“غنام غنام” يسرد مأساة الحالمين بحق العودة إلى أوطانهم في “سأموت في المنفى” – عبد الكريم الحجراوي
ربما يكون غنام غنام محقًا في تساؤله حول النوع الذي تتنمي إليه مسرحيته “سأموت في المنفى.. بدل فاقد” التي عرضت في العديد من البلدان العربية مصر وتونس، المغرب، السودان، الإمارات، قطر، البحرين، سلطنة عمان، الكويت، الأردن، فلسطين، الجزائر، بما يتعدى الستين عرضا، ولقيت تجاوبًا كبيرًا نقديا وجماهريًا، وصدى واسعًا في الأوساط الأدبية ولدى النقاد، وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي.
فعرض غنام “سأموت في المنفى” يتفق مع المونودراما في بعض خصائها المعروفة ويختلف في خصائص أخرى، فالعرض بشكل عام يتناول مأساة اللاجئين الفلسطينيين، الحالمين بالعودة إلى بلادهم التي هجروا منها قصرًا على يد الاحتلال الصهيوني، فالعرض سيرة ذاتية لغنام غنام وأسرته وكيف هي حياتهم في المنفى الإجباري، سيرة ذاتية لكل لاجئ فلسطيني مفتوحة أمامه كل بلاد الدنيا إلا بلاده، محروم من سماع نداء الطائرات المتجهة إلى ارض أبائه وأجداده، محروم حتى من الدفن في ترابها بعد الموت، مأساة ملايين الفلسطينيين اللاجئين، ومأساة العرب جميعًا من الخليج إلى المحيط، مأساة عمرها أكثر من سبعين عامًا، سلط عليها الضوء عرض “سأموت في المنفى” بشكل مميز، عرض رغم مأساويته تسمع أحيانًا ضحكات الجمهور، متحقق فيه المثل العربي القائل “شر البلية ما يضحك”.
ولتحديد الخصائص التي يتفق فيها عرض “سأموت في المنفى” والأخرى التي يختلف فيها عن المونودراما، ربما يجب أن نلقى نظرة تاريخية تكشف كيف بدأ هذا النوع من المسرح في الغرب، وهل كان له نظائر في التاريخ العربي القديم أم أنه نقل إلينا نقلًا فيما نقله العرب من الغرب.
فقد بدأ المسرح الإغريقي في صورته الأولى بشكل ما يقترب من المونودرامية إلى أن جاء إسخليوس وأضاف ممثلًا ثانيًا، ثم أضاف سوفكليس الممثل الثالث وكذا المناظر المسرحية، وقد كان البطل في المسرحيات الإغريقية الأولى ينفرد بالحديث مدة طويلة إلا أن الكورس كان حاضرًا في هذا المسرح يستمع ويجيب ويعلق على حديث البطل ما كان ينفي على البطل الواحد تفرده بخشبة المسرح.
ومع بداية الحركة الرومانسية في الغرب بالقرن الثامن عشر التي قدست فردية الفرد ونادت بالثورة على التقاليد والأنظمة المورثة راجت المونودراما كشكل فني مرتبط بالفكر الرومانسي، وقدمت الكثير من النصوص المسرحية المونودرامية، وقد أدى تقديس تلك الفردية إلى انزواء العروض المسرحية في عالم الغيب والرمزية وابتعدت عن الواقع، ورفعت شعار خلاص الفرد على حساب خلاص الجماعة، وازدهرت المونودراما في القرن التاسع عشر أيضًا على أيدى التيار التعبيري في ألمانيا وروسيا، وكانت تبحث كسبقتها على الخلاص الفردي، وقد ولد هذا التيار التعبيري الرومانسي حركتين من المسرح _كما تقول الدكتورة نهاد صليحة في كتابها “التيارات المسرحية المعاصرة”_ الأولى تهتم بالمجتمع وقضاياه مثل مسرح بريخت وبسكاتور، والحركة الثانية المسرحية سحبت الفرد عن دائرة المجتمع وصورته في إحباطاته ووحدته ويأسه وهو ما انحازت له النصوص المونودرامية ووجد فيه كتاب العبث مثل “بيكت” ضالتهم للتعبير عن رؤيتهم العبثية التي تقوم على عزلة الفرد، واستحالة التواصل، واليأس من الحلول الاجتماعية.
فالمونودراما إذا كانت في الغرب بنت الفردية، والبحث عن الخلاص الفردي على حساب الخلاص الاجتماعي، الأمر الذي يطرح تساؤلات مهمة ألا وهي، هل كان عرض “سأموت في المنفى” نابع من هذه الفردية والرؤية العبثية؟ أم أن يتبع تقليدًا عربيًا قديمًا متوارثا؟ وإن كانت هناك أشكال مونودرامية عربية، تشبه المونودراما الغربية حتى لو من ناحية الشكل فقط، فكيف وظفها غنام غنام في عرضه “سأموت في المنفى”؟.
