بعد “باي باي جيلو” إخراجا يعود المبدع د. ابراهيم الهنائي تأليفا في نصه المونودرامي ” حين يتجشأ البحر الأحذية” إلى البحر ومراكبه من جديد، تيمة عبور آخر نحو برزخ فاصل وواصل بين اليابسة والماء، بين الحضور والغياب، بين السرد والمسرح، بين الأنا والآخر، مسافة مابينية بائنة تؤثثها أحذية سلالات – هي ما تبقى لممثلة واقفة في خريف العمر على مشارف بحر هادر – آثار هويات ممزقة بذهاب وأوبة، إلى جوار “نجمة” اسم طفلة افتراضي واش بغياب الأم “لور”، وبمكان ما في السماء بعد أن ضاقت بهما الأرض، وأرجوحة افريقية لهدهدة الطفلة، وللتأشير على تأرجح المتخيل بين عبور سريع معلق وسقوط وارد، مساق شخوص وأفق تمسرح مراوح بين التوسل بما تبقى من حوار، ميسم مسرح دارس بعد أن توقفت الحياة على ركحه، لتلوذ المرأة الممثلة بالحكي، حاكية سيرة بحر نكاية في ما ابتلع، ومحاكية سيرتها الذاتية لاسترجاع مجد مسرحي بائد، تلك هي قصة امرأة تنتظر أن ينسى البحر عادته القديمة ويرجع الجثث، وذلك هو قصَ بحر “لا يستحيي أن يرجع الأحذية فرادى…الحذاء عربون الحياة، إذ لا من يموت بحذائه”.
بين ما تبقى من عمر وما تبقى من رمل شاطئ مبلل بملح الماء والدمع، تنتصب المرأة وحيدة بدون اسم؛ إلا ما يضفيه التنسيب لمكان برمائي، مودعة من يعبر سريعا، ومشيعة من يموت سريعا أيضا. شخصيات مائية راودها حلم عالم الآخر، فشدت الرحال تباعا نحو اليم، وشخصية امرأة رملية نسبة إلى شريط شاطئ رملي ودليل انغراس هش، حيث لا شيء يشي بتأبيد اللحظة ما بين مد وجزر بحر لا يكتفي بتجشؤ الأحذية، بل يطرق باب البيت الصغير بدون استئذان في إشارة لموج غادر قد يغدو طوفانا….
على غرار نصوص الكبار، يعسر على القارئ/ المتفرج المفترض اكتناه فضاء لا أحد يعرف مآلات مكر تخومه، وشخصية لا أحد يستطيع أن يتكهن بسقف صمودها بين عالمين شبيهين بعالم ايريك امانويل شميت، حيث ترشح مسرحيته “فندق العالمين” بأسئلة أنطولوجية محيرة أكثر مما تجيب، منها: “أين نذهب عندما نسقط في غيبوبة ونصبح في منزلة بين المنزلتين، بين الحياة والموت؟ حيث يبدو السؤال في نظر المترجم قاحلا وبلا أفق [1]… مادامت شخصيات المتخيل لا تعرف منافذ للخروج بعد ورطة الدخول…
قياسا على هذا التوريط الخلاق؛ يدفع المبدع د.ابراهيم الهنائي هو الآخر بشخصيته الوحيدة نحو المرافعة عن حضور نسوة آثرن أن يزرنها ليملأن عليها فراغ بيتها المتواضع، أو لتوثيق هذيان الغياب كما معظم الحمقى والمجانين,,, وهو ما نعتبره مسوغا دراماتورجيا داخليا ذكيا لاستدعاء السرد، وللتوسل بالمونودراما شكلا ما بعد درامي يليق بشخصية إخالها تقف على حافة الخشبة، بعد أن أسدل الستار وراءها عن حياة مسرح، لترفع ستارا آخر عن مسرح حياة أحداثه معركة خاسرة، يشير إليها ما يلفظه البحر، وما تشير إليه الوحدة والأسى الغريب الذي لا يعرفه إلا كناسو المسرح بعد خروج آخر الممثلين، كما يقول كارسيا ماركيز، وهوما يعني نوسان المتخيل بين ملفوظ تخييلي بحري أضحى قصة من داخل خطاب مسرود، في تقاطعه مع خطاب آخر ملعوب هنا والآن عبر ما تبقى من حوار، حيث أخال الساردة تطل من فتحة الستار وراءها مناجية شخصيات غدت أثرا بعد عين…
ويبدو اقتراح الهنائي لشخصية ثانوبة مفترضة “نجمة ” مساوقا لمسرح غائب يعود افتراضا لكسر هيمنة السرد، ولتعزيز فائض منسوب حركي شبيه هنا بركلة ما قبل الموت، بعد أن قُذف بالممثلة لمصيرها وحيدة خارج الستار كما يقذف بسمكة خارج أكواريوم، وهو ما يعززه غدو ورواح المرأة بمحاذاة الشاطئ، خارج ماء آخر تحول من بحر هادئ في مرسم طفل؛ إلى بحر غادر: “كعادتك اليوم تتوشح بالزرقة البريئة أيها البحر. كم أنت مخادع. تتقنع بالزرقة كما يرسمك الأطفال ويلونونك في دفاترهم المدرسية.: بحرا كبيرا يتجاوز حدود الصفحتين”…
وبقدر ما يتقدم السرد نحو تأزمه بشذرات سردية مكثفة، لحظات وقوف المرأة شاخصة على حافة الماء، تتقدم حركاتها مُشَخَصًة نحو حافة الجنون، منتعلة حذاء، أو معتمرة قبعة كانت إلى عهد قريب حلية حي يرزق، لتغدو بفعل الموت أيقونات تراجيدية في متحف، في إشارة لتركة عشرات الجثث المتعفنة رمي بها البحر. فبقدر ما تكون كل الفظاعات قابلة للحكي على لسان المؤلف، تكون قابلة للتمسرح أيضا عبر ما توسل به د. الهنائي من إعادة تمثيل مسرح جريمة بحر، وجريمة حروب افريقية حولت موضوعة الارتحال الفردي، إلى هجرات جماعية قسرية نحو الآخر الذي لم يعد مقترنا بالخلاص، بقدر ما أضحى مقرونا بالحتف.
تلك سردية الاختلاف الصاعدة إبداعا من مسرح د.الهنائي، نكاية في سردية التطابق الراشحة في مسرح الغرب، في أفق بناء “منطقة تفكير” بدأها الهنائي في مسرحيته “ابن زبيبة” بهدم أنساق ثقافية مضمرة، موصولة بتقويض فزاعات ماضوية مرتبطة بأسطورة الفحل ” عنترة بن شداد”، ليواصل المؤلف اليوم أطروحة التقويض بملحمة افريقية على غرار ملاحم بيتربروك، لتفكيك تمركز غربي جاثم علي الأنا كلباس قديس كما قال بارت .
.مسرح الاختلاف والتطابق مفهومان تداولهما الناقد العراقي د.عبد الله ابراهيم في كتابه “المركزية الغربية، اشكالية التكون والتمركز حول الذات، المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدار البيضاء، الطبعة الأولى:1997.
[1] ايريك ايمانويل شميث فندق العالمين ، ترجمة سعيد بوكرامي ، مراجعة أ.د نادية كامل، سلسة من المسرح العالمي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد: 370،مارس 2014
المصدر: محمد أبوالعلا – المغرب