ما بين الشهادة والخيانة تسقط الأقنعة في ‘حرب العشر دقائق’ د. محمد حسين حبيب
نص مسرحية الكاتب علي عبدالنبي الزيدي الذي أخرجه ابراهيم حنون للفرقة الوطنية للتمثيل العراقية على مسرح الرشيد يتضمن معادلة ثنائية جريئة تشمل الشهادة والخيانة ويسلط الضوء على الخسارات الانسانية والانتظارات الخاوية والمنكسرة. أيمكن لمنطق العقل أن يتقبل فكرة تحول “الشهيد” الى خائن أو العكس ؟ وهل يمكن أيضا لعائلة الشهيد المتوفي أن ترفض حقيقة تقبله حيا لم يمت ولم يستشهد أصلا؟ لكن يبدو يكون الجواب على مثل هذه التساؤلات (نعم) حين تسقط الأقنعة وتتغير المعادلة في واقع اصبح غرائبيا أو هكذا أرادوه لنا يقول الأبن لأبيه الذي اتضح انه ليس شهيدا ولم يمت من اصله: “وجودك في حياتنا حيا يعني موتا لنا أيها الشهيد”، يرد عليه الأب: “اية معادلة هذه ؟ أية كارثة ؟”. على وفق هذه المعادلة الثنائية الجريئة (الشهادة/ الخيانة) يرتكز نص مسرحية الكاتب علي عبدالنبي الزيدي “حرب العشر دقائق” والذي أخرجه مؤخرا ابراهيم حنون للفرقة الوطنية للتمثيل العراقية في دائرة السينما والمسرح في بغداد وعلى مسرح الرشيد. والعمل تمثيل نخبة من فناني المسرح العراقي وهم : اسيا كمال وقحطان زغير واحمد شرجي ومهند علي سينوغرافيا سهيل البياتي واضاءة عباس قاسم . استند العرض على متن حكائي اتسم بالوضوح في لحظاته الاولى لكن تتسلله الشفرات شيئا فشيئا تلك المسكوت عنها جهارا والمعروفة المتداولة اجتماعيا لأجيال محددة عاشت سنوات التغيير السياسي في العراق ماقبل عام 2003 م ومابعده، بين حرب ماضية اكتظت بالاف الشهداء، الى جانب مئات الذين تم اعدامهم سابقا وممن كانوا يسمونهم خونة أو عملاء، وبين حرب جديدة طائفية طاحنة اكتظت بآلاف من الشهداء الذين قضوا نحبهم على ايادي الخونة والعملاء من جديد. كل هذه التضادات تكشفها لنا الحوارية النصية في المشاهد الاولى من العرض عبر شخصيات استقلت مكانها في فضاء سيارة نوع كيا ميكروباص 11 راكب وهي متهالكة ومقاعدها ممزقة وغير مريحة للجلوس بحسب نص التاليف ، لكن نص الاخراج عمد على تفكيك هذه السيارة تفكيكا جماليا مؤطرا بما تقتضيه رؤية المخرج الفلسفية للعرض، بغية التخلص اولا من ايقونة السيارة واقعيا، والتحليق مكانيا بفرضية اخراجية شكلية تحتكم الى التحولات المنظرية لفضاء السيارة/فضاء العرض نفسه عبر كثير من التحولات الدلالية للشكل التجريبي المبتكر، والذي يتواءم ونظرية خطاب العرض . حدوته بسيطة لكنها منقوعة بالخسارات الانسانية والانتظارات الخاوية والمنكسرة، فزوجة الشهيد السابق / الخائن حاليا، وابن الخائن السابق والشهيد حاليا، كلاهما يلتقيان في هذه الكيا وسائقها العبثي المتمرد هو الاخر على ماضيه المفعم بالخسارات والويلات، يرومون الذهاب جميعهم الى حي الشهداء حاملين ملفات موتاهم حيث دائرة الشهادء المختصة بالفوز بمكتسابتهم المادية المليونية جزاء دماء ضحايا شهدائهم. وفي الطريق يصعد معهم شخصية (هو) الغائب او الهارب عشرين عاما لنعرف انه الوالد الشرعي للابن لتتضح الحقيقة في انه لم يمت او يعدم سابقا ، فيرفضه ابنه طالبا منه العودة من حيث أتى وكذلك زوجته ترفضه ايضا، لأنهما (الزوجة والابن) همهما اليوم الفوز بالمكارم المادية والعيش بكرامة نتيجة ما عانوه من شضف العيش وقسوته ومرارته وجوعه طيلة سنوات موته أو استشهاده أو غيابه. ليقرر الجميع دفن (الاب / الخائن سابقا / الشهيد حاليا) يقرروا دفنه حيا، ويقرءون عليه سورة الفاتحة علنا وبلا تردد من اجل الكسب بالمغانم وتحقيق احلامهم المؤجلة، ليتحولوا في النهاية لمجرمين قتلة بعد تساقط اقنعتهم. ويظل الذي كان ضحية الزمنين: السابق والحالي، يظل ضحية ابدية، أو أضحية الهية خاضعة لقدرها، فرمزية الأب ترتبط غالبا بالتاريخ، وهكذا هو التاريخ هنا مختنقا بين ان يكون ضحية أو أضحية . خطاب العرض الاخراجي عمل على تشخيص الفكر المتواري بين ثنايا النص، بل وتجرأ على الغوص فيه معلنا المخرج ابراهيم حنون هنا غوصه اعماق هذا الفكر المسرحي فلسفيا وجماليا وببساطة منظرية من نوع السهل الممتنع، وبقطع ديكورية بسيطة في بادىء الامر لكنها قلبت كيان الفضاء المسرحي بتحولاتها وتشكيلاتها الصورية المتناغمة مع النغمات الصوتية المؤثرة عاليا في دغدغة المشاعر الانسانية المحفورة في الذاكرة الثقافية الغنائية العراقية، بوصفها مرجعية واحدة لكلا الجيلين الذي عاشوا مدة ما قبل عام 2003 ومابعده. وكان هذا الزمن الدرامي الفاجع بصراعه الثنائي الجدلي، قد حصره المخرج – لا في حرب مدتها عشر دقائق حسب النص – بل في حرب وصراع مدته (ليلة ويوم) وهي خالدة المطرب العراقي الراحل سعدي الحلي. .. فبين ليلة وضحاها يقول الابن لأبيه (الميت / الحي) : “وجودك في حياتنا يعني موتا لنا أيها الشهيد” .. لتنقلب هنا قوانين الحياة، وتسقط الأقنعة، وتموت القيم التي من أجلها أعدموا صناع الحياة الحق وتعذبوا كثيرا من أجلها. الممثلون في هذا العرض كشفوا عن مشروعية تنافسهم فيما بينهم، بحكم خبرتهم الادائية وتحديدا اسيا كمال وقحطان زغير واحمد شرجي) وقد انبرى شرجي مائزا عنهم برسوخ ورصانة الاداء الباذخ والواضح صوتا وحركة وفعلا نفسيا داخليا. اما الفنان الشاب مهند علي فقد انتصر في تفعيل ادائه وسط هذه الخبرات بل ونافسهم في الكثير من المواقف والمشاهد المتراتبة وخاصة تلك التي استندت على فكرة مسرح داخل مسرح او التمثيل داخل تمثيل. فقد حقق فيها العرض ايقاعا مختلفا وماتعا عن بقية مشاهده وخاصة ذلك المستوى الاول من المشاهد التي انحصرت في خط افقي واحد، لكنها حين زحفت الى اعماق الفضاء شيئا فشيئا اتخذ العرض فضاءا وايقاعا وجمالا مختلفا هو الاخر، لاسيما في نهايته حين عاد بنا العرض الى فضاء الاوركسترا، ليخلق منه قبرا للميت الحي، لينزل به الى أعماق الموت قسرا.. فيا للفاجعة.. يا للكارثة .. يا لها من رسالة عرض مسرحي صفعتنا جميعا في اعماق اعماق ما تبقى من آدميتنا .
المصدر :
د. محمد حسين حبيب