عودة للتاريخ
وهذه التساؤلات تدفعنا إلى العودة إلى التاريخ العربي الممتد وحاضره أيضًا، فاحتكار ممثل أو شخص لخشبة المسرح أو منصة مرتفعة أو توسط حلقة جمع، له الكثير من الشواهد التي تدعمه، فقد كان القصاصون منتشرين في بغداد، يقصون على أهلها النواد والحكايات، وهم يمثلونها تمثيلًا بتقليد لهجات النازليين ببغداد، من أعراب، وفرس، وخرسانيين، وهنود، روم، وقد نقل “الجاحظ” لنا صورة دقيقة لفن هؤلاء الحكائين الممثلين الذين يتخذون مادتهم من الواقع المباشر فيقول ” إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئًا، وكذلك تكون حكايته للخرساني، والأهوازي والزنجي والسندي والأحباش وغير ذلك، فإذا حكى كلام ” الفافاء” فكأنما قد جمعت كل طرفة في فافاء في الأرض في لسان واحد، ونجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد من ألف أعمى واحد يجمع ذلك كله، فكأنما جمع جميع طرق حركات العميان في أعمى واحد….إلخ”. وكذلك راوي السيرة الشعبية الذي يتفرد بالحديث عن أبطاله ويتقمص شخصيات سيرته وأفعالهم، وهناك أيضًا خطيب الجمعة الذي يسرد على جمهوره سيرة النبي وسير الأنبياء والصحابة، ويحكي عن أهل الجنة والنار فيذيع صيته حسب قدرته على تمثله لمن يحكي عنهم على منبره.
فاحتكار شخص واحد لمنصة أي كانت نوعها مسرح منبر تلة مرتفعة، ليس غريبًا على البيئة العربية، وعلى ذائقة أبنائها، وإن كانت ترفض الدكتورة نهاد صليحة هذا الطرح أثناء رصدها لأسباب انتشار المونودراما منذ سبعينيات القرن الماضي في مصر والوطن العربي، خاصة وأن هناك العديد من المهرجانات التي تقام له في العديد من البلدان العربية أن يكون سبب هذا هو وجود نظائر في الأشكال الشعبية المصرية والعربية بقولها “إن هناك فارق واضحًا وجوهريا بين المونودراما والرواية الشعبية، إذ إن الراوي الشعبي يحتفظ في عرضه بالبعد الروائي الذي يقدم منظورًا نقديا يتجادل مع المنظور العاطفي الذي يطرحه الجزء التشخيصي من عرضه، بينما المنودراما الغربية ينتفي فيها المنظور النقد الروائي، فالممثل فيها يحاول أن يمتص وجدان المتفرج داخل حلبته، وأن يستولي على مشاعره تماما بمهارته الأدائية وأن يجعله جزءا من عالمه بحيث يعتنق تماما نظرته إلى الأشياء، أما الراوي الشعبي فهو يدخل الشخصية التي يمثلها ثم يخرج منها على التوالي بحيث لا يطغى منظور الشخصية التي يتقمصها على المنظور السردي التعليقي”.
وربما ينطبق كلام الدكتورة نهاد صليحة على المونودرامات العربية المنقولة عن الغرب نقلًا وسارت على غرارها كما يوحي عنوان مقالتها “المونودراما الدلالات الفكرية لهذا الشكل الفني الغربي”، ولكن لا ينطبق على مونودراما “سأموت في المنفى” لغنام غنام ذات البعد العربي الواضح، كما أن الراوي في السيرة الشعبية _على عكس وما وصلت إليه الدكتورة نهاد صليحة_ يسعى إلى امتصاص وجدان المتفرج داخل حلبته، ويسعى إلى جعل سامعه يتبنى ما ينبانه بطلة من أفكار ، كما أن أي فن يسعى إلى أن يستولي على المتفرج أو القارئ وجدانيًا وعقليًا وإلا فشل في إيصال رسالته الجمهور أي كانت هذه الرسالة.
