكرار عبثي لما يحدث الآن ولكن بسياقات مختلفة في إشارة إلى ما يحدث اليوم من سطوة قاهرة لعنف السلطة وصراعها مع الأنسان الحر هو هو يجري بذات السياق العبثي. فبقيت ذوات العرض/ الثقافة تعيش أزمات متكررة من حيرة
الأستلاب والتهميش في واقع يشتبك فيه كل شيء بشكل عشوائي، حتى أنه أختلطت فيه كل الألوان وفقدت بريقها ، كل شيء بلا ملمح. فظهر المثقف في هذا العرض (/المؤلف المخرج/ الممثل ) وكأنه يريد إن يلعب كل أدوار المجتمع ألتي صيرها فعلاً درامياً في دور المتلقي المفسر لعبثية هذا الواقع المتطرف، وهو يسبب الأسباب ألتي تجعل من المثقف كينونة مهزومة أمام ذاته أولاً ، وأمام الأخر (حبيبة ، سلطة، واقع ، حرب ، سياسة، دين، فن ) ثانياً ،وهذه العلامة تؤشر توحد الموقف الخاص بالعام ليكونا وجهان لعملة واحدة، اذ يظهر جلياً معطى التمازج بين التجربة الشخصية لصانع العرض بغية ادارك كنه هذا الواقع من زواية العارف المسرحي الذي جرب كل أشكال التمرد سواء بإلانسحاب أو المواجهة، المواجهة ألتي أختار إن تكون مواجهة الموت بالفن. ولأن صانع العرض يدرك إن العرض المسرحي هو إعادة أنتاج الواقع، فهو يعيد قراءة هذا الألتباس وتفكيك أسباب ضبابية موقف الكينونة الثقافية ويشارك المتلقي في محاكاة مما يحدث، لهذا أنفتح العرض على فرضية أن يضع المتلقي أمام تحدي إما أن يبقى يدور بين حدي الماضي وحد الحاضر ليرقب ويحلم بالمستقبل آلذي يريد، أم أنه سيبقى في موقف المثقف السلبي الذي أدانه العرض؟، عندما أستعار شخصية الفنان التشكيلي( جبار) والمطربة (شفيقة) والموسيقى وغياب دورهما في بناء مستقبلهم . وسبب هذا الألتباس هو التغيب الفكري لدور الفنان المثقف في الحياة اليومية، ألتي كانت المقترح المضمر من فرضية التجسيد الفكرية لغياب الكينونة الثقافية في تشكيل حاضر ومستقبل هذا الواقع، ليقترح الموسيقى معادلا موضوعيا لعنف البيئة، فكانت الموجهه للفكر في تقديم مشهدية اليوم والأمس ألتي تستعرض تاريخ (قريب /بعيد) يعج بالمشكلات مازال أثرها طاغياً على يوميات المتلقي. فتمكن العرض من إن يثير ويحفز لدى المتلقي فعل دهشة ومراقبة يومياته على وفق متغيراتها الأيدلوجية، ويجعله يعيش حيرة الأختيار مرة أخرى بين الأنتماء أو الرفض، وهو ينشط درامياً بنبش تاريخ (ذوات التلقي / ذوات العرض)، بدوال تتماهى ما بين دوال العرض والتلقي ألتي تنتج لنا حقيقة ان كلاهما يعيش مستقبل بارد، معطل، ميت سريريا. وهذا ما خزنته ذاكرة العرض المسرحي حنين حار ألتي تنفي عنها دفء الحرارة لتمنحها برودة قارصة، وهوية مستقبل ميت وأنكفاء الحاضر والمستقبل على ماضي توهموا إنه حار، بفرضية لو أن الماضي يمتلك حرارة لأنتج مستقبل حار. وكأن العرض يبحث عن مكامن الحرارة في هذا الماضي فيقدم سرديات متنوعة له عبر أيقونة الوجود المرأة والرجل (جبار ،شفيقة) بمشاركة الموسيقي الفنان، برفض الواقع
برمته، الذي تموضع حده المكاني في مقدمة المسرح وبين باطن الشخصيات اللامنظور من سلوكها الخاص المخفي والعام الظاهر في المنظور الخلفي لجغرافية العرض، فكانت مشهدية العرض تدور في فضائية الحلم بمولد يمكن له إن يغير من معادلة هذا الواقع، ويكون عنصر تعويض لخسارة الشخصيات/ المثقف، الذي يفسر جدل الصراع بين موقف الرجل والمرأة، الرجل الفنان، المثقف، الحالم بالتغيير، وبين المرأة الفنانة، المثقفة، المهزومة أمام سطوة الموت، فترفض الأنتماء الى الآن والمستقبل، فتقرر إن تنهي حياة المولد الحلم ، تريد له إن يبقى حلما لكي يمكن لها إن تتواصل وتقاوم ، حتى لو بقي هذا التواصل ميت، حتى لو خسرت الحلم ، ويمارس الرجل هو الأخر فعل قتل حلمه ولكن بطريقة الرجل البويهمي الذي يعيش لحظة الملذات الجسدية فتحول عنده حلم وهج الألوان إلى خفوت بارد، فظهرا كل من المرأة والرجل يعيشيان عبثية اللوم المكرور، فتحولت العلاقة إلى سجال حول من كان موقفه هو الأصوب في