«سوناتا الخريف» (Sonate d’automne) هو عنوان النص الذي ألفه السينمائي السويدي الراحل إينغمار برغمان، قبل أن يحوله إلى فيلم عام 1978، ولعب دور البطولة فيه آنذاك كل من النجمة الراحلة إنغريد برغمان وليف أولمان.
وتروي حبكة هذا العمل الدرامي العلاقة المتوترة التي تجمع امرأة بابنتها، والتي تتبلور في أثناء ليلة ممطرة تأتي فيها الأم لزيارة الابنة وزوجها في بيتهما الريفي وتمضية أربعة أيام بصحبتهما لتنسى الحزن الذي ينتابها إثر موت زوجها الثاني. إلا أن اللقاء بين الطرفين يتحول بسرعة إلى تسوية حسابات، لا سيما من جانب الابنة التي تعيب على أمها أنانيتها وعدم المبالاة بأي شيء سوى نشاطها الفني كعازفة بيانو موهوبة ومشهورة.
وتبدأ كل واحدة من السيدتين إحياء ذكريات الماضي، تلك التي تنظر إليها الوالدة على أساس أنها مليئة بالحنان بل بالتضحيات من جانبها، بينما تعتبرها ابنتها زاخرة بالتصرفات الوحشية تجاهها وتجاه أختها الصغرى المعوّقة، بل حتى تجاه والدها، الزوج الأول للأم. وعندما تسمع الأم خبر قدوم ابنتها الصغيرة في اليوم التالي تدّعي تلقّي مكالمة هاتفية في غاية الأهمية ترغمها على العودة فوراً إلى المدينة. وفي النهاية تكتب الابنة رسالة إلى أمها طالبة منها الغفران بسبب العبارات الجارحة التي تفوهت بها تجاهها، الأمر الدال على مدى خضوع الابنة لسيطرة الأم أياً يكن الأمر.
هذه الحبكة الدرامية الشيقة، قررت الفرنسية ماري لويز بيشوفبيرغر تقديمها فوق خشبة مسرح «تياتر دي لوفر» Théâtre de l’œuvre الباريسي، معتمدة على ثلاث شخصيات هي الأم والابنة وزوج الأخيرة، ومكتفية بذكر الأخت المعوقة، على عكس ما فعله برغمان في فيلمه حيث كانت الأخت إياها تلعب دوراً أساسياً في تسلسل الأحداث، ولكن السينما تتمتع بإمكانات ليست دائماً متوافرة في المسرح.
واختارت بيشوفبيرغر الممثلة المرموقة فرانسواز فابيان (80 سنة) لأداء شخصية الأم، وهي فرنسية إسبانية مولودة في الجزائر، نالت العديد من الجوائز الدولية عن أدوارها المسرحية والسينمائية. في حين أسندت دور الابنة الثائرة والخاضعة في آن واحد، إلى رشيدة براكني (36 سنة وزوجة لاعب كرة القدم السابق إيريك كانتونا)، الجزائرية الجذور والتي دخلت فرقة «لا كوميدي فرانسيز» الوطنية في العام 1997 وحصلت في العام 2002 على جائزة «موليير» كأفضل ممثلة عن دورها في مسرحية «روي بلاس» لفيكتور هوغو، ومستحقة بعد مضي شهر واحد على الحدث جائزة «سيزار» السينمائية عن مشاركتها في فيلم «فوضى» من إخراج كولين سيرو، الأمر الذي دفع بها إلى مغادرة الفرقة الوطنية والتفرغ للشاشة الكبيرة فترة معينة.
وها هي براكني تعود إلى المسرح في «سوناتا الخريف» مقدمة الدليل على أن الفرقة الوطنية خسرت مع رحيلها عنها فنانة بارزة قادرة على العطاء الدرامي المميز وذات وجود راسخ فوق الخشبة وصوت قوي يهز المشاعر تجيد رشيدة براكني استخدامه واللعب بنبراته الواضحة، إضافة إلى موهبتها الموسيقية، فهي تعزف على البيانو في أثناء العرض حال ما تفعله فانسواز فابيان بدورها في خلال مشهد موحد طويل يثير إعجاب المتفرجين بالممثلتين. وعلى رغم الوصلة الدرامية الهائلة التي تقدمها فابيان من أول العرض إلى آخره، لا يمكننا تجاهل تلك التي شاهدناها من براكني في سهرة افتتاح المسرحية، والجديرة بأفضل ما يتسنى رؤيته فوق خشبة فرنسية كانت أم أجنبية. فهي تهمس وتصرخ وتضحك وتبكي، وفوق كل ذلك تصمت لحظات طويلة وتبرهن للمتفرج أن الصمت لا يقل صعوبة في الأداء أو قدرة على الإقناع عن التعبير بواسطة الكلمات.
ويؤدي إيريك كاروزو دور الزوج برصانة مثيرة للتقدير في مواجهة الشخصيتين النسائيتين القادرتين على «التهام» كل ما قد يعترض طريقهما. والمسرحية مستمرة حتى 24 كانون الثاني (يناير) 2014.
الحياة