منذ بدايات عام 1964، وبعد أن أتم يوسف إدريس نشر مقالاته الثلاث بعنوان «نحو مسرح مصري» في مجلة «الكاتب» القاهرية، بدأت الساحة العربية تشغل نفسها بالعديد من الدراسات النظرية التي تدعو إلى إحداث وقفة تأمل موضوعية لما نُنتجه من فنون عامة، وما نُفرزه من فن مسرحي خاصة؛ ذلك لأن أصحاب هذا الاتجاه وعوا أن الفن المسرحي العربي المعاصر حتى ذلك الوقت هو فن منقول عن الفن المسرحي الغربي، ثم دعوا إلى ضرورة وضع ملامح عربية تميز مسرحنا عن غيره من المسارح الإقليمية الأخرى، معللين ذلك بأن الفنون جميعها هي ابنة شرعية للأرض التي تنبت فيها، وتحيا عليها وهي بشكل عام تعكس لوحة صادقة لوجدان وفكر مبدعها.
يرى عصام الدين أبو العلا في كتابه «المسرحية العربية الحقيقة التاريخية والزيف الفني» أن الدعوة إلى مسرح عربي خالص، قد وشح تلك الدعوة بثوب سياسي فضفاض، وكان من الطبيعي أن تصاب تلك الدعوة بالفشل؛ لأنها ولدت وكبرت على أرض مخطط دعائي. ويتناول المؤلف في هذا الكتاب المسرح العربي كحقيقة تاريخية، فيقدم دراسة تحليلية لمسرح الأراجوز المصري، موثقة بالصور الحية، إلى جانب احتواء القسم الأول من الكتاب على دراسة تعنى بالملامح العامة للمسرح العربي الشعبي.
ويتعرض القسم الثاني من الكتاب لتجربة يوسف إدريس النظرية والدرامية في «نحو مسرح مصري» ومسرحيته «الفرافير»، ثم يتعرض لتجربة توفيق الحكيم في كتابه «قالبنا المسرحي» بما تشمل عليه من رؤى نظرية وتطبيق درامي، حيث يؤكد المؤلف أن المسرح العربي الشعبي حقيقة تاريخية، وعلينا أن نتمثل ملامحه الجوهرية في إبداعاتنا المسرحية، على ألا نصيب أنفسنا بالتخلف بدعوى تأصيل زائف؛ بل يجب أن نختار من كل ما يكشف عن حقيقة طبيعتنا فيه ثم ننشئه في شكل عصري يتناسب ومقتضيات حياتنا الآنية.
الجمهور الغائب
ويوجز المؤلف تصورات يوسف إدريس عن «ضرورة مسرح مصري» في أن المسرح الغربي ليس سوى أحد الأشكال المسرحية، وهو ليس الوحيد، بدليل أن مسرحي الصين واليابان مختلفان عن المسرح الغربي تماماً، ويدعو إدريس إلى ضرورة اشتراك الجمهور في عملية «التمسرح»، وبذلك يكون الجمهور عنصراً فاعلاً في عملية «التمسرح»؛ إذ ليس دوره منحصراً في وجوده كمتفرج سلبي، وضرورة تأكيد أن «السامر» و«مسرح الحواري» و«خيال الظل» و«الأراجوز» أشكال مسرحية صريحة، وينبغي الاستفادة منها.
ويرى إدريس أن هناك مسرحاً مصرياً كائناً في حياتنا وموجوداً، لكننا لا نراه، لأننا نريد أن نراه مشابهاً ومماثلاً للمسرح الأوروبي، الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعرّبناه ونسجنا على منواله منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواسط الستينات. ويقول: «لقد آن الأوان لأن نحترم ذاتنا وما تفرزه من فنون، إننا شعب متكامل له أغانيه وموسيقاه ورقصاته ومسرحه».
مسرحية «الفرافير» التي أراد منها يوسف إدريس أن تكون نموذجاً تطبيقياً لتلك الأفكار، لم تتفق تقنياً مع الملامح العامة للمسرح العربي القديم، إلا في تقنية التوجه المباشر للمتفرج في بداية المسرحية، وهنا يشير المؤلف إلى أنه على الرغم من أن توفيق الحكيم كتب مؤلفه المهم «قالبنا المسرحي» عام 1967 بعد أكثر من ثلاثة أعوام من مقالات يوسف إدريس «نحو مسرح مصري»، فإنه (الحكيم) لم يشر إشارة واحدة إلى هذا الإنجاز، الذي كان بمثابة قنبلة إعلامية، في تأثيرها في الحركة المسرحية، وربما يكون الحكيم قد قصد من وراء هذا التعتيم إبراز نظرية أخرى من نظريات الإبداع المسرحي العربي الخالص، دون الخوض في مناقشة نظرية أخرى يختلف معها.
وقد قلد الحكيم سابقة إدريس في وضع إطار نظري مثلما فعل إدريس في مقالاته، ثم ألحقه بتطبيق درامي، كما فعل إدريس عند كتابته لمسرحية «الفرافير»، كل ذلك دون أدنى إشارة، إنه إنكار متعمد من قبل توفيق الحكيم تجاه إنجاز يوسف إدريس، إنكار على حد تعبير المؤلف يخفي من الذكاء والفطنة، بقدر ما يظهره من حرص ومراعاة لأصول اللياقة الاجتماعية الفرنسية في أنقى صورها.
تقوم نظرية القالب المسرحي العربي عند الحكيم على أساس تهجين عناصر شعبية وسيطة، بعناصر من الدراما العالمية ذات المستوى التقني العالي، يقوم بدور الوسيط الشعبي هنا: الحكواتي والمداح. ويوضح الحكيم أن هذا النوع من المسرحيات لا يحتاج إلى خشبة مسرح أو ديكور أو إضاءة أو ماكياج أو ملابس؛ إذ يعتمد هذا المسرح على القدرة الفنية التي يتمتع بها الحاكي والمداح، حيث يظهران بشخصيتهما العادية وبملابسهما ليُحدثا أعمق الأثر في المتفرج.. إنه المسرح الشعبي في أبسط أشكاله وأرقاها في نفس الوقت.
https://www.alkhaleej.ae/