قضية إنسانية
وإذا كان من خصائص المونودراما أن تفصل البطل عن محيطة الاجتماعي، فهذا لا نجده في مونودراما “غنام غنام” فعلى المستوى الاجتماعي العام فعرض سأموت في المنفى يناقش قضية اجتماعية لا تهم الفلسطينيين اللاجئين وحدهم، وإنما تعرض قضية إنسانية عامة، تهم الإنسانية جمعاء لا العرب وحدهم، وإذا كان التيار التعبيري الرومانسي في القرن التاسع عشر قد ولد حركتين من المسرح، _كما ذكرنا من قبل_ الأولى تهتم بالمجتمع وقضاياه مثل مسرح بريخت وبسكاتور ، والحركة الثانية المسرحية سحبت الفرد عن دائرة المجتمع وصورته في إحباطاته وحدته ويأسه وهو ما انحازت له النصوص المونودرامية ووجد فيه كتاب العبث مثل “بيكت” ضالتهم، فإن عرض غنام غنام رغم مونودراميته يهتم بقضية مجتمعية تهم شريحة واسعة وتسلط الضوء على مأسيها، في حلمها بالعودة إلى أرض الأباء والأجداد، ولم يغرق العمل في الفردية، فإن كان العرض يتناول سيرة أسرة غنام غنام، ولكنها في إطارها العام تشبه ما هو موجود في المسرح البريختي حين يسلط الضوء على شخصية ما ولكن هذه الشخصية تمثل قضية مجموعة كاملة أو طبقة معينة، ترمز إلى معاناة هذا الجماعة وما تصبوا إليه، فالبطل في مسرحية سأموت في المنفى كما هو في المسرح الملحمي ليس له مكانه بارزة بصفته الفردية، وإنما هو رمز المصير الجماعي فكما تقول دكتورة رنيا فتح الله ” الإنسان في مسرح بريخت لم يعد هو نقطة الارتكاز كشخص مستقل بذاته، بل إنه يشغل هذا المكان من خلال تعامله مع الواقع الموضوعي ” وان كانت هناك مسرحيات لبريخت تشتمل على أسماء بعينها ” كجاليليو ” ، أو” السيد بونتلا ” أو ” لوكوس ” إلا أن مصير هذه الشخصيات ليس هو الأساس الذى يقوم عليه العمل المسرحي ، وإنما يطرح السؤال هذا البطل مشكلة اجتماعية تعنى المجتمع ككل ومن ثم يفقد البطل الفردي مكانته في مسرح بريخت” وهو عين ما يحدث في مسرحية سأموت في المنفى.
كما أن القضية في هذا العرض كما هو في المسرح البرييختي قضية قضية عامة تمس قطاعا كبيراّ من المجتمع.
وكما كانت مسرحيات بريخت تعكس قضايا الإنسان وصراعه المرير مع القهر والاستغلال، ولهذا نجده قد قام بتعرية أساليب الاستغلال والاضطهاد على مختلف المستويات نجد هذا الأمر قائم أيضًا في عرض غنام غنام فإنه يعري ظلم الكيان الصهيوني واضطهاده للفلسطينيين .
الأمر الذي يثبت أن مونودراما غنام لا تقدس الفرد كما في المونودامات الغربية وإنما تناقش قضية اجتماعية.
عربية الشكل والمضمون
وعلى مستوى اجتماعي آخر متعلق بمشاهدي العرض نجد ممثل العرض ومؤلفه غنام غنام لا ينعزل عن جمهور بل يوجه إليه الحديث منذ بداية العرض ويطلب منهم التفاعل معه، ويطالبهم بإن كان لدى أحد منهم حكاية يود أن يحكيها فليتفضل، وإذا كان هناك أحد من الجمهور يود أن يشاركه في التمثيل أو الغناء فإنه يرحب بذلك، ففي العرض ليست هناك أي عزلة اجتماعية، بل يخبر جمهوره في كل الدولة العربية التي عرض فيها أن القضية واحدة، كما أن غنام يحرص في عرضه على عدالة الرؤية التي توفرها الحلقة، حيث يلتف الجمهور نحوه بشكل دائري، كما أن دلالة هذا الشكل الذي يسمح بعرض النص في الشارع أو في أي ساحة مفتوحة يكشف عن اجتماعية هذا العرض، وأنه يريد أن يوصل رسالة إلى كل الناس مستغلا الميزة الاقتصادية في العروض المونودرامية التي لا تتطلب إمكانيات مادية قليلة مقارنة بالمسرح الحواري، كما أنها لا تحتاج إلى ديكور، فكل ما يحتاج إليه غنام غنام في عرضه هو كرسي، يكون تارة حقيبة سفر وتارة نعش، وتارة سيارة… بالإضافة إلى زي أسود عليه كوفية فلسطين الشهيرة رمز النضال.
