لا يمكن الكلام على الكاتب المسرحي السويدي / سترندبرج / بمعزل عن انجازاته الثرة وعن تأثيره في المسرح الأوروبي، حيث شكّل مع أبسن وتشيخوف المعاصرين له قوة ابداع جارفة أمدّت هذا القطاع الفني مع نظرائهم بطاقات تجديدية لا مثيل لها. استشرف واعتمد جميعَ المدارس الفنيّة: التأريخية والواقعية والنفسية والتعبيرية. كما تعمّق في تناول الحلم واللاشعور، والصراع بين الروح والجسد. فلا يتسع المجال في هذه العُجالة لأن أمرّ على كلّ مسرحياته ومضامينها المُتنوعة. وبوسع مَنْ يروم التعمّق في دراستها أن يرجع اليها ويلمس فيها ايقاعه الفني والفكري. وبرغم انّه توقف عن الكتابة خلال 1892-1889 بسبب اصابته بالجنون، الّا أنّه عاد بدينامية عجيبة ليواصل مسيرته ويكتب بعدئذ ٍ افضل مسرحياته. وربّما لتأثره بفلسفة نيتشة وشوبنهور وفرويد كان له ثقلٌ إبداعي وتألقٌ موضوعي. كما أنّه يُعدُّ رائد مسرحية الغرفة التي تعنى بصغر حجم صالة العرض، وخشبة المسرح التي تكون مختصرة، تخلو من المبالغة.. …………. هنا / في لوحاته الثلاث / فكرُه مُشتتٌ، عدواني، شرسٌ، يُعرّي نفوسَ ابطالها، لا ومضة فرح ترعشُ، ولا رحمة تُعشبُ بين الضلوع. بل حقدٌ يتنامى أو يتوارى وراء المجاز واللغز. فمَنْ لم يكنْ ذئباً اكلته الذؤبانُ. وهكذا كان الأبُ في / البَجَعَة / ضحيّة طِيبته. امراتُه حمّالة ُغدر ودهاء، كانت تُسيّرُها أهواؤها النزقة المُستغرقة في أنانية خارجَ مألوف النبرة الإنسانية. لذلك افضى سترندبرغ عليها كلّ الصفات اللابشرية: تأكلُ هي وتجوّعُ غيرها، تخون زوجها مع الصهر الخؤون، تسرق مصروفَ البيت لإشباع رغباتها الآنية. وقد جرّدها من كل خصال بشريتها وبدَتْ من مبتدأ ظهورها بشعة َالتصرف والمنطق والدخيلة حتى نهايتها الفاجعة. وكان الأبُ الغائبُ في مثواه حاضراً على السنتهم كما لو كان واحداً منهم يؤدي دوره معهم. وتلك ميزة ُ المؤلف حين يستدعي مَنْ ليس موجوداً ليكون ذا حضور فعلي. والأبطالُ كلهم ممسوسون بعاهات اجتماعية توارثوها جيلاً فجيلاً. وبؤرتُهم كانت الأمَّ. لذلك لا بدّ للإبن في لحظة فقدان توازنه ان يضرم النار في البيت ليحترق كلّ شيء ويحترقوا. وكأنّي بسترندبرج اراد القول: ينبغي اعدامُ المخطئين لإلغاء الخطأ. في البَجَعَة تزحم كلُّ صفات الشرّ في مخلوقاتها. وبعد أن تمفصل فيها لدن هذا وذاك وعرّاها. أطفأ ضرامها ليعود السياقُ الأدمي الى محوره الطبيعي. ولنسمع الى بعض الحوارات: – كان دائماً في سراويل بالية وياقة مُمزّقة، في حين كنا نلبسُ ملابس تليق بابناء النبلاء / تقول جيردا عن والدها المغدور. – ليس الذنبُ ذنبي إن كان يُفضّلني عليكِ.، ربّما وجدني أكثرَ سحراً، اجل، لقد كان ذوقُه أفضل من ذوق ابيك الذي لم يكن يُقدرّني حقّ قدري / الأمُ حين تتحدّثُ عن علاقتها بصهرها. – أتعرفين شيئاً عن طفولتي؟ أتدركين في أيّ بيت سيء ترعرعتُ / الأمُّ تُخاطب ابنتها. فلمَ اختار المترجمُ هذه المسرحيات القصيرة الثلاث: / ” لكنّ البجعة وإنْ بدَتْ أقلَّ عمقاً من // الأشباح // الّا أنّها أكثرُ شاعرية ً، وروحُها المشوبة بالموسيقى والإيقاع تُعطي المُخرج والمُمثلَ مساحاتٍ واسعة من الإيقاع ” / المقدمة. / وفيها جوانبُ كثيرة من حياة المؤلف، حتى أنّ شخصية أكسِل تُمثلُ صوتَ الكاتب الى حدٍّ بعيد، مقدمة: اللعب بالنار / في الآونة الأخيرة كتبتُ مسرحية بديعة على منوال: ادغار ألان بو، سميتُها: ” السموم “. جعلتُ ريحَ الصحراء قوة ً تُطلقُ الرؤى المُرعبة التي تقودُ رجلاً فرنسيّاً الى الإنتحار…. مقدمة: السموم / المُنطوية على نفَسٌ شرقي في الدهاء والمكر حيثُ يقتلُ الضابط الفرنسي لا بالرصاص، بل بذكاء انثوي. وربّما اراد سترندبرج أن يستبق الزمن ويتكهن باندحار الهيمنة الفرنسية من خلال موت / جيمارد /… وبرغم قصر مساحة السموم الزمنية فهي تحتشدُ بالرموز والإشارات. كثافة في الطرح، اقتصاد في العبارة، غنى في الإيحاء والدلالة. تبدأ السموم وتنتهي كما لو كانت ومضة، لكنها تترك موحياتها في المُشاهِد زمناً يطولُ أويقصر. ولئنْ سألنا كيف استطاع سترندبرج أن يتكهن بنهاية الإستعمار الفرنسي في عام 1889؟ الجوابُ إنّ الفرنسي لم يكن في المكان المناسب، فهوغاصبٌ احتلّ أرضاً، ولأيّ أرض اصحابها، فان قُمعوا ردْحاً فلا بدّ أن يأتي وقتٌ تال ينتفضُون فيه ويستردّون ارضهم وكرامتهم. كلّ شيء يمكن الإفراطُ به سوى الوطن. وتلك صفحات التأريخ مُكتظة بقصص النضال والمقاومة الشرسة. كما أنّ سترندبرج يمتلك ثقافة مشرقية هي مُحصلة ُ قراءاته ورحلاته. وما يُعزّزُ رأيي مسرحيته الرائعة / حذاء ” ابو قاسم الطنبوري ” التي حظيت بشهرتها الواسعة في العالمين الشرقي والغربي. وانْ كانت السموم ُمسرحية قصيرة فلغتُها شعرية ايمائية مُكثفة صادمة تضجُّ بالكرَه لكن من منظور نضالي بحت. واللعبُ بالنار هي أيضاً مثوى الأحقاد والتناحرات والخيانات، وخللَ عشرين مشهداً يتنامى الصراع عصفاً وهدوءاً، لكنها تعرّي كوامن ابطالها. ولا أدري من أين يلتقطُ سترندبرج هذه النماذج المستغرقة في عاهات اجتماعية بغيضة، بعضها متأصلة فيها، والاخرى طارئة تظهر وتختفي. بينما نبضُ الحياة يظلّ يمورُ ويتفاعل ويتحاور بانسيابية أكثر ممّا هو في البجعة. وربّتما ثمة أوجهُ شبه بينهما فكراً وطرحاً ومكاناً. كلتاهما عن المجتمع السويدي / نهاية القرن التاسع عشر ومبتدأ القرن العشرين. ولا أظنّ أنّ مَنْ عايش تلك الفترة الزمنية يشعر باختلاف البيئة والمرحلة بين افول قرن وولادة آخر. الإنسانُ هو نفسه سلباً وايجاباً. واذا كانت هذه المسرحيات يُمكن اداؤها ضمن مساحة مُعيّنة لا تحتاج الى تغيير أو اضافة ديكورات أخرى، فان حركة الممثل واداءه التعبيري وكثافة الحوار تقطع وتيرة الملل التي يُمكنُ ان تعرو الحضور. اللعب بالنار مُفعمة ٌ بمشاعر الإنكسار والخيبة والضياع. لكن ِ المشهدُ العشرون يشي بعودة الأمور الى طبيعتها برغم موجة العصف والطوفان التي عشناها عبر المشاهد السابقة ما عدا حضور اكسل / سترندبرج نفسه /: لن ننتظره مطلقاً، لقد رحل / يقول الإبن… / ياله من سيّد غريب الأطوار / تقول الأمّ. على أيّ حال، تمتاز هذه المسرحيات الثلاث عن سواها من مسرحيات الكاتب المُترجمة الى العربية أنّ المُترجم عليم باسرار اللغة السويدية ويُتقنها مثل ابناء السويد، وهو في الوقت نفسه خبيرٌ أكاديمي، ومخرجٌ مطلع عليمٌ بسياقات تطوّر المسرح السويدي، عايش بعضَ مراحلها. وعمل في مسارحها. كما أنّه ترجمها مباشرة ًمن اللغة السويدية، لذلك لم يفته ما يستعصي على غيره من اشكالات لغوية. وفي ظنّي أنّ الطبعة الثانية هذه ستحظى بامتياز استثنائي، ولا سيّما أن الهيئة العربية للمسرح في الشارقة هي المشرفة على طباعتها. لكنْ / قبل أن اختتم كلامي / لا بدّ من أن ابدي ملاحظات على هذا الكتاب: – قلت إنّ فاضل الجاف ترجمها عن اللغة الأم، لكني أعني أيضاً أنّه ليس بمترجم عابر كونه يتقن اللغة السويدية، بل منخرطٌ في حياة هذا المجتمع، عارفٌ بتفاصيل العادات والتقاليد ودلالاتها وايحاءاتها المستترة والظاهرة. لأنّ أيّة عبارة / وفي جميع اللغات / ستكون مشحونة احياناً باشارات مكتومة لا يُلامسُها الّا مَنْ انغمسَ في دخيلة المجتمع ولغته. وتغوّر في معاناة المؤلف وشخوص ابطاله. بينما يكون حظ ُّمَنْ يُتقن اللغة الإنجليزية عند ترجمته نصّاً / على سبيل المثال / من خلال الدراسة لا بسبب المعايشة في المجتمع الإنجليزي دون المؤمل والطموح. وقد قرأنا نماذج لترجمات شكسبير وأليوت وغيرهما لعدد من المترجمين العرب، وبين كلّ احد منهم بونٌ واختلاف. من هنا نستطيع أن نتنسم في ترجمة الجاف الرحيقَ الاجتماعي والروحي السويدي لأغست سترندبرج. – فاضل الجاف عراقي سويديّ الجنسية، يعيش في ستوكهولم من منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ألمّ بلغة هذا البلد بكلّ تفاصيلها، واوغل روحاً وذائقة ودراسة ومراناً في الجو المسرحي الأوربي المتقدم على سواه، سواءً عبر ورشات التدريب والعمل والتدريس والمحاضرات في العواصم الأوروبية والعربية، لذا تجيءُ كتبُه وكتاباته ومحاضراته وترجماته رصينة أمينة تنم عن خبرة وأصالة. كما يُمكنُ القولُ: إنّ ذي المسرحيات حظيت بعناية علمية وابداعية تضعها في خانة لا مثيل لها. – لم يُغامر الجافُ في اعتماد لغة التقعّر والفذلكة واختياراللفظة المستعصية في الترجمة، ارادها سهلة موحية وشعرية تستجيبُ لها ذائقة القاريء والمشاهد حين تُمثلُ. – وربّما سيجد قرّاءٌ آخرون ملاحظات ايجابية فاتني ذكرها. لأنّ لكلّ قراءة موحى يختلف من أحد لآخر، وأظنّ أنّ أموراً كثيرة ستظهر حين يكون الكتاب بين ايدي القرّاء. أو عند عرض المسرحيات الثلاث على مسارحنا.. ولنسمعْ ما تقولُ عنه الهيئة العربية للمسرح: / لأنّ الجاف موهبة ٌ مسرحية نادرة، له باعٌ طويل في المسرح ابداعاً وتنظيراً وتأطيراً علمياً وعملياً ممّا يخلقُ مساحة مشتركة مع الآخر للمعرفة والخبرة والتلاقح في مستوى ما ابدعه دون ان تفقده الترجمة ُ روحه وملامحه / الجديدُ فيها / اعني هذه المسرحيات / انّها تختلف طرحاً ومضموناً عن سائر مسرحيات سترندبرج التي قرأناها وشاهدناها: قصيرة، مُفعمة بالشاعرية التي تُخفف من غلواء الحقد والشرّ التي يتصف بها ابطالها. وفيها دروسٌ حكمية واجتماعية تُبعدنا عن الأخطاء. الكتاب: أغست سترندبرج ثلاث مسرحيات ترجمة: د. فاضل الجاف الطبعة الثانية: 2013 الهيئة العربية للمسرح الشارقة –
أحمد محمد أمين