التعاطي مع مشكلات ما يتعرضان له، اذ كل منهما يعيش عبثيته الوجودية على طريقته فشفيقة/الفنانة لم ترى من الحياة غير صورة الأب الذي تحلم به صورة لحبيبها ،والرجل وجد فيها سلبية الأستسلام لإملاءات أيدولولوجيا السلطة في الإنسحاب من الحياة إلى ماضي تتماهى فيه شخصية شفيقة فيتحول طموحها الفني إلى نكوص سلبي، وهي تبحث عن الحماية في أبهى قوتها بحسب المعطى الثقافي البيئي لوجود المرأة في مجتمع لا يعتد الا بفحولته الجسدية،. ففعل تبادل الاتهامات بين الاثنين في منْ ارتكب الخطأ في حق الأخر هو صورة تعويضية عن إنهزامهما في الحياة وفي العشق، و هي صورة مختزلة لطبيعة واقع المرأة في المجتمعات الذكورية. لهذا يقدم مخرج العرض الموسيقى علامة تقابلية للعنف ودورها في تشكيل وعي المجتمع المتحضر وهو هنا يتبنى فلسفة افلاطون الفنية عندما أختار إن يكون المثقف تشكيلي ،أو موسيقى وكانه يقول لماذا هذه ألبيئة تص{ على أقصأء ألفنأن عن ألحيأة ، ويعلن ألع{ض أن سبب ذلك هو نتأج مارسخته الثقافة الدينية ازاء الفن وتحريمه، لذلك حتى المثقف غفل عن دور هذا الفن في صناعة حياة مدنية ، ولم يدافع عن فكرته ألافلاطونية التي تقر بان ألفن يفيض على الإنسان بالخير أذا تصدر سلوكه، وكما تجلى ذلك في دعوة جبار ألى الفنان (مقداد/ لموسيقي) إن يعزف لخالته لتهدأ روحها وهذا ما اكدته الحوارية السردية للعرض المسرحية ودور الموسيقى الموسيقى في التصدي لقوى الموت التي استباحت المدن العراقية الحضرية واصرارها على مواصلة العزف لتستعيد الحياة توازنها الروحي في بيئة كل شيء فيها اصبح ميت معطل لا يمتلك روحا
ليكون مؤثرا، وتمظهرت علامات هذه التعطيل بصريا عندما وضعت الكتب في زاوية ميتة من سينوغرافيا خشبة المسرح وكأنه صانع العرض هنا يعبر عن موقفه الذاتي ألى إن كل القراءات والكتب التي عرفها وهضمها المثقف الفنان لم تجدي شيئاً أمام سطوة السلطة ألتط{ف، فهو إعلان صريح أن الفكر في البيئات المتطرفة بقي معطلا سواء في الماضي أو في الحاضر، فقطعا لن يكون له دور في صناعة المستقبل، فالفكر الذي لا يمكن له إن يتصدى ويوقف عجلة الموت، كيف له إن يحمي الأنسان، وهذه الأدانة يضعها العرض على طاولة التلقي للوقوف عندها ومناقشتها، وعلى ضوء هذا المحمول الفلسفي/ النفسي الاجتماعي/ الايدلوجي قسمت مقدمة السينوغرافيا الى مستويين بين اللهو الذي أصبح بديلاً عن الكتب التي لا تجدي نفعا، وأن الفكر عبارة عن عبث فكان لمعادلة اللهو /الشرب في تناظر هندسي بينهما ، ووسط هذين الحدين حركة أنتقال وأشتغال الفعل الدرامي لسردية التاريخ وهي علامة أشارية إلى إن الماضي هو المهيمن على يوميات (آلآن ) بكل ما يضمر من تشويه فكري وأنساني في اعلان الممثلة (شفيقة) الحلم/ الواقع عن تشويه اليوم هو امتداد لتشويه الآن والمستقبل ،عندما تزيح الشرشف الأبيض عن الطاولة وتكشف عن زيف ما نعتقد . قدم عرض حنين حار تعرية لكل أشكال التطرف الفكري التي غاب عنها دور المثقف لإيقاف عجلته، أبطال عرض حنين حار ( مناضل داود، الاء نجم، رائد) قدموا أداءاً تمثيلياً منسجم ورؤيا قصدية المؤلف/ المخرج ، لذلك انفرد بانه عرض يضج بدهشة جمالية معيارها التامل لما يحدث ودعوة لاعادة النظر بماحدث، ومحاكاة العرض لهذة الاشكالية تمكنت من إن تخلق تفاعل وتواصل معه لأنه كما نرى من العروض التي تشتبك مع الواقع وتكشف ما يضمر من مواقف يخشى مناقشتها، ليعلن نهاية العرض ويثير سؤاله الاشكالي إلى أين تمضي الأحداث بهذا الواقع المأزوم بلا نهاية. هلى سنقبل بموت المثقف المجاني؟ وهل سنقبل أن تبقى صورة المرأة غائصة بحدود اللهو الجسدي، هل سننتمي إلى الثورة والتمرد العشوائي أم الى التمرد المنضبط على أهداف واضحة المقاصد؟ هذه الأسئلة وغيرها قد حملها المتلقي وخرج من العرض مفكراً بها. هذا العرض قدم اسئلته المشاكسة من على خشبة مسرح الرافدين تأليف وإخراج جواد الأسدي.