صرخة ضد الظلم
وإذا كان من خصائص المونودراما التأكيد على عزلة الفرد واستحالة التواصل، واليأس من الحلول الاجتماعية، فأن مونودراما غنام غنام تسعى إلى التواصل مع الشعوب العالم كله لإيصال رسالة صرخة، ولكن صرختها ليست صرخة يأس وإنما صرخة تنبيه وتحذير ولرفض هذا الوضع الظالم، صرخة تشبه النهايات المأسوية في المسرح البريختي التي تطالب الجمهور بأن لا يقع في أسر الحبكة الدرامية ويرضى بهذا الواقع، وإنما يدعوه إلى التغير والثورة على كل ظلم، وعدم الاستكانة، صرخة ترفض الخنوع وتدعو إلى البحث عن وسائل لعودة الحق إلى أصحابه. فهي على عكس المونودرامات الغربية التي لا تطرح إمكانية التغيير الاجتماعي، فسأموت في المنفى تبحث عن وسيلة لمنع حدوث هذه المأساة وتدعو المجتمع الإنساني إلى السعي إلى حل، فالإنسان بطبيعته كما أكد علم النفس لا يرضى بالظلم منذ نعومة أظفاره، فكيف إذا عرض عليه ظلم بين واضح لا لبس فيه لشعب ما نقول أنه لا يسعى بعرضه هذا إلى رفع هذا الظلم؟! ولكن من المؤكد بعرضه هذا أنه يسعى إلى تذكير العالم بقضيته العادلة كي يتم إيجاد حل عادل لها تسمح للاجئين بالعودة إلى وطنهم وألا يصبح كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي حين نفي عن وطنه إلى إسبانيا ” أحرام على بلابـله الدوح حلال للطير من كل جنس؟ كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس”.
وكما في المسرح البريختي الملحمي وكذا في السير الشعبية والخطب وحكايات القصاصين، والسامر، يسيطر السرد على نص غنام، وهو أمر أيضا مألوف في المونودرامات لكنها تكون عادة بها منولوجات داخلية يتحدث فيها البطل مع نفسه أو لا أشخاص متخيلين، بينما في عرض “سأموت في المنفى” يروى غنام سيرة أسرته أو المشاهد الأكثر تأثيرًا فيها، يتقمص فيها دور والده حيانًا، والدته، وإخوته، والحفار، وأصدقائه، ويجري حورًا راقيًا، يكشف عما يشعر به كإنسان لاجئ، ينتقل من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان بسلاسة شديدة، يمسرح حكاية في لوحات منفصلة كل لوحة منها تكشف جانب من جوانب حياة لاجئ فلسطيني، تعكس حياة ومعاناة كل اللاجئين الفلسطينيين، عمل يكشف عن قيمة الحجر لدى كل فلسطيني تحول إلى أداة مقاومة تحارب أعتى الأسلحة، توضح قيمة التراب، تبرز الذاكرة العصية على الاختراق التي تتذكر كل شبر في الأرض التي سلبت منهم ومنا.
من أجل الجماعة
وكما هو معروف تسمح المونودراما للممثل المسرحي أن يبرز إمكانياته التمثيلة حيث ينفرد بالجمهور لمدة ساعة، وهو ما نجح فيه غنام غنام الذي عرض سيرته بأسلوب تفاعل معه الجمهور بشكل كبير، منتزعًا منه الآهات والحزن تارة، والضحك والحنين والحماسة تارات أخرى.
وبشكل علم فكل هذا إن دل على شيء فسيدل على أن مونودراما غنام قد خرجت من مشكاة شرقية عربية لا غربية ولا أوروبية، خاصة مع شغف غنام غنام بأشكال الفرجة العربية الشعبية وولعه بها، مما جعله يغترف منها مسرحه ومونودرماه العربية التي تختلف في مضمونها وحينًا في شكلها عن المونودراما الغربية، فإذا كانت المونودراما الغربية ولدت في أحضان الفردية، فإن مونودراما غنام نمت في حضن الجماعة تعبر عن همومهم وقضاياهم، مثلما كان يفعل راوي السيرة الشعبية الذي كان يروي سير أبطاله المنتصرين في أحلك الظروف بشكل فردي ليعبر عن آمال الجماعة في الخلاص والأمل في مستقبل مشرق وأفضل، نعم كان محقًا غنام غنام عندما يتساءل في بداية كل عرض من عروض مسرحيته “سأموت في المنفى.. بدل فاقد” فهو يدرك أنه يقدم مونودراما مختلفة عما هو سائد يتحدث في فرد واحد كما في المونودرامات العالمية لكنها تختلف عنها في مضمونها، ورسالتها في مونودراما نابعة من البيئة العربية وأشكالها الفرجوية الشعبية وليست مجتلبة من الغرب؛ لذا لامست قلوب كل من شاهدها لأنها ليست غريبة عنه لا في شكلها أو مضمونها.
عبد الكريم الحجراوي